Tahawolat

تُعاني تركيا بعد إنحسارها القسري عن التمدد بإتجاه أوروبا ، وتراجع الجهد الذي بذله أربكان والقوى العسكرية في إرتداء مظاهر العلمانية ، أمام تناقض المشروع التركي وإستهدافاته في إيجاد حيوية جديدة تعوض عن سقوط الامبراطورية المريضة ، والمشروع الاميركي الذي كان يرسم دوراً مُغايراً لتركيا إستكمالا لمشروع الهيمنة على منابع الغاز والطاقة . جاء الإنقلاب على أربكان نتيجة لإنخراط رجب طيب أردوغان وأحمد داوود اوغلو في المشروع الاميركي الذي انتج حزب العدالة والتنمية  كآلية تُحقق التمدد التركي شرقا حتى عُمق روسيا وجنوباً للهيمنة على العالم العربي وصولا الى مشارف القارة الإفريقية تحت مُسمى إسلامي يستفيد من الجيوسياسي المُترهل في  المدى الإستراتيجي المرسوم كمنطقة عمليات تستند الى الجيو إقتصادي الناتج عن مشروع نابوكو المُعلن عنه في العام 2002 في إسطنبول .
إن نظرة واضحة لموقع تركيا التي نجت من التقسيم في الحرب العالمية الثانية فقط للإستفادة من موقعها الإستراتيجي كحاجز طبيعي يوقف المد الروسي بإتجاه أوروبا والغرب ، تُبيّن الوهم في نظرة القيادات التركية المُستحدثة في تقدير القوة السياسية والإقتصادية والثقافية التي تعتبرها من عناصر قوة الدولة الكافية لخرق الإنسجام بين الحزام الجيوسياسي والحدود القانونية الثابتة بإستثناء الهبة الإستعمارية الإسترضائية بإقتطاع لواءي كيليكيا والإسكندرون في ظل سكون حيوي تام ساد تركيا والمنطقة بعد إتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ، فإندفاعة النظرية التركية المُلتبسة في قراءة موازين القوى الناشئة لإعتقادها بأن توازنات تحالفاتها مع اميركا وإسرائيل وعضويتها في الاطلسي ستحقق لها التفوق والتمدد الحيوي مُستفيدة من الصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي ، مُرتكبة خطأ إستراتيجيا مُدمرا حين أضفت على العامل الديني وظيفة سياسية تمتطيها كوسيلة عبور لتحقيق أغراضها التوسعية ، كبديل عن العوامل السياسية والإقتصادية والثقافية والعسكرية كأدوات مُتكاملة تُعيدها الى الساحة العالمية كقوة فاعلة تُخطط لإستعادة دور الأمبراطورية القابضة .
لم تستطع تركيا إنجاز لحظة التحول من النظري الى التطبيقي بسبب الخلل الناجم عن محدودية قدراتها الذاتية ، وإخفاقها في قراءة الجيو سياسي والجيو إستراتيجي الإقليمي والدولي ، فكانت اللحظة الحاسمة في إظهار عجزها الكامل في تقرير مصير المنطقة ، بل ظهرت هشاشة وتباينات وضعها الداخلي مُتزامنة مع واقعين شكلا صدمة كبيرة ، ألاول سقوط إمكانية تدخل الاطلسي ، وهذا ما كانت تعوّل عليه ، وإحجام اميركا أو عدم قدرتها على التدخل المباشر ليس فقط بسبب إستحقاق الإنتخابات الرئاسية إنما بسبب الواقع الثاني المُتمثل بالمواقف الروسية والصينية والإيرانية التي شكلت توازنا دوليا حاسما في المنطقة المُتصارع على مواردها ، والذي يجب ان يكون مدار حوار في الراهن هو مدى إنعكاس إنحباس وإنسداد الافُق التركي بعد ان إستنفذت كافة الوسائل في محاولتها إحداث تغيير في سوريا أكان من تأمين سلاح وإدخال المسلحين ألاجانب والمُتشددين أو إحتضان قيادات المُعارضة على أراضيها أم الإنخراط مع عرب الاميركان والاميركان بهدف