تكشف لنا الناقدة اللبقة ماجدة داغر، بأسلوبها اللبق، عن أسرار تربط حداثة المحدثين عندنـا ، بموروث حداثيٍّ مستورد ، فتتسلل معه بإضاءات تكشف عن بصماتهم ورياداتهم ومدى توارد أفكارهم مع بعض شعرائنا المطلقين الأحرار، وأقول بعضهم إذ لا يجوز التعميم وللحديث صلة بما سأقول في سياق لاحق.
اختيارها لنقداتها لم يكن مقررا أو مدروسا أو مقيّدا بمعيار أدبي أو فني كما تقول. فهي وإن كشفت أحيانا عن أسرار خاصة وتقيّدت بتوثيق ما ، فإنما تفعل لتوضيح ، لا مفر منه ، يتطلبه التحليل لأنّ النقد يبقى بنظرها تنقيبا ممتعا يخضع لموهبة ذاتية متحررة من منهجية مقيدة .
وقد علّق جورج جرداق في صفحة الغلاف الأخيرة لكتابها «بيت الذاكرة والقامات العالية «مشيرا الى ابداعها المميز في كتابة النقد عن أولئك الذين يولون «اهتماما مساويا لاهتماماتهم الفارغة بالتحليل والشرح والتفسير ...»
وبما ان النقد الأدبي مزاجيٌّ ويتميز بالطرافة والإبتكار اللذين تخلو الدراسة الأكاديمية منهما ، فقد أضافت ماجدة إلى نقداتها لمسات تجمع الجزالة في تعابيرها الشعرية إلى وصف ممتع ومضمّخ بالأطياب وحريص على فرز حوائج الآخرين بأمانة دون مزجها بحوائجها وخصوصياتها. فقد عرفت كيف تلج بإستقلالية وتجرّد الى شخصيات قريبة إلى روحها بإختيار سليم وصحيح فتح الباب على مصراعيه ليدخلنا الى محراب ادبائها وشعرائها «حيث لا يعتريهم صمت ولا ينتابهم رحيل» .
من إنهيدوانا الى محمود درويش كان لتفعيل المزاجية دور واضح في كتابها . فهي ككل ناقد ، لا بد أن يأتي إبداعها مع من يرتبط وجدانها بوجدانهم ويتماهى مع عالمها الخاص بحميميَّة خاصة تجد مطرحها في بوح يطبع عطاءها ببصمات مميزة . لذا كانت المرأة هي المحور الأهم والقضيّة التي تشدها وتلصقها بالهدف الرئيسي في محاور الكتاب وبأولئك المختلفين في حياة من الإضطراب والنـزاع . وهذا سر من اسرار لمُعات ِالإبداع في اختياراتها وتفوقها في نبش قبور الخالدين العائدين من الأزمنة السحيقة .
عندما تتحدث عن انهيدوانا، تسخِّرُ حسَّها الأنثوي لخوض أول معركة بدأتها إمرأة من بلادنا في أقدم العصور وأقدم حضارة، تسخِّرهُ لتعلي شأن المرأة وجدارتها وتفوقها على شاعر نشيد الأناشيد الذي جاء بعدها في الأسطورة التوراتية .
«جمرة تكوّمت ليلا في المبخرة فولدت القصيدة الأولى» التي تولد مثل كل قصيدة بكلمات أولى يوحى بها، وتُسْـتَحْضرُ الأزمنة السحيقة وتستجلبُ الشاعرة من خَدَرِها السريّ الموغل في الإنسياب. هذا الخَـدَرُ، الذي اختارته الناقدة ككل اختياراتها من الكلمات التي هي سرٌ في ثراء العربية، ومعناه التشنج الذي يغشى الأعضاء وفتور العين والليل والمطر واشتداد البرد والحرّ وهي معان تتماهى جميعها بعبق بخور مذبح انهيدوانا وذروة إدمان نشوتها « مليكتي/ أنت الإفتراس كله في قوتك / جميع الآلهة العظام / فروا أمامك مثل خفافيش مرفرفة ... / يا ابنة الإثم ... / يا ملكة الجبل الذي امتنع عن تقديم الولاء لك / يبست أعشابه وصارت قاحلة / أنهاره جرت دما .../ تقرأ فتطرب وتأنس وتخشع وتنسى ما لحضور النغم الموسيقي وتأثيره في القصيدة الأصولية .والشاعرة التي تحدّثنا عنها هي أميرة «ميزوبوتامية» سبقت «فينوس اللاتينية وأفروديت الإغريقية وعشتروت الفينيقية ورفدت إلينا قصائدها المكتوبة بالسومرية قبل أربعة آلاف وأربعمائة سنة وشكّل اكتشافها في جنوب العراق وفي العشرين من القرن الماضي حدثا تاريخيا نصَّبها ملكة الشاعرات وأوّلهنَّ» .
