Tahawolat
بعيداً عن ضوضاء السلاح وحشود المُقاتلين على إختلاف مشاربهم وإنتماءاتهم الموّثقة لدى الجهات الامنية المعنية بإستقرار الوطن ، وفي المقلب المُعاكس لإجراءات إنشاء الإمارات الإسلامية وإستثمارها كمحطة إنطلاق لقيام منطقة عازلة تؤمن الممرات الآمنة لقوى محلية وإقليمية ودولية تعمل بدأب ومُثابرة على إسقاط النظام السوري منذ آذار العام الماضي ، وبغضّ النظر عن القتلى والجرحى والبيوت والأملاك المُهدّمة والمؤسسات التجارية والصناعية والحرف والمهن الحرة التي يتم إحراقها أو توقيفها عن العمل إفساحاً في المجال لإستثمارات سياسية وأمنية تخدم مصالح الطبقة السياسية المُنتفعة من واقع الإقتتال الدائم حتى ولو كان ذلك على حساب الفقراء وعمال المياومة وصيادي الاسماك الذين يشكلون السواد الاعظم في عاصمة الشمال والتي قد يصبح اسمها إمارة الشمال أو صانعة ربيعه الدموي  .
تعتبر طرابلس بوابة لبنان الشمالية على الاسواق الخارجية المحيطة وتشهد بواباتها الحدودية وميناؤها حركة تجارية ناشطة في كلا الإتجاهين أي الإستيراد والتصدير ، حيث تُؤمِن هذه الحركة فرص عمل كبيرة لفئة واسعة من العمال والفقراء المنتشرين في كل مناطق الشمال التي غاب عنها الإنماء وحضرت السياسة المذهبية على حساب لقمة عيش الفقراء التي تعود السياسيون الجدد على الإستثمار في الفقر وأصبح الدولار هو الثمن العلني للولاء الى الزعيم والمذهبية شعار الوحدة حيث بدأت معالم الوطن هناك تتلاشى تماهياً مع الواقع الجديد القادم على صهوة مستر دولار تقوده الحركات الإسلامية المُتشددة وبعض فلول ما يسمى الجيش السوري الحر بقيادة تركية وغربية وما تلاها من مصالح الآخرين محليين كانوا أو خارجيين .
شكّلت الاحداث ذريعة سياسية لخطف المواطن الطرابلسي من همومه اليومية إلى أداة عملت على توظيفه في مشاريع داخلية وإقليمية تحت غطاء الولاء المذهبي وخدمة لإغراض المارد السني الذي أعلنه أحدهم مُتسرعاً بفتح المعركة المذهبية على دولة شقيقة ، وهكذا تحول الشمال الغارق في بؤسه وشقائه الى ساحة حرب مذهبية الطابع وخرج على الوطن تمهيداً لتأقلمه بنمط حياتي مستورد ومُناقض لصيغة الحياة اللبنانية التقليدية ، فإنتشرت فيه جماعات مُتشددة وأفكار سلفية تعتمد التحريض والبغضاء وتُلغي كل من يعتمد العقل والنهج الوطني وتُكفره وقد لعب المال دورا أساسيا في نمطية هذا التحول فإستُبدل المدخول الإنتاجي كعائد من اليد العاملة والحرفية والصناعية وحركة الشغل الى مال سياسي مذهبي جنح تدريجياً ليصبح رب  عمل لشريحة واسعة من المؤمنين البسطاء والعمال والفقراء والعاطلين عن العمل والمُتعصبين وحلت الجوامع محل السرايا الحكومي والمُسلحين محل الجيش بدعم من المتنفذين في الدولة والمُنتفعين منها تماشياً مع المناخ السائد الذي أضفاه ما يُسمى ربيعاً عربياً.
تداعيات أزمة طرابلس بدأت تفرز أزمات إجتماعية إقتصادية بدأت نتائجها تشكل واقعا لا يمكن إغفاله أو تجاوزه لما تركته من بصمات سلبية على الدورة الإقتصادية ليس فقط في الشمال إنما بدأت بوادر الركود الإقتصادي تتمدد على مستوى الكيان اللبناني وتؤثر على مُعظم القطاعات الصناعية منها والتجارية والعقارية والسياحية والخطورة الكبيرة تكمن في إستهداف القطاع المصرفي على مستويين ، الاول داخلي المتمثل بصعوبة التوظيف والتشدد في شروط التسليفات والتسهيلات إحتساباً لتداعيات الوضع الامني والفلتان الحاصل بسبب أحداث الشمال والخوف من تمددها الى مناطق أُخرى ، والثاني هو الضغط الخارجي الذي يستهدف هز الإستقرار الإقتصادي عبر تطويق المصارف اللبنانية بقوانين دولية تؤخر وتُعيق حرية الحركة المصرفية وقد يكون ذلك في سياق الضغط الغربي السياسي وممارسة ضغوط تؤدي الى تحوير مسارات سياسية تخشى على الإنهيار الإقتصادي رغم الضمانات التي يعممها المصرف المركزي كمحاولة لإمتصاص تداعيات أحداث الشمال والضغوطات الخارجية .
