Tahawolat
يُعاني العالم، اليوم، من أزمات حادّة على مستوى الفكر، إن كان فكراً فلسفياً، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، ثقافياً، أخلاقياً، أو قيمياً. فالوقائع التي طرأت، القرن الماضي، على مفهومَي الرأسمالية والإشتراكية، أنتجت إخفاقاً كان له آثار مباشرة في التحولات التي أطاحت بالإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، لتبرز، بعد ذلك، أمريكا كقوة استعمارية ذات مفاهيم اقتصادية اعتمدت فتح الأسواق العالمية العابرة للقوميات، والسيطرة على سياسات الدول الإقتصادية الكبرى، بعد تمكنها من إزاحة العملاق السوفيتي ومنظومته الإقتصادية. لكن أمريكا فوجئت، لاحقاً، بانزلاق السيطرة الاقتصادية من يديها، وتمركزها بين يدَيْ الصين، ومراكز الطاقة في آسيا والشرق، لتعود موازين القوى القوى إلى وضعها الحالي. هذا الأمر، يفيد بضرورة نشوء فلسفة ذات بُعد سياسي ـ اقتصادي جديد، تقود المرحلة على قواعد حرية المجتمعات واستقلالها السياسي والإقتصادي، وإيلاء الشأن القومي البُعدَ الحاسم في تقرير المصير، كمخرج منطقي بديل لتعثر المنطلقات الفكرية التي سادت المرحلة السابقة، والتي فشلت في  تقديم الاستقرار للمجتمعات الإنسانية. 
العرب، لم يُفلحوا  في لعب أي دور مؤثر في لعبة الموازين هذه، ولم يتمكنوا من تشكيل واقع سياسي ـ اقتصادي فاعل على المستوى العالمي، ليخرجوا، بهذا، من دائرة صناعة القرارات الدولية، الأمر الذي صبغَ فاعليتهم بالهامشية والتبعية. فجمال عبد الناصر ، الذي كان يحاول الخروج من انتكاسة 1956، قاد حركة القومية العربي، لكنه دخل في مواجهة حادّة مع الحركات الإسلامية ، خاصة الوهابية، التي عملت على تقويض فكرة القومية، وانتهجت، من خلال الأنظمة الداعمة لها، خيار السلام مع إسرائيل والمصالحة مع أمريكا التي ضمنت السيطرة على ناتج النفط العربي. بعد هذا، تلقى عبد الناصر ضربة قاسية، تمثلت في هزيمة 1967، كان لها الأثر البالغ في تراجع المدّ القومي وصعود التيارات الإسلامية المتطرفة منها والمعتدلة.
وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها حافظ الأسد، لاستنهاض الوجدان القومي، ولإعادة بعث مفهوم القومية العربية، إلا أن النتائج الختامية لحرب 1973، التي حقق فيها العرب إنجازات عسكرية هامة، كان لها مدلولات سلبية. فحرب التحرير، التي خطط لها حافظ الأسد، أفشلها مخطط آخر، هندسه وزير خارجية أمريكا آنذاك هنري كيسنجر، وقاده أنور السادات، من خلال توقيع مشروع السلام مع إسرائيل برعاية أمريكية. هذه الجهود، اصطدمت أيضاً بمفاهيم إسلامية مُتطرفة، تُوّجت بانفجار الصراع الدموي بداية الثمانينيات في شمال سوريا، ظهرت فيها معالم اصطدام المفهوم القومي ـ المدني الذي يقوده حافظ الأسد، بالمفهوم الديني ـ الإسلامي بمفاهيمه السلفية ـ الوهابية، المدعومة من أنظمة عربية وجدت مصالحها في مشروع السلام العربي ـ الإسرائيلي، ولو من جانب واحد. ورغم إدراك هذه الأنظمة الضررَ الفادح الذي يؤثر على المسألة الفلسطينية، بسبب دعمها لهذا المشروع، إلا أنها تجاهلت النتائج الخطيرة له، وانتهجت مبدأ الصداقة والتبعية والارتهان لأمريكا، حفاظاً على استمرارها في السلطة.
