Tahawolat
سامر محمد إسماعيل

 
تشكّل الدراما التلفزيونية في سورية فسحة بصرية للإطلالة على واقع حال العيش، حيث سجلت هذه الدراما مواقفاً عدة من الأزمة المندلعة منذ 15 آذار 2011، مقتفيةً آثار هذه الكارثة الوطنية على أكثر من صعيد، لكن اللافت في إنتاج هذا الموسم هو هذا الشرخ الذي أصاب المحترف الدرامي السوري، تاركاً البون شاسعاً بين أعمال تم تحقيقها خارج سورية، وأخرى أصر أصحابها على تسجيل شهادتهم التلفزيونية من داخل البلاد، إذ كان هناك ما يشبه  ماراتون إنتاجي شهدته عجلة الإنتاج الدرامي بين أعمال تم توقيعها باسم المعارضة، وأخرى حملت بصمة السلطة وطريقة تناولها للحدث المأساوي على امتداد الأرض السورية، ففي حين اكتفى البعض بتصوير الأثر الاجتماعي والاقتصادي للأزمة على السوريين؛ فضّل البعض الآخر الذهاب بعيداً إلى شبه تبني لوجهة نظر أحد طرفي الصراع الدائر منذ أكثر من عامين بين المعارضة و النظام؛ مما يفتح الباب عريضاً على تساؤلات كثيرة تنقل الدراما السورية هذا العام من مستوياتها الترفيهية الاجتماعية للمواسم الرمضانية، إلى مستويات سياسية يحاول القائمون على هذه الأعمال الانحياز لطرف على حساب آخر، وذلك عبر وسيلة المسلسل التلفزيوني الذي يبدو اليوم وثيقة إضافية عن حقيقة اللحظة الساخنة التي تشهدها البلاد منذ قرابة عامين ونصف العام.
سجال
هكذا شاهدنا في موسم رمضان لهذه السنة ما يشبه سجالاً درامياً بين كل من مسلسل "تحت سماء الوطن" لمخرجه نجدت إسماعيل أنزور ومسلسل "منبر الموتى" لمخرجه سيف الدين سبيعي وكاتبه سامر رضوان، فالعمل الأول الذي ألّفه مجموعة من الكتاب على امتداد عشر ثلاثيات يتحدث في مجمله عن "الإرهاب" الذي تتعرض له البلاد، ومحاولة تفتيت الوطن والامتداد الرجعي إلى المنطقة و"المؤامرة الكونية"، وما تعرضت له النساء السوريات في مخيمات اللجوء من حوادث اغتصاب وإهانة كما في ثلاثية "عزيزة بابا عمرو" وثلاثية "النزوح" فيما يتعرض الجزء الثالث من مسلسل "الولادة من الخاصرة" لبطش قوات الأمن والشبيحة للمتظاهرين وفساد المؤسسة الأمنية وفقاً لرواية المعارضة، في حين تناول مسلسل "حائرات" لمخرجه سمير حسين وكاتبه أسامة كوكش الأثر الاجتماعي والنفسي للأزمة عبر شخصيات نسائية سنشاهدها هائمة على وجهها كنساء على حافة الانهيار العصبي، فتيات في العمل والبيت والجامعة محاصرات بوجوه كئيبة وأصوات التفجيرات والقصف وولولات الهاربين من جحيم المدن المدمرة من جراء قتال بين "جيش حر" وآخر "نظامي" ليتحولن لحائرات بين الطلقة والقبلة؛ حائرات بين الحب والهروب. بالمقابل سجل المخرج ليث حجو عمله الأحدث "سنعود بعد قليل" عن سيناريو لرافي وهبي عبر حساسية مغايرة من الأزمة تركز على الأثر الذي تركته الأحداث بين أفراد الأسرة الواحدة، متكئاً على بطولة الفنان دريد لحام الذي قام بأداء شخصية "نجيب" الرجل العجوز العامر بالحنين إلى وطنه بعد اضطراره للسفر إلى بيروت، ليجد نفسه بين سجالات وصراعات حلفاء النظام والمعارضة من خلال أبنائه الخمسة، حيث تدفع الأزمة الكثير من السوريين إلى هجرة قسرية تضعهم وجهاً لوجه مع واقع مليء بالتشرذم وضياع السبيل.
