ليست الحياة جزيرة مهجورة ليعيش عليها الحب تحت ضوء القمر والنجوم
في "لقاء المنعطف الأخير" ترفض سارة ان "تكون صورة مكررة عن فتيات فلسطين اللواتي تهجّرن وما زلن مهجّرات! "سارة بطلة الرواية تتمحور حولها الأحداث في سرد فضفاض، نهري، طوفاني، يجتاز السدود فلا تعيق الحواجزُ سيره حتى يهدأ اخيرا في مصبٍّ مستريح.
هذه الرواية تنقلها الينا زينب صالح مثقلة بشباك مليئة بأحداثها المثيرة التي ما ان يحين فراغها حتى تعمر من جديد بحبكات تشدُّ انتباه القارئ فيتعلق بأحداثها التي تحبسه في أجواء دافئة يخاف ان تفلت منه.
هذا ما استطاعت ابنة الجنوب أن تنقله بواقعية تهزّ الضمائر وتلفحها بالسياط لتُنبتَ من جذور الأرض هالات من الكرامات والأمجاد تعجز الاكاذيب عن لفلفتها بالمكر والخداع.
فابنة الجنوب تباغتنا بجرأتها في تفصيل احداث ترسم فيها صورا حية وصادقة لتاريخ نشل جبهة الصمود من بؤرها المنسية لتقف على عتبات فجر ابيّ يتماهى بمخاض جديد لولادة مجتمع جديد. فالأعراف والعادات والتقاليد تتماسك، بمحاولاتها، على شفير هاوية، وتحاول أن تصمد علّها تثبت فلا تهمي. فهل تستطيع تحرير العادات الموروثة او غسل ما امكن من آثارها كوصمة العمالة التي تشغل، بمد وجزر، حيزا كبيرا في روايتها، أو انها تبوء بالفشل لأن الحصرم الذي أكله الآباء لا يزال عالقا باضراس الأبناء...
تقول والدة الشهيد لزوجها الحاج الذي يرفض زواج ابنته من طارق المقاوم بسبب عمالة والده:
ــ لا تقل اخت شهيد!! لم يستشهد ابني كي تفتخر اخته به! بل لم يذهب الى المعركة كي تتاجروا بدمه في سوق الألقاب الاجتماعية! لن اسمح لكم بالمتاجرة بدم ولدي!! لا أريدك أن تلطخ يديك بالظلم!
_ وهل ترينني أقتله! هل أمسك بيدي سكيناً!
_ كلماتك تؤلم أكثر من الآلات. نعم انت تقتل طارق لحساب عمالة والده. انا لا أرى في الحياة ما يستحق ان تقتل من أجله يا حاج..".
يا لها من جرأة تبثها جنوبية مؤمنة محافظة.. انه قلب الام، عندما يلامس غبارٌ ربيعيٌّ جفنَ ولدها، لا بد ان يصرخ ويتأهب للدفاع مهما تكن نتائج المعركة.
صحيح ان الحروب تلغي الكثير من التقاليد والعادات الموروثة لكن بعضها يبقى مترسّخاً في العقول حتى زمن، قد يكون على خطوات، تسيطر فيه المرأة بذكوريتها المتسلطة على مجتمع بدأت فحولة رجاله تتلاشى رويداً رويداً، هذا، وان كان عصيّاً عليها في مطارح لا تزال موسومة بالخوف ومحروسة بالإيمان ومتجذرة بتراب الوطن.
في اكثر اقسام الرواية، محاولات تعمل عليها الكاتبة، إمّا مباشرة وإمّا مداورة، بوصف يطيل السرد، لكنه يشغل القارئ بأحلام أبطاله ورغباتهم، وبلعبة ذكية في حوار مثير يشبك أحاسيسه بأحاسيسهم، فلا يملّ.
في القسم السادس، وكان الباص يبتعد وهو يرسم اولى الخطوط على خارطة آمالها وطموحاتها لم تكن القرية، المحطمة، المهشمة، صامتة بل كانت تناديها بهمسات حنون:
" لا تبتعدي... انتم حياتي وبدونكم لا يباع ترابي ولا يشترى!".
فتجيبها:
"سأعود يا قريتي.. أريد ان استبدل تحف اجدادنا... بتماثيل جديدة نصنعها نحن... لا أحب الاحتفاظ بكل ما فيك من أفكار وعادات، سأعود...، لكن بشرط أن أغيّر ما يجب ان اغيره!...".
بمثل هذه التصورات كانت زينب تضع هواجسنا على المحك، فهل تنجح بالتحكم بما هو مكتوب على صفحات القدر! القدر يتحكم بمصائر ابطال الرواية، يجمع حينا ويفرق احيانا، قدر غادر غاشم يولد في بقعة من ارض الوطن: "يا الهي! نصف ساعة فقط وبضعة كيلومترات قادرة على الفصل بين الحدود المذهبية لسكان يعيشون في وطن واحد؟!!!"، ومساحة الوطن لا تتعدى الكيلومترات...
القدر يفاجئ رشا وهي تتنقل طيعة، سباقة بما تمليه، ومسبوقة بما يُملى عليها. وكان من الطبيعي ان تنسحب من معركة طويلة أشعلت فيها فتيل التمرد والعصيان من دون ان تتخلى عن القيم الثابتة المتجذرة في سحيق اعماقها.
أستطيع القول إن لقاء رشا في المنعطف الأخير قد يكون بعيد المنال، لأن السقف الذي يرفض جمع المتناقضات في الأرض يأبى أن يجمعها في مطارح اخرى.
واقول ان زينب صالح، حاولت أن تصهر التقاليد في بوتقة واحدة مع عقيدة تؤمن بها، وهي الانفتاح الكامل على التواصل الطبيعي مع الآخر من دون رقابة او رقيب، فتصدّت لها قضية شعب يصفعه السوط من قريب وتعزّيه ملاحم البطولات من بعيد. قضية لا تستوعبها الملاحم والروايات وحتى الأساطير. أليست هي القائلة في القسم الواحد والثلاثين: "كل شهيد منهم هو عالم بحد ذاته. عالم غافٍ في احضان قضية.". فحتى يصحو من غثيانه، ستبقى القضية امانة بأقلام المجاهدات الثائرات امثال زينب التي فتحت ابواب المعركة على مصراعيها بتحرر وصفاء ذهن.