Tahawolat
يقال: "من يتلقَّى ضَرْبات العصيّ ليس كمن يعُدُّها". هذا القول الذي ينطبق على ضربات الحياة بظروفها القاسية المحبطة والمدمرة يبدو واضحاً في كتابات الشاعر المهجري، ومؤرخ هجرة الجنوب الأميركي، الصحافي أسعد زيدان وهو الضارب في الإغتراب ضرباً، والكريم بعطائه، والذي لم يبخل في مرساه، مع مجموعة من كتبه القيِّمة، بفيض من ندرة المعلومات المبعثرة، وما استطاع تحصيله في غزوة اغترابه، ليغني المكتبة العربية بالدرر الثمينة، وحتّى بالفُتات الضائع من تلك الدرر.

وهو الذي قاسى مرارة الإغتراب القسري، فطلع علينا بنتاج متواصل حتى لا ننسى لبنانيتـنا المهاجرة وراء البحار، فيبقى الوطن حيّاً في ذاكرة المهاجرين، وحيًّا في ذاكرة التاريخ، وقد صنّف هذا النتاج باسلوبه الشيّق الهادئ البعيد عن إثارة الأحقاد والمناكفات التي عُرفتْ في المقلب الشمالي، بين أعضاء "الرابطة القلمية"، وكـان ميخائيل نعيمه، فيلسوف الشخروب، الأبرز بين مفتعليها، وكان لها الفضل في إثارة همم رفاقه وإن أفسدت الصفاء بينهم بسبب تعدّياتها وتسرُّب سمومها إلى أعضائها الآخرين وحتّى المؤرخين لها.

أسعد زيدان، عندما يكتب عن الأدباء والشعراء، يقرِّبهم بمشاركة حميمة تنسينا أنه يتحدث عن ثُلَّة من رفاق مشرَّدين في مجاهل الغربة، محقّرين بكشة المسكاتي. أمّا نقمته على الفساد والتخلف فيترك لها مساحة واسعة تتسرّب فيها من بين سطوره في أحاديثه عن متاعب الغربة عن الوطن ومتاعب الوطن في غربته، فيصبّ جام غضبه على الظالمين المسيئين المستهترين بوطن مشتَّت مهزوم لا يجد من يحفظ قيمه ويحافظ على كرامته

من أبنائه وقد عشَّش الفساد في خزاناته وتآكلته الأمراض الطائفية التي تتفاقم يوماً بعد يوم وتبدو عصيّة على الشرفاء المدافعين المناضلين.

هذا الغضب المتأجج يحمله الى قرائه في كتاب "الناس والتاريخ الصادر" عام 2005 وجاء في مقدمته عن أمّة ما زالت "تتفهم أمور الحياة بمفاهيم سباق داحس والغبراء وثارات المهلهل وجسّاس بن مرّة. وهي تهيم في غطيط جاهليتها المعاصرة ما يجعلنا نترحم على زمن كنّا نعبد فيه الأصنام الحجرية". كتاب يجمع الحكم والعبر من كل منجم فكري والإحاطة بموضوعاته تحتاج الى دراسة خاصة. لذا سأتناول في هذه القراءة السريعة، كتاباً من كتبه حمل عنوان: "شعراء من المهجر البرازيلي" صدر عام 2005 فبدءأ بأول شعرائه، نعمة قازان المحظي بلقب "النابغة والفيلسوف الحائر" وهو لقب استحقه الشاعر لما في عطائه من فكر عميق سواء في غزله او في الشكوك الإيمانية التي استساغ التعرض لها.

يقول في بعض أبيات من قصيدة بعنوان "الدمعة":

نشقتك في شعاع الشمس عطراً / وذقتك في كؤوس الوحي شعراً / وكم في هيكلي، وأنا أصلّي

رأيتك حول عرش الله شمعه / لمحتك لست اذكر اين؟ اين؟ بربك، هل هبطت عيون امي؟

كأني يوم كنت أنام فيها بصرتك في منامي كالأشعه.