كوميديا الأزمة
في المقلب الآخر حقق كل من المخرجين فردوس أتاسي ومهند قطيش موقفاً درامياً مختلفاً من الأزمة عبر لوحات كوميدية ساخرة حملت عنوان "وطن حاف" عن نص لكميل نصراوي، أطل عبرها المشاهد على واقع الحياة السورية المعاصرة وفق حلقات متصلة منفصلة، ووفق سقف رقابي عالٍ لمناقشة واقع الحال من خلال كوميديا سوداء فيها من المرارة ما فيها من السخرية والرثاء؛ لاسيما أن هذا العمل كان من إنتاج "المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني"، ويأتي بعد إعلان شركة "سما الفن" عن عدم إنتاجها للنسخة العاشرة من المسلسل الكوميدي الناقد "بقعة ضوء" بعد أن حقق الجزء التاسع من هذا العمل في الموسم الرمضاني الماضي سبقاً درامياً في ملامسة الحدث الجاري على الأرض السورية.  بالعموم يمكننا النفاذ إلى فحوى بعض هذه المسلسلات، خاصةً بعد مشاهدة الأعمال السورية، مما يترك السؤال التالي: هل الدراما السورية اليوم أمام مواجهة من نوع مختلف؟ أم أننا بتنا نردد مقولة "المسلسل.. والمسلسل الآخر" بعد أن سُحر المشاهد العربي بمقولة "الرأي.. والرأي الآخر" شعار قناة "الجزيرة" القطرية؟ الإجابة عن هذا السؤال تتيح لنا النظر إلى مجمل المشهد الدامي الذي يخيم على البلاد منذ قرابة أربعٍ وعشرين شهراً، انقسم فيها الشعب السوري إلى أهل نظام وأهل معارضة، إلى مسلسلات "شبيحة" ومسلسلات "مندسين" لتترك هذه الأزمة العصيبة آثارها على الفنون عموماً، كاسرةً شاشة العرض إلى نصفين بعد أن كان السوريون على قلب رجلٍ واحد في دراما ملئت الدنيا وشغلت الناس على مدار نصف قرن من الزمن، فهاهي أعمال بالجملة تم تصويرها خارج الوطن في منفى الأماكن البديلة، بعد أن هرب معظم نجوم الصف الأول خارج وطنهم، فيما انكفأ الجزء الآخر ملتزماً الصمت أو الحياد إزاء ما يجري في بلده.
وجوه جديدة
في مقلبٍ آخر تخطت الدراما السورية لهذا العام توقعات خصومها وأصدقائها في آنٍ معاً؛ متجاوزةً ظروفها الذاتية والموضوعية، سواء من حيث مصادر الإنتاج والتوزيع والتسويق وشروط التصوير في الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد؛ لتقدم ما يقارب ثلاثين عملاً درامياً؛ تنوعت بين الدرامي والكوميدي والاجتماعي الساخر مكتسحةً بذلك سوق العرض العربية؛ ووجهاً لوجه في النافسة مع أعمال مصرية ولبنانية وخليجية؛ لتتصدى مجمل أعمال هذا الموسم للأزمة السياسية؛ فأكثر ما ميز دراما السوريين لهذا العام هو قدرة معظم الأعمال الجديدة على تجاوز عقدة النجم، فأغلب ممثلي الصف الأول الذين تراجعوا إلى الخلف في موسم 2013 تركوا المجال واسعاً أمام نخبة جديدة من الوجوه الشابة التي اقتحمت المشهد الدرامي، فالنجومية في الدراما السورية لا يمكن اعتبارها ملزمة على الدوام، فهناك دائماً قدرة لدى صناع العمل الدرامي على صياغة نجومهم، بل هناك جرأة لافتة على صعيد تقديم أسماء شابة، والمغامرة بما كانوا يسمون "ضيوف الشرف" أو "الوجوه الجديدة" ليكونوا في مقدمة الوجوه التي تصدرت "تترات" أعمال هذا العام، حيث يبدو أنه من محاسن الأزمة على الدراما السورية أنها ساعدت على إزاحة الكثير من ممثلي الصف الأول عن بطولة مسلسلات هذا العام، بعد أن كنا نشاهد تكرار عجيب غريب لهؤلاء في أكثر من عمل وفي موسمٍ واحد، مما ترك مجالاً للتنويع في الوجوه، والخروج من هيمنة عقود التوزيع التي كانت تلزم الشركة المنتجة على وجود النجوم أثناء بيع هذه الأعمال على رأس قائمة أبطال المسلسل. من هنا تجتاز الدراما لهذا العام عقبات عدة في مواجهة جمهور ينتظر منها الكثير، ويراهن على جرأة فنية واجتماعية تضعه مرةً أخرى في محاكمة نقدية لواقع الحال السورية، فمع بروز زوال سيطرة النجوم على شارات الأعمال التلفزيونية تتخلص الدراما من  كليشيهات الوجوه التي كانت على مر عقدين من الزمن تقفز من مسلسل إلى آخر دون أي شعورٍ بالذنب، مما يمهد الطريق من جديد إلى تمرد ذاتي في جسم الدراما، وتنظيف لابد منه لكراكيب المخيلة الجماعية لجمهور المشاهدين، فثمة جيل جديد يستحق الوصول، ولديه كامل عدته الفنية لاختراق حاجز النفي الذي كان يعانيه في ظل سطوة الأسماء الكبيرة، وتحكم شللها بأدوار الصف الأول  والثاني، ليستعيد الضيوف شرفهم بالعبور إلى نجوميتهم المؤجلة..
 
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net