تغيير الواقع السوري كخطوة ضرورية لإستئناف التقدم الى العمق الروسي ذات الأكثرية الإسلامية ، وقد يكون التوتر الذي تشهده الحدود السورية التركية يحتمِل مخرجين أو سيناريوهين ، الاول سعي تركيا من خلال تحريك قواتها العسكرية وإعلان تغيير قواعد الإشتباك مع سوريا لإستقطاب المُبادرات الإقليمة بهدف إيجاد حلول وتسويات مع الإقليم تُتيح لها ضبط حدودها وإقفالها أمام تدفق المقاتلين المتنوعي المشارب والغايات والاهداف ، والذين أصبحوا مشكلة حقيقية قد تؤثر على تماسك الداخل التركي المتنوع بأثنياته وقومياته وتركيبته الحضارية المُتعددة والمتباينة في وجهة نظرها من مفهوم الوطن ، إضافة المنهج  العلماني المُتشكّل من العسكر والمعارضة ، أم الإسلام المُعتدل الذي يخوض حروبا عبثية لمصلحة أميركا وإسرائيل ، وهذا سيؤدي حُكماً الى تزايد هشاشه الداخل بفعل الاحداث الجارية ، ما قد يُشكل مخرجاً لائقا لتورط تركيا المُتزايد خاصة بعد سقوط رهانها على تدخل حلفائها العسكري ضد سوريا حسب النموذج الليبي ، اما السيناريو الثاني والذي قد يكون أشد خطورة وحساسية وتهورا في آن ، وهو الهروب الى الامام والدخول في حرب ضد سوريا ، فتركيا أصبحت بحاجة ماسة الى  الخروج من مأزقها الذي وضعت نفسها فيه من اللحظة التي قررت فيها ان تعود كدولة مؤثرة على الساحة الدولية ، ولكي تورط الاطلسي وأميركا قد تلجأ ألى إشعال فتيل الحرب في لحظة دولية شديدة الحساسية ، روسيا تُدرك ان تركيا تسعى للتمدد بإتجاه إسلاميي روسيا وأنها بدأت إصدار جوازات سفر تركية لما يُقارب 25000 إسلامي من دول الإتحاد السوفياتي السابق ، وروسيا تُدرك أيضاً ان تركيا الاطلسية هي الذراع الاميركي الضارب في العمق الروسي الساعي الى تدمير شركة غاز بروم  وإعادة روسيا الى القرون الوسطى ، وإيران التي وقعّت مع سوريا إتفاقية دفاع مشترك تعتبر تحالفها مع سوريا إستراتيجيا بإمتياز ، وقد أبلغت خارجيتها تركيا مرارا بجدية مواقفها ، لذلك فإن المُغامرة التركية ، بوجود الاساطيل الروسية والصينية والاميركية وحلفائها في المتوسط ، تستعجل خلط الاوراق توخيا لعدم سقوطها والحفاظ على وحدتها الداخلية التي بدأت تظهر فيها إعتراضات كردية قومية لا زالت تسعى الى تحرير عبداللة اوجلان وتركمانية وعلوية وشيعية من ناحية ، وللدفع بإتجاه إعادة الإعتبار الى مشروع نابوكو الذي بنت تركيا إستراتيجيتها وإستكملت تحولاتها الفكرية والثقافية بناء عليه ، وأصبح مستقبلها كحيوية سياسية مرهوناً بنجاح هذا المشروع الذي أصبح من الماضي بسبب ظهور وصعود حيويات جيوسياسية وجيو ثقافية وجيو إقتصادية مُناقضة لمشروع العدالة والتنمية التي إستنسخت مثائل لها في مصر وتونس وليبيا ولكن دون جدوى لعدم قدرتها على تغيير موازين القوى الناشئة  ، هذه الحيويات شكلت سدا منيعا بوجه تركيا وأوقعتها في مأزق مصيري و وجودي ، فالهالة الكبيرة التي قدمت تركيا نفسها بها عجزت بالتالي عن تجاوز سوريا ، بعد عجزها عن إستجداء إعتذار من نتنياهو إثر قضية مرمرة ، وهذا يُظهر الضحالة في الفكر الإستراتيجي وفي قراءة الوقائع كدولة تقدم نفسها على أنها حيوية قادرة على إختراق وتجاوز مدى الحدود القانونية الإقليمية كجيو سياسي إقتصادي ثقافي توسعي .