لن أتمادى أكثر ، والمجال لا يسمح ، في استقراء آخر مع شاعرات وأديبات من القامات العالية التي اختارتهم الناقدة من العالم، وأنتقل إلى عالمنا مع أديبة لبنانية «زُفَّتْ الى النسيان وهي من الغائبين الذين هزأوا بالنهايات لأنها لا تدركهم وهم ...» وتستدرك الناقدة هنا معتذرة ، لتقول «عفوا ! هنَّ ، اللواتي أسدلن على القلم ثوبا مكشوف الصدر للحرية ، ونحتن له خصرا رفيع الكلام ، ومددنا فيه عنقا يتعطّر بشال من الغمام» كثيرات هنّ اللائي تفوقن بأنوثتهن على النهر بهديره وفحولته لكنّ مي كانت من المناضلات الشهيدات في « زمن لا يتساوى فيه الرجل والمرأة» وقد تناثرت مثل شعاعاتها كأوراق الخريف في وجه عاصفة هوجاء في أوطان كانت لا تزال محافظة على التقاليد المجحفة بحق المرأة فلم ينقذها وقوف الأصدقاء إلى جانبها الذين غمروها بعطف لم تشفع به نهايتها الحزينة الموجعة.
ومن عالمنا الذكوري ترفد لنا محمود درويش ، شاعر من الأرض السليبة تتماهى معه بفيض من الإنتشاء في ظلال رثائية تحبكها بحكاية رحيله وبديوانه الأخير فتخشع لذلك الهادر بكلمات رهص فيها مدارات القصيدة المفتوحة رافضا لها أية نهاية فعلقها على اللانهايات في أجنحة الفراشات .
أمّا ما كتبته عن أمين الريحاني دون أن تحمِّل نفسها عناء قراءة « قلب لبنان « فكان ألصق بكتابة السيرة منه الى النقد . وحدث ان وقعت في تحيّز وجب التلميح إليه وإن لم يؤثر في قيم قاماتها العالية.
قالت « تمعن في الإصغاء ، فتردَّدَ إيقاعُ حوافر فرسه نورا وهو يمتطيها ذاهبا إلى بكفيا» .
المعروف عن الريحاني انه ، وبعد وقوعه في الحرم، كان يمتطي متن فرسه نورا صاعدا إلى بيت شباب مسقط رأس والده ومسقط رأس جدّه فارس أنطون البجّاني ( وليس الريحاني ) وكانت الضيعة كما سماها هو تعرف يومها بالقاطع ، وكانت زيارته تقتصرعلى أصدقائه من مشايخ آل الحايك الذين تحدّوا رجال الدين ووفروا الحماية له ( قلب لبنان ـ فصل من جزء في الكتاب بعنوان – في ظلال الجور ) .
كنت أتمنى على ماجدة أن ترفع الصوت عاليا ، بدل إشارتها هذه ، لتطلب من المسؤولين أ يًّا كانوا أقرباء أو أنسباء أو متنيين غيورين أو حكوميين أن يشيلوا هذا العملاق من منزله المنسيّ تحت الطريق ويقيموا له متحفا كمتحف جبران يكون لائقا بإرثه العظيم وبمتن أعطى لبنان والعالم العربي كبار الشعراء والمفكرين والفنانين .
أخيرا لا آخرا ، أقول ان أهم ما رفدت الينا من روائع الذكورية العالمية والذي لا بد ان نتوقف متهيبين لعبقريته ، شاعرا تحرر بجنونه وغاب في البعيد ومن خارج حدود العالم لينهر كل سفلة العالم باسلوب مبتكر لم يعرفه الشعر من قبل .
تشارلز بوكوفسكي ، هذا الشاعر الغريب الأطوار والمتمادي حتى الجنون ، و الذي «حاول تقريب النصّ من ذروة المشاعر الإنسانية الطالعة من تجريدها ، في جملة غنائية وجدانية ...كان يهزأ بالقالب الذي يوضع فيه الشعراء ، محاولا قلب المشهد في تقديم آخر متفلّت من القوالب الجاهزة واللغة العادية والمستهلكة ، تماما كما فعل شعراؤنا «رموز مركبة ومحاكاة بإشارات شاذة مختلفة وخارجة عن المألوف :
«\وحوش في رشاشة الملح / ومطارات في ركوة القهوة ... وتحت البلاط ملاك مخنوق / مع منخرين مشعَّين ... الظلال ليلا مخلوقات لم تولد بعد. اسلوب وجد تربته أيضا عندنا وحددته الناقدة بتوصيف دقيق «أنه يطلق الحياة من هامشيتها الى ما يشبه الواقع المغمّس بوحوله وقذاراته ومهملاته وضعفه وركاكته . « وكأنّ ما تقوله عن شاعر ولد في المانيا ينطبق حرفيا على الشاعر شوقي ابوشقرا وعلى ما كتبته مؤخرا منغانا الحاج في برهانها الخائف ، لكنها لا يمكن ان توجه اليهما تهمة ما لقب به بوكوفسكي على أنه « ملك الأفواه البذيئة «او ان تتهمهما بالتقليد أخيرا ، وعن كتاب في النقد لا يُقرأ فحسب بل يُلتهم لتنوع طروحاته في مواضيع تشدّك بطعم جديد وملامسات مغرية ، لا بدّ من إشارة الى تبني الناقدة آراء ناقد ، وإن تلميحا ، بذكر بعض نقداته لمن تعتبر اسماؤهم قمما أدبية كفؤاد افرام البستاني والعقاد وولي الدين يكن وغيرهم، ومارون عبود الذي نعنيه وتبنته بوضوح ، كان صاحب « تقنية عالية ... في تبيان العورات والسقطات» . حمى الله ادباءنا من رشقات كرشقاته وعزّز خطوات الناقدة في جهدها لتقويم الإعوجاج أينما وجد وإطفاء المباخر عندما تصبح روائحها مضلّلة وخانقة.