Tahawolat
كرمت الحركة الثقافية في آخر أيام معرض الكتاب في انطلياس بدورته الحادية والثلاثين، احد المبدعين من رواد الموسيقى في جيلنا الأب البروفيسور ايلي كسرواني وقد حُضِّرَ للحفل ما يليق بعبقرية هذا الفنان الذي اعطى ويعطي الموسيقى صفوة ابتكاراته وهو يفرضها على المستمعين بمهابة المتسلط، لأن ثقته بفنه بلغت الأوج بعطاء لا تشوبه شائبة سوى في ما يعتبره هو بلوغ القمم المستحيلة في عالم معزول عن الأرض. فمن هو هذا الانسان المتنسك في صومعة فنه وهل يستحق هذا التكريم المهيب وبخاصة في أجواء يبدو ان الموسيقى فيها قد بدأت تحتل مكانة الكتابة والكتاب في الصراع القائم مع تكنولوجيا العصر. وهل كان صدفة اختيار الأب بديع الحاج الأديب والدكتور في العلوم الموسيقية، وبإلحاح المكرَّم، ليلقي كلمة تعريف تضيء بشمولية دقيقة على افق جديد ينشر الفرح والبهجة في ربوع تعاني الجفاف وربيع الطبيعة الغاضبة. الأب بديع، المتبحر بالعلوم الموسيقية والناشط الدؤوب على جمع تراثنا المجيد بكتابات عميقة متناهية الدقة وصحيحة المراجع، يحدثنا عن أستاذ تربطه به علاقة تعود إلى العام 1994 وكان عضواً في جوقة ميزوبوتاميا الموسيقية التي أسسها الأب كسرواني. وكان لا بد ان ننقل من كلمته بعض الفقرات بالكامل كما سجلناها لما تحمله من شمولية لعلم صار صناعة بل من أهم الصناعات التي أتقنها اللبناني بمواهبه الفذة وجعلته يحتل الصدارة في العالم بعطاءاته الموسيقية المميزة.
الحاج:
إذا أردتُ التكلّمَ عن الاب ايلي كسرواني أضيءُ على شخصٍ أنعمَ عليه اللهُ بمواهبَ متعدّدةٍ وثمينة، وزناتٍ تثمرُ يومًا بعد يوم في مجالاتِ الفنِّ والادبِ والفلسفةِ واللاهوت.
الأب ايلي كسرواني العالِم الذي لا يستكن: نعم. عرفت الاب ايلي باحثًا متعمّقًا لا يقبلُ ولا يرضى بالجوابِ السّريع وغيرِ المبنيّ على الحقائقِ والبراهين. ينزحُ الى العمق، يتبحّرُ، يحلّلُ، يشكُّ حتى يصلَ الى اليقين.
 
الاب ايلي المنهجيّ: من خال اشرافِهِ على دراساتِ جامعيّة وأكاديمية، يكتشفُ الطالبُ الدقّةَ في طرحِ المواضيع والاشكاليات وكيفيةِ معالجتِها وايجادِ الاجوبة عبر اكتشاف الطريقِ التي توصلُ الى النتائجِ المقنعة. الاب ايلي والحداثة: كان الاب ايلي من اوائلِ الذين تعاملوا مع الحاسوبِ اي الكومبيوتر وعرَفَ كيف يدخلُ عالمَهُ من البابِ العريض، وهو على اطاعٍ دائمٍ على كلِّ جديدٍ في مجالِ التكنولوجيا والمعلوماتية. الاب ايلي الموسيقي وفنّ السماع:
اذا تكلّمتُ باسمِ من عايشَ الاب ايلي خالَ تلمذتِهِ وسنيّ تنشئتِهِ، لقلتُ بأنه كان ذوّاقةً في سماعِ الموسيقى الغربية منها والشرقية. كانَ ينهلُ من تراثاتِ منطقتِنا الغنية إن كانت سريانية او مارونية او لبنانية او عربيّة. فكان يسمع ويسمع ويسمع، ويخمّرُ هذه التراثات في بوتقةِ فكرِهِ وإحساسِهِ المرهَف؛ هذا ما ساعدَهُ فيما بعد في صقلِ ألحانٍ، أقلُّ ما يُقالُ فيها بأنها روائع أغنَت الكنيسةَ ولبنانَ والعالمَ بأجملِ الالحانِ والاناشيد والمزامير. يطمحُ الاب ايلي دوما الى الكمال ويحثُّ من يعملُ معه، من باحثينَ وفنّانينَ ومغنّينَ ومنشدين، على التّوقِ الى هذا الكمال. فهو فنّانٌ بكلّ ما للكلمةِ من معنى. يحبُّ الجمالَ في مختلف الفنون. أليس اللهُ هو الجمال ومعطي الجمال؟ الاب ايلي كسرواني العالِمُ الموسيقي: الموسيقى موهِبة. والموهِبةُ نعمةٌ من الخالق يهبُها مَن يشاء، والموهِبةُ كالنبتةِ الغضّةِ لا يُستفادُ منها إلاّ إذا سقَيناها وتعهدناها بالرعاية والاهتمام. يزرعُها اللهُ في الانسان ويتركُ لهذا الاخير حريّةَ
التصرّفِ في تنميتِها وتوجيهِها حتى تصلَ الى اعطاءِ الثّمر. موهِبةُ التلحينِ باديةٌ وجليّةٌ عند الاب ايلي، لكنّه لم يكتفِ بهذه الموهِبة، طوّرَها، شذّبَها، نمّاها عن طريق العلمِ والمعرفةِ والسهرِ والعملِ الدؤوب. الأب ايلي الملحّن: «وحّدتَ يا رب » كافيةٌ لتقولَ لنا
مَن هو هذا الانسانُ الذي استطاعَ من خالِ لحنٍ مبنيٍّ على السَّهلِ الممتنَع ان يدخلَ كلَّ كنيسةٍ مارونية في لبنانَ وبادِ الانتشار. والاب ايلي هو من أعادَ استعمالَ المقاماتِ الشرقيّة في ألحانٍ ترنَّمُ في الكنيسةِ المارونية، مثل البياتي والراست وراحة الأرواح والكورد وغيرها. وكان ذلك سنة 1974 مع اسطوانة «كسرة خبز طوبى للمدعوّين، نستغفرك، هلمّ تعال، أقسم الله وغيرها من الروائع التي تربّينا عليها وأحببناها. أناشيد ومزامير تبعث فينا الفرح وتضفي جوّاً من القداسةِ والصاةِ والتأمّل. ومن بعده كرّت السبحة مع سيادةِ المطران بولس روحانا والاستاذ جان عون وغيرِهِما.
الاب ايلي واختراعُه لمقاماتٍ موسيقيّةٍ جديدة: تعتمدُ الموسيقى الشرقيّة، السريانيّةُ منها والعربيّة، على السلّمِ الدياتونيّ غير المعدّل. هذا ما يعكِسُ غنىً لحنيًّا، قائمًا على الابعاد غير المثبّتة. استثمرَ الاب ايلي هذه الامكانيةَ بإبداعٍ حتى وصلَ، لا الى تحليلِ هذه المقامات وحسب، بل الى ابتكارِ مقامات جديدة. وأعطي مثا على ذلك مزمور « 88 صخرتي هو وخلاصي ». لحن هذا المزمور على مقام راحة الأرواح المكوّن من جنس سيكاه على العراق وجنس حجاز على الدوكاه. وجنس الحجاز على الدوكاه فيه الدرجات التالية: ري، مي بيمول، فا دييز، سول. ما قام به الاب ايلي:
 