إذا ما أضفنا الى المُعادلة فشل تركيا في التمدد شرقا بإتجاه الإسلام الروسي ،  وجنوبا بإتجاه الإسلام العربي الذي يُصنف نفسه مُعتدلا والذي حالت سوريا دون تحقيقه ، بعد فشلها في التمدد غربا وعدم تمكنها من الفوز بعضوية الإتحاد الاوروبي ، يتبين لنا بوضوح ان تركيا بحكم موقعها الجغرافي تشعر انها بحاجة للتوسع والنفوذ كي تستطيع ان تبقى وهذا راسخ في الفكر السياسي التركي القديم ـ فكرة الامبراطورية العثمانية ـ بكل تجربتها المُقتصرة على القوة العسكرية ، والحديث المتأثر والمتماثل بتجارب دول شديدة الحيوية وإنبهار الفكر التركي الذي يعتبر التمدد والنفوذ لتحقيق حلمها بالوجود الفاعل على الساحة الدولية ضرورة وجودية لها ، وهذا يحتاج الى تكوين خطوط جيوسياسية أمامية مُدّعمة بالعناصر الثقافية والتاريخية المُتراكمة لأي مُجتمع حيوي من شأنه أن يُكسبه دورا مهما في تشكيل وضع هذا المجتمع في مراكز النفوذ الدولية ، وهكذا تتضح معالم إرادة التوسع التركية التي وضع أحمد داوود أوغلو أُسسها الفكرية متماهياً مع أنماط يجدها إنموذجا مُلائما ومُؤاتيا لبلاده ، على سبيل المثال يرى أوغلو أن الاختلاف بين الخطوط الامامية الجيو سياسية المُعبرة عن الذهنية الاستراتيجية الالمانية ، المُرتبطة بالهوية الألمانية وتاريخ الامبراطورية الرومانية ـ الجرمانية المُقدّسة ، وبين واقع الحدود الألمانية القانونية الفعلية ، قد تسَبب في حدوث حربين عالميتين في الماضي . في المُقابل ، كان هذا الإختلاف نفسه أحد أهم العوامل التي سببت تكوين الإتحاد الاوروبي بالطرق السلمية بعد الحرب العالمية الثانية . وإستدلالاً ، ومن وجهة نظر أوغلو ، يتبين ان العنصر الاساسي ، الذي أدّى الى بروز الولايات المتحدة الاميركية كقوة عُظمى في المسرح التاريخي ، هو محاولتها المستمرة في التوسع الذي رسمت معالمه في القرن التاسع عشر عن طريق التحرك من عمق المحيط الاطلسي حتى المحيط الهادي ، لتحويل الخط الامامي الجيو سياسي الى ساحة سيادة قانونية سياسية . وهكذا يتبدّى بوضوح أن تركيا تحاول ان تكون قوة إستعمارية توسعية بالمنطقة على حساب الحدود القانونية لدول المشرق العربي وروسيا وباقي البلاد العربية .
 إن قراءة سياسية للأهداف التي سعت إليها تركيا تحت غطاء حزب العدالة والتنمية وتجربة الإسلام المعتدل الذي حقق نجاحات إقتصادية وهمية ومُفتعلة ومُخططاً لها لإكساب هذا النموذج مصداقية تُجيز له تعميمها كجواز مرور لمشروعه المشبوه ، نجدُ أن تعثُرا واضح المعالم بدأت نتائجه المباشرة  تنعكس على القرارات التركية التي يمكن وصفها بالمُنفعلة والمُتخبطة والفاقدة لإي عمق إستراتيجي ، أكان في الفكر السياسي للدولة أم في إسلوب مُعالجتها وتصديها للأحدات والوقائع والتحديات والمُتغيرات الجيو إستراتيجية والجيو سياسية الإقليمي منها والدولي . واقع تركيا الراهن ، هل لا زال يحتمل إستمرار العدالة والتنمية في السلطة ، أوغلو وأردوغان تحولا الى مصنع أزمات مصيرية والمُجتمع التركي يواجه نتائجها وحيدا ، أصبح الشعب التركي يعيش في مناخ مُعادي تماماً ، فعدا عن مذبحة الارمن ، تتدهور علاقة الدولة الإكثر مرضاً مع العراق وإيران وروسيا وسوريا ، وتتنافس على النفوذ السنّي مع مصر والسعودية ، وهي مُهددة مذهبيا بالقوى الوهابية والتكفيرية ، ما بات يؤشر لحتمية قيام إنقلاب يُقصي العدالة والتنمية عن السلطة لتبوؤه صفة الحكومة الاسوأ في تاريخ تركيا القديم والحديث ، وهذا كلام علني في الصحافة التركية ، خاصة بعد ان بدأت معالم الركود الإقتصادي التجاري والصناعي تشهد تقلص وتراجع الاسواق التي كانت مفتوحة قبل الاحداث السورية .
في الخُلاصة ، لا يمكن تجاهل النتائج التي ستترتب من جرّاء شعور الحكومة التركية بالخيبة ، والتصرفات التي يمكن ان تُقدِم عليها حكومة أردوغان الواقعة تحت تأثير الوحدة إذا لم نقل العزلة التي وضعت نفسها فيها بسبب عدم قدرتها على قراءة عناصر الازمة والصراع الدوليين ،  بالإضافة الى سقوط أحلامها بأن تكون دولة ذات خطوط إستراتيجية أمامية كما أوهمها أحمد داوود أوغلو ، وعاشت في وهم حلم توسعي سقط في الإصطدام الاول مع المشرق العربي .

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net