Tahawolat
عندما تقرأ ريمون شبلي نثرا أوشعرا تجد نفسك في غنى عن قراءة كثير من كتب الألمعيين البلغاء الذين تستعذب مراجعة نصوصهم أحيانا لما فيها من متانة لغوية مسبوكة بمعدن خال من الشوائب . فشاعرنا متخصّص بنحت اللغة لأنه شغوف بجماليتها ، لذا نجده بالغ الدقة في تركيب العبارة والتأني في تذويقها وتطويعها برهافـة حسٍّ وحلاوة نغم .ولكن نثرياته في شؤون الوطن ، وعلى الرغم من متانـة تراكيبها  ، تبدو غير بريئة من بعض الشوائب في مضامينها وتخصيصا  في تمويهٍ  وثوابت تحمل الكثير من هلٍّ  وعسى ... ما يدفعني الى العودة إليه في جولة أخرى علَّها توضح ما ثقب في الذاكرة وما في المخفي من  التمنِّي والترجِّي في إبداعه  ، مكتفيا الآن بفرز قليل من نتاجه الشعري وما أغزر هذا النتاج !
في شعره يسيطر الصفاء والبراءة والوضوح  فهو ينحت الكلمة قبل أن يصفيها من شوائبها كي تلبس حلّتها بجلال ووقار وتنساب مع موهبة صقلها تمرُّسُهُ الطويل بفقه اللغة فصارت طيّعة تسقط كحبّات لؤلؤ متجانسة في إيحاءاته ورموزه .
هنا أركّز على بعض قصائده لأن جرد إصداراته ، ومنها المنبرية في المناسبات الحميمة بكمٍّ وتواتر لا ينقطع ، يستدعي صفحات وصفحات من التحليل . فهو وعلى الرغم من غيابه في الفترة الأخيرة  عن مدّ المكتبة الأدبية بعطائه إلا أنه حاضر في كل مناسبة ملهِمة يفيض فيها إبداعا بنثره وشعره.
يقول في استهلال ديوانه  « وطن الجراح « :
كوبُ دمي شعريَ المعصور من بالـي /  إليكَ أرفعـه يا موطني الغالـي
حـَمَلْتُ جُرحَكَ في صدري فكان ذرىً / وليس شعريَ إلاّ بعضَ أثقالي .
هذا الاهداء الجميل بثنائيته الرائعة ، توحي طلاوة نغمه ، ان النظم موهبة تسقط على الشاعر من اللاوعي حتى في الرباعيَّات التي لا جهد في ايجاد قوافيها .
ولكن ، وبعد قراءة قصائد ديوانه هذا ، ينقلنا معه الى مرابع عبقر فنشعر أن رائيها كان أبدا حاضرا يضخّ الوحي عليه ويلقنه شعرا مليئا بالطرب ، شعر نهري في انسيابه كجداول لبنان لا تعسّر ولا وعورة في مسالكه ولا خلل بإضافات أو جوازات . 
يقول في قصيدة بعنوان « أرض من المجد « تذكرنا بفخريات بلغت أوجها في الشاعرية  والكِبَرِ لدى من سبقوه من فحول الشعراء :
أصخرةٌ أنتَ قدّت من ذرى المجد ِ /  أم ذروة الـمجد ضمّتها يد الخلد ِ
يا توأم الدهر ، يا اسطورة سجدت  /  لك العوالم تستجديك ، تستجدي
فجر التواريخ ، والحرف الذي انبلجت ، من نار كوكبه ، شمسٌ بلا حدِّ
ومن رثائية في قصيدة بعنوان  « بيروت ... تغرق في النار « يرقى الوصف الى قمة التألق :
فانشق ثغر المدى ... واهتزّ كوكبه / وسال صوتٌ من الأضواء ينطلق
وفي « الشتاء الغضوب « ببائية رائعة مكللة برموز شمس صيفية ، تفيض أريحيته ببوح صادق لمأساة الحرب التي عاشها اللبناني في وطنه وخارج وطنه :
ماذا تقول لنا  في سحّها السحب  /  والشمسُ ، بين ضجيح الموج ، تنتحبُ
والبرق ينهش لحم الجو في غضب ٍ /  والرعد يزأرُ ... والأرياح تحترب ؟
يا أيهذا الشِّتا ، يا ضاربًـا بيدٍ  /  من الحديـد ، ربيعًا ليسَ يضطربُ
لا تحاول ، ، وأنت تقرأ ريمون شبلي ، أن تكمش عبارة ، وإن مبتكرة ، خارجة عن صحيح العربية
وسلامتها وليس لها جذورٌ لدى كبار الشعراء ، وبالأخص في العصر العباسي .
أمّا الأوزان الحديثة التي نظمها واعتمد فيها النوطة الموسيقية ، دون التفاعيل التقليدية ، فقد طغت على قصائدها هواجس مثقلة بالأوجاع ، مشاعر إنسان عاش مأساة الحرب وتفاعل معها ، فجاءت عناوين قصائده متماهية مع مضامينها ، فمن / زمرّدة / الى / سيوف الخريف المعربدة  / وضمير الكبرياء ووطن الجراح / وأموت /  يقول في إحداها بعنوان « فقير الحرب « :
على رصيف البؤس ، لمّا يزلْ  / ينتعلُ الأرضا
من نفق الحرمان ... ما يبتغي / من يعلك المرّ
من ساخر الحياة ... كم درهمٍ / يذلّل القهرا ؟!
إنها قِمةُ الإبداع  في  وصف الفقير البائس فكأن البؤس بكلّ أشكاله كان مصدر الهام لشاعرنا  ولم يستطع الحبّ أن  يجاريه ولا ترانيم صلواته البريئة ، لأن ريمون شبلي :
| على طباعه / تطفو شرارة بريئَهْ / ولغير ربّهِ وأرضه والشعر والكتابة لا ينحني جبينه /
هواجسيٌّ قلق ٌ / يحمل في جناحهِ مصباحهُ / وفي جراحهِ أفراحَهُ / يحمل في عروقه السلامْ /
والشمس  والغمام ْ ويحملُ الرجاء . |
هذا الشاعر وغيره من المبدعين عتِّمَ عليهم لأنهم كانوا خارج البث الإعلامي الذي  صنع ولا يزال يصنع الأدباء والشعراء . وما هم ما دام ، في آخر المطاف ، لا يصحّ إلاّ الصحيح ، وما دامت الوسيلة عاجزة عن إيصال العاجزين الى القمم . فكم من مدارس وجمعيات وعصابات لم تفرز سوى قلة من الكتاب أقبل عليهم القارئ ونبذ الآخرين !
أخيرا ، لا بدّ في تحليل شاعر كثير العطاء ، جبلت قريحته بأصالة النغم حتى صار النظم على لسانه فيضا جارفا لا يتعثر ولا يكلّ ولا يستريح ، لا بد  من كشف الغطاء عن إبداعه في عودة  تفيه حقه. 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net