فعلى مستوى الشمال وطرابلس بشكل خاص ، ورغم الاموال التي تُضخ في المدينة ، فإن بوادر إنفجار أزمة إقتصادية إجتماعية بدأت تلوح في الافق حيث وصلت العديد من العائلات الى مرحلة الجوع الحقيقي لتوقف حركة العمل بسبب الاحداث العسكرية الجارية خاصة إحباط جماعات واسعة من أهالي المدينة وفقدان الامل من توقف القتال والمعارك لتداخل الوضع الداخلي بمصالح الخارج ، ويجب قراءة التحركات الإحتجاجية التي قامت بها القوى المدنية في مدينة طرابلس كناقوس خطر حقيقي يسعى الى تحييد طرابلس عن النزاعات المذهبية والإقليمية حرصاً على إستقرار المدينة وتحررها من التجاذبات الخطيرة التي تشهدها المنطقة بأسرها ، فالامن الإقتصادي الإجتماعي أصبح مطلباً شعبياً في الشمال عبرت عنه الإعتصامات التي نفذتها القوى المدنية كتعبير عن الواقع المأساوي الذي يطال الشريحة الكبيرة من سكان وعائلات المدينة ما يؤشر الى رفض شعبي واسع لم يعد تجاهله يصب في مصلحة الراغبين في إستمرار الازمة بل وتصعيدها، والمرتكزين في تحريضهم على مرتكزات مذهبية لم تعُد تشكل للأكثرية الشعبية قناعات بضرورة إستمرارها حيث ان الاذى الحقيقي بات يقع على لقمة عيش العائلات التي لا دخل لها من الاساس فيما يجري من أحداث على الساحة الشمالية وإن عودة طرابلس الى سابق عهدها في الحياة الموحدة كمدينة لها تاريخها في تأسيس الكيان اللبناني منذ الإستقلال وخرج منها رؤساء وزراء ووزراء ونواب شاركوا في صياغة الحياة السياسية اللبنانية وساهموا إسهاماً فعّالاً في تأسيس النسيج اللبناني المُعاصر البعيد كُل البعد عن الضغينة المذهبية والطائفية .
السؤال المطروح اليوم هو لإي مدى سيحتمل المواطن الطرابلسي حالة الجمود الإقتصادي والضائقة المعيشية التي بدأت تتفشى في الوسط الطرابلسي الفقير والتي قد تنقلب في المستقبل المنظور ثورة شعبية ضد الفقر والجوع الناتج عن توريط طرابلس خدمة لأجندات خارجية باتت مكشوفة وواضحة لغير المُنخرطين في النزاع الدائر على أرض الشمال .
أفرزت حرب الشمال خارج نطاق المُتنازعين، واقعاً جديداً بدأت تتبلور معالمه الرافضة تحويل وجه المدينة السلمي الى منصة لتبادل الرسائل الامنية والعسكرية المحلي منها والإقليمي وتباعاً الدولي ، كما ان الإهمال التاريخي لمنطقة الشمال وخاصة عكار وطرابلس وحرمانها من الإنماء وسع دائرة الفقر والفقراء ، وكأنما ذلك مُخطط قديم لتهيئة البيئة الحاضنة للتطرف الديني ، فقدان الامل لدى الاكثرية الشعبية من جدوى الإستمرار في الواقع الراهن لإنعكاس سلبياته على السلم الاهلي ولوقوع السواد الاعظم كضحايا لمشاريع سياسية غريبة عن المدينة وتقاليدها ، عدم قُدرة العائلات الفقيرة تحمل العبء المالي المعيشي الناجم عن عدم الإستقرار الدائم لوقوع الشمال في دائرة الإستهداف الإقليمي وظيفياً ، كما أرخى التغيير في ديمغرافيا المدينة مذهبياً وطائفياً وتحويلها الى كانتونات مُغلقة تهدد الحريات العامة لوقوعها في إطار المُقدس الغير قابل للإعتراض والنقاش ، إضافة الى تحويل مفاهيم المجتمع الشمالي من ثقافة وطنية الى ثقافة مذهبية من طبيعتها إلغاء الآخر ، تكون حُكماً مُناقضة للمفاهيم الوطنية الجامعة .
من الواضح تأثير أحداث الشمال المُستمرة على إستقرار البلد الإقتصادي وبالتالي إصابة شريحة واسعة من اللبنانين الفقراء في لقمة عيشهم حيث أدى الركود الى دفع العديد من الشركات والمؤسسات خاصة السياحية والتي بدأت تعتمد سياسة التقشف والصرف من الخدمة .
لا شك ان التداعيات الاقتصادية الإجتماعية بدأت تطال الوطن اللبناني بأجمعه وقد يكون على الجمعيات المدنية والنقابات ان تبدأ تحركاً يستهدف إعتراض ألاحداث والوقوف بوجهها إعلامياً وتظاهراً وتحريض الفئات الفقيرة المُتضررة بلقمة عيشها من التصدي بكافة الوسائل السلمية المُتاحة لمُناهضة المد المذهبي المُتشدد الذي لا يُنتج إلا الفقر والجوع والتفرقة ، فلتكن صرخة وطنية مُدوية ضد العنف المجاني الذي لا يخدم إلا العدو الإسرائيلي .

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net