فقدان التجانس التاريخي بين المفهوم الإسلامي والمفهوم القومي، أوقع العالمين العربي والإسلامي، في تجاذب سياسي استراتيجي، علنيّ أحياناً، وفي مُعظم الأحيان خفي ومكتوم. وفي الحالتين، تكرّس صراع المفاهيم، ونشأت من ذلك محاور جديدة لها آلياتها وتحالفاتها وفلسفتها. القومية فشلت في إنجاز الحد الأدنى من القدرة على تشكيل مزاج شعبي موالٍ لها، لسببين: الأول ذاتي، تمثل في غياب أو تراجع المشاريع الوحدوية، وعدم القدرة على الإنخراط في سياق التقدم، فلم تُنجز دولة الاستقلال، ولم تُحقق وحدة المجتمع، مع استمرار العجز على مستوى الإنماء، وصولاً إلى الفشل الذريع المتمثل في غياب المشروع الاقتصادي ـ الإجتماعي، ما فاقم حالة الفقر التي طالت السواد الأعظم من الشعوب العربية، أضف إلى ذلك، الإستمرار بالسلطة، واستقدام الإرادات الخارجية إلى مصانع القرار العربي، وعدم قدرة العرب على التأثير في صناعة القرارات الدولية رغم إمتلاكهم مصادر الطاقة النفطية، والرضوخ لمفاعيل اتفاقية سايكس بيكو، والفشل في ردع االمطامع الإسرائيلية، بل التصالح معها والاعتراف بها،  وفقدان الشعوب العربية الأمل في إمكانية اللحاق بموكب التطور والتقدم التاريخي. السبب الثاني، موضوعي، تمثل في النتائج السلبية التي عانت منها المنطقة، نتيجة لموازين القوى التي فرضتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، فقسمت المنطقة إلى دويلات واقتطعت كيليكيا واسكندرون لصالح تركيا، وأنشأت دولة الاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، ودجّنت معظم الأنظمة، واستولت على البترول، وتحكمت بسياسات المنطقة وفق مصالحها، وثبتت قواعدها العسكرية في دول الخليج، واستقدمت جيوشها إلى العراق وأفغانستان، ودعمت الحركات الإسلامية وهيأتها للعب الأدوار الراهنة، ومهدّت لها الطريق لتُطلق صراع "الأكبرين" ، وتُفرغ المشرق من المسيحية، تمهيداً لتهويده .
التيارات الإسلامية، رُغم تعدد مُنطلقاتها العقائدية، توافقت على إضعاف الشعور القومي (نلاحظ تزايد عدد القنوات الفضائية الإسلامية) تمهيداً لاستعادة فكرة الخلافة، كوسيلة مُتاحة لمواجهة الغزو الثقافي ـ العلمي الذي يبثه الغرب، وتلبية لنزعة الحنين إلى الماضي كتعويض عن عدم القدرة على الانخراط بركب التطور كمُنتج له لا كمستهلك، مُستفيدة من الحالة الجماهيرية التي أرهقتها السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية، فاستعدت لقبول الفكرة الدينية على قواعد الإيمان الأخلاقية باعتبارها مخرجاً لأزماتها الناجمة عن الإخفاق في تحرير فلسطين برمزها الديني القدس، بالإضافة انتشار الفقر والأميّة التي تطال شرائح واسعة من الشعوب العربية خاصّة في الأرياف والضواحي. وقد ساهم تقاطع المصالح في الشرق الأوسط، في نشوء تحالف استراتيجي بين أمريكا والإسلاميين، توسعت دائرته الإستراتيجية بالعدالة والتنمية ـ التركية الأطلسية، كنموذج لإنجاز إسلامي (رغم الشكوك بأنه من صناعة أمريكا الترويجية)، يتحالف مع الإخوان المسلمين ويُضعف السلفيين تمهيداً لاصطدامهما، كخطوة أولى تهيئ المناخ لسلسلة من الصدامات: سنية سنية ، سنية شيعية، سنية مسيحية.
تعثر هذا المخطط بعدم قدرته على إسقاط سوريا. وقد يكون هذا التعثر سبباً في استعجال العاهل السعودي طرحَ صيغة وحدة للممالك العربية، رغم معرفته بصعوبة انضمام الأردن، بالإضافة إلى عدم حسم مسألتي اليمن والبحرين، ما بات يؤشر لقيام واقع عربي جديد ومغاير، يتشكل من محورين: محوري إسلامي يضم المغرب والخليج العربي، حسم خياراته بالعداء للعرب وإيران والانفتاح على المشروع الأمريكي الإسرائيلي، ومحور قومي يضم المشرق العربي والحراك المصري، حسم خياراته بالالتزم بقضاياه القومية والعداء لإسرائيل- أي الانتصار لفلسطين- منفتحاً على تحالفات مجموعة "البريكس" التي لها ذات المصالح في حماية مصالحها القومية المهددة من المشروع الأمريكي الإسرائيلي .
إحياء الجبهة الشرقية استهدافاً لوحدة المشرق العربي، قد يكون مهمة المرحلة الراهنة، استكمالاً لعناصر التوازن الاستراتيجي التاريخي، الذي يجب أن يُنظر إليه كخيار حاسم  يُرتب ضرورة إعادة صياغة المنطلقات الفكرية التي كانت سائدة إرساءً لتموضع وحدوي جديد يجاري نتائج الصراع الدائر، أكان في العراق أم في سوريا أ في لبنان أم في فلسطين المحتلة، فتفكك منظومة العالم العربي بصيغته القديمة، التي كانت مألوفة على الأقل في الوجدان الشعبي، أرسى تبعات وتحديات يجب الاستفادة منها، إذا ما توفر لها فكر سياسي جامع وموحِد يرتكز إلى الوقائع والحقائق التاريخية: فكر علماني مدني، يُناقض ضجيج العاطفة والغوغاء التي لم تنتج إلا الانحطاط والتخلف والتبعية .

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net