اولاً، إدخال جنس سيكاه على جنس سيكاه آخرفحصلَ على «سيكايين » في مقام واحد. ثانيًا، ادخال مقام السيكاه الهزام على مقام راحة الأرواح. ماذا فعل؟ بدّل درجة الفا دييز بدرجة الفا الشرقية التي تعرف بنصف دييز. لم يخسر احساس جنس الحجاز وربح جنس سيكاه على درجة الفا نصف دييز. كما مكّنَهُ ما بين درجتين شرقيّتين، ما يسهّل في كتابةِ التوافقِ الموسيقيّ ) harmonie ( على الدرجات الشرقيّة. سنستمع لهذا اللحن بعد كلمتي مباشرة . ابتكارُه واختراعُه لاختصاصٍ جامعيٍّ واستنباطُهُ لتعبيرٍ لغويٍّ يُطلَقُ كاسم على هذا العلم، الا وهو ميوزي
 
ميديا لوجي – علوم الموسيقى والميديا – كما صدرَ الاسمُ في الجريدةِ الرسميّة اللبنانية تحت رقم 3066 بتاريخ 2003 / 6/ 5 وسُجِّلَ واعتُرِفَ به كعلم في دولةً من دول العالم. وهذا الاكتشافُ لمهمٌّ جدّا كونَه163 يجمعُ ما بين علومٍ مختلفةٍ مكمِّلةٍ لبعضِها البعض في عصرِ العولمةِ الذي نعيش، فكان خيارُ الاب ايلي خوضَ خضمِّ هذه العولمة ليربحَ العلم. وعلمُ الميوزي ميديا لوجي عصريٌّ بامتياز ونحن في زمنِ الميديا اي وسائلِ الاعام والاتصالِ على انواعِها كافة، وما الموسيقى الاّ النَّبْضُ الذي يعطي الحياةَ لهذه الوسائل.
ابتكارُ الاب ايلي تجسيدٌ ومنهجةٌ وتعميقٌ وتنظيمٌ للعلاقة بين هذه الوسائل وبين الموسيقى. يشرح الاب ايلي شخصيًّا هذا العلم بقوله حرفيًّا: «ميوزي ميديا لوجي هي السيفُ والتّرسُ معاً بالنسبة لي، يجب تحدّي العصر بالروحِ الخلاّقة، سبَقَتْنا الميديا إلى فرضِ نفسِها علينا، وصرتُ أفكّر كيف تنصبُّ علينا الميديا بأفكارِها وكيف انتشرت الفضائيّاتُ في العالم العربي كلِّه. ولاحظتُ انّ الحواراتِ التي تتمُّ مع مديري البرامج ومعدّيها في المواضيعِ الموسيقيّة هي اسئلة وإجابات ينقصها العمقُ والمعرفةُ في المجال الموسيقيّ. فقلت إنّ عليّ واجبًا، الواجبُ هو أن أخلق انا بنفسي مؤسسةً يمكن أن يدرسَ فيها الإعلاميُّ الذي يريدُ أن يتعاطى العلومَ الموسيقيّة .
 
 
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net