Tahawolat
هدى خوري أول أنثى تخطو خطوة جريئة مع فحول الشعراء،  منذ خمسة عشر عاماً،  فتصدر كتاباً نثرياً تدمغه، وبكل جرأة،  بكلمة شعر تحت عنوانه  "تدفَّق فيّ أيها البحر" وعلى صفحة غلافه. إنه الشعر ولن يقنعها أحد بأن الشعر هو بالأوزان لا غير وأن النثر لا يرقى الى مصافي التعبير الشعري.
جملٌ نثرية لا يخلو بعضها من الإيقاع الجبراني ومن إبحار عميق المضمون ينسيك إيقاع النظم في الشعر الغنائي كما آل إلينا بأصوله. إنه كالموج الهادر وكأصداء الصمت وسط الأصنام وفي مجاهل الحب والدموع والدم حتى قيامة شهادة من تحت الركام والأنقاض.
الوحي في قصائدها نسيج واقع تحكمه بصلابة وتتحكم به لأنه واقع معاش مع الحب والأرض وأشخاص بعضهم  غاب ولا يزال حاضراً  في ذاكرة الأهل أو الجار أو شجرة تفيأها، فهي لا تخضع لرئيٍّ عندما تكتب بل تُخْضِعُ الرئيّ واليراع والقرطاس والمداد في آن واحد لأصابع تحفر الأحرف بإزميل مُتَسلِّط.
لقد شغلها الصمت منذ اللحظات الأولى عندما أبحرت في أولى قصائدها ولم تجد مرساها فضاع ذاك الرجل الذي "عهروه وشوهوه" وغاب في دائرة الصمت، في لحظات السكون، وفي وهم سيبقى ماثلاً أمام عينيها لكنّه لن يكسر لها جناحاً. فالنبض نبضها والزمن زمنها، فهي تقول "لا" ولن تستسلم أبداً لأن الهزيمة عهر عربي!
تقول عن ذاك الرجل الذي حملها جراح يديه:
وكان صباحٌ نورهُ باهت / افتقدتك الشرفة، سألتني عن رجلٍ كان هنا / التفتُّ ناحية أقماري/.
كانت تحتجب وراء الغموض / واخترق سمائي برق غيابك المفاجئ، / وشقّت أولى الرعود صمت خوفي / فتدفقتُ طوفاناً ... من حب/.
وتدور حكاية الرجل في نفس الدائرة، دائرة  الصمت بهواجسه ولا تتخلّى عن تمردها: / لا تضع عرفاً فوق رأسك لتصيح / فليست لي أذن دجاجة / ولا قلب دجاجة بين أضلعي/.
وتباغت أولى الرعود صمتَ خوفها ويتقطر الصمت في قصيدة "يا صمته" فإذا  غصّة واهنة تفيض فتغمر كل التلال وتملأ أوديتها وإذا بالصمت يشوّه الصورة في المرآة وتتأجج جمراته تحت الرماد لكنه وهو الخافق في صدر الوطن يبقى جذوة قيامة / لشعب صمته أبلغ من اتساع كل اللغات /.
هدى خوري الشاعرة  يتزاوج صمت عراكها الطويل مع مرّ الحياة وحلوها مع صمت  ينزف الألم  "صمت" كصمت الشعراء "صمت" ينظر ويرى، وإذ تتحرر منه ومن دورانه، تعرج الى ديوانها الثاني  بصلاة "وسط الأصنام" ، هذا الديوان الصادر عام ألفين وبعد ثلاث سنوات من صدور ديوانها الأول،  أعتبره علامة فارقة في مسيرة الشاعرة وفي قفزتها بالشعر المنثور الى إبداعات لم تفتح النوافذ على رموزها بعد.
قصائد هذا الديوان  مكثّفة، مصفّاة على هداوة، وسابقة برمزيتها الهادفة بعبارات قد نجدها اليوم مبتذلة عند البعض من شعراء النثر  ليس لأن هدى خوري كانت السبّاقة بل لأن تطلعاتها ارتكزت على فهم عميق للأبعاد الماورائية التي زاوجت فيها العلم والتجارب الحياتية بكتاباتها الشعرية:
نرصد من عباراتها الرمزية في قصيدة الصلاة، فاتحة ديوانها: / دعني أغسل بالدمع إثم دمعي / دعه يجري حتى النضوب / دعه يجري عسى أتقيأ العقم/.
وفي مدٍّ ما ورائيٍّ تقول: وجدتني مفرغة مني/ بلغت ما وراء المسافات / عارية مني أدخل بوّابة الدهشة/.
أفتح عينيَّ على وجهك يشعُّ بالبهاء... / تلتمع عيناك، أرض جديدة!/ حلم وليد!/ جذورك تضمُّ ترابي/ تشبَّع بالدمع يا ترابي/ عسى أن يتضاءل ألم الإنسلاخ. / تشبَّع بالدمع يا ترابي قد تخفف الطراوة أوجاع الجراح/.
حبة الحنطة اليابسة تستنبتها مواسمَ فيض فيسقط الموت في العدم. وفي شوق لاجتياز الصحراء عند الظهيرة والنباتات الشوكية ترصد مرورها والعقارب والأفاعي تترصد بها كان لا بد من العبور، بلا رداء بلا وشاح، بجنوح المصطفى وجرأة المبشِّر بإيمان جديد. والصحراء قدر مكتوب يؤلف من صدى صمتها حكايات لا بد من اجتيازها في هجير الظهيرة لأن ليل الصحراء يقطنه الأموات وهي تجنح الى الأنوار السماوية، الى الروح الحي لتبدع الحياةَ بالحب.
وإذ يشدها توق العبور قبل غيرها إالى الأبعد، الأبعد من الفرح وما تسع السماء، تدخل الصمت والعالم من حولها يلهث بالصخب.
تختم الشاعرة ديوانها بلقاء كوني أبعد من الماوراء:
/ نجمة ترسل إليّ نورها في صفاء الليل البعيد / وفي كتاب الكون أقرأ لحظةً عُمرها آلاف السنين الضوئية / أسمع الكائنات تشدو أزمنتها / وأجدني مغمورةً بسعادةِ أن أكون /
ومن الصمت الدائر في ديوانيها إلى صمت شعب مقاوم يُبْـعَثُ في المخاض ولا يترك فرصة لسماع خطواته التي يسبقها الإنفجار الكبير، إنه "صمت سنا"  ديوانها الثالث الذي صدر بعد  عشر سنوات من تاريخ صدور ديوانها الأول.
صحيح انه صوت الجنوب بامتياز، صوت ثورة مقامها الجنوب وقبلتها الجنوب، لكنّ بوح صمته المبحر في هدير الموج "يتداعى وراء رمال السكون" لكنّ الشاعرة وقد آمنت "بالإنفتاح حتى اعتناق الدهشة"، تفاجئنا برائعة من روائعها: وقالت الجموع "مطر".
 بالغباء صلبوا المسيح وبالغباء ينحر الشهيد مرتين والجموع تغسل أيديها وتقتسم الثياب. أمّا المجدلية التي زرفت الدموع الغزيرة ندامة إذا بها تتعزّى بعهرهم فتنسى عهرها قبل لقاء المخلص فتبصق عليهم أمام عدسات المصورين.
صمت سنا صرخات مدوية في أوطان يتصحَّر أطفالها ويتصحّر تاريخها ولن يبقى فيها سوى واحة واحدة تنبعث من السراب العصي وتلم البذور من الشتات وتحفظها أمانة في ضمير المؤمنين الصامدين.
صمت سنا صلوات تقرّب السماء من الأرض وتعيد التراب المبتور الى ترابه ونركع لنصلي و"القِبلة في الجنوب، والعقل في الجنوب والروح للجنوب والقُبلة للجنوب" وهل يضيع المولـود الجـديد؟
و"مخاض ولادته صرخة جنوب"؟

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net