بعده قازان يحظى نقولا المعلوف بلقب "شاعر الحور والخمور وشاعر الوطنية الواعية". وهو القائل في تعرّضه وتصدّيه للتفرقة الدينية:

أيها المسعور يا من عضَّهُ مأربُ الدين انتبه للمأربِ / إنما الربُّ الذي نعبده

لم يفرِّق بين عيسى والنبي / سنَّةٌ واحدة أفسدها الحاكمُ الأرعنُ والقاضي الغبي.

ويلي المعلوف الشاعر السوري فارس الحاج بطرس الذي يستبق التحريض على الثورات العربية، ولعائلته جذور في "ساقية المسك" البلدة اللبنانية، يقول في أبيات من قصيدة بعنوان "ثورة الشعر":

مثلما تستقي الربوعُ الغمائمْ تستقي ثورة الشعوب الملاحمْ / حَكَمَ الجهلُ في العروبة أجيالاً

فساد الجمود شعباً وحاكمْ / فنفتنا الأديان عن سبق العلم ارتقاءً .. فاستعمرتنا الأعاجمْ / حرروا العرب من تقاليد جهلٍ وانشروا العلم ثورة في المراقمْ / وانقذوا الأمّة التي أنجبت بالأمس فتحا ًوسؤدداً ومكارمْ / يا شباب التجديد يا أمل الآتي ويا فجر جيلِ وعي ٍقادمْ.

ثالثهم، فيليب لطف الله، "شاعر الوجدان وضمير الإنسان الذي سما بأفكاره المثالية عن دبيب عقليات التخلف" القائل، عندما زار الفيحاء 1966:

لبنان داري والشام دياري وعرى العروبة رايتي وشعاري / يا أخت لبنان وخير حبيبة / الرحمُ تجمعنا وقربُ الدارِ / ما نحن إلاّ من سلالة يعربٍ قد وحّدتنا دورة الأقدارِ.

لن أضيف شيئاً على ما ورد عن هذا الشاعر من إطراء لكنني أسجل شهادة مرجعية عنه جاءت على لسان معدِّ الكتاب: "الشاعر فيليب لطف الله، لم يكن كالقروي وفرحات، اللذين رافقا أحداث الوطن العربي قصائداً وأشعاراً حامية النقد على الإنتهازيين فيها واللامبالين، وطافحة الإطراء والمديح للشرفاء المناضلين... بل كان هادئاً بعيداً عن هذا الميدان..".

والشهادة الثانية التي تستحق التقدير في أعماله هي اهتمامه بإغناء المكتبة العربية بتراث مرتبط بها برباط تاريخيٍّ روحي عريق، يحاول بعض اللبنانيين المقيمين العمل على إحيائه فنذكِّر في هذا المجال بالبادرة التي هبَّتْ نسماتها علينا من الأرجنتين ومنذ فترة قريبة وبهمة من سفيرها في لبنان وجهد من الشاعرة اللبنانية صباح الخراط زوين التي

نقلت الى العربية كتاباً حمل في سطوره نسمات اندلسية من الأرجنتين، بينهم المتحدِّرون من أصول لبنانية كمؤلف الكتاب إدغـار دو زوين، وكان شاعرنا لطف الله، الناثر والناظم باللغتين، قد نقل الينا، نسماته البرازيلية بديوان حمل بين طياته نسمات أندلسية في "أكثر من مئتين وثلاثين لوحة لشعراء برازيليين" بعضهم أيضاً متحدر من اصول لبنانية أمثال جميل المنصور حداد من بلدة إبل السقي اللبنانية...، الذي يستعيد ذكريات العزّ والبطولات متمثلة له في أغوار الماضي البعيد. يقول في قصيدة بعنوان "نداء الدم":

إنني كنت في كل أوقات العظمة القومية في أرض الأندلس / رأيت عظمة "الميريا وفالنسيا وغرانادا".

وفي الكتاب قصيدة للشاعر البرازيلي غياروني، نقلها لطف الله نظماً، عنوانها "أغنية الألم":

في سكون الليل جافاني الكرى إن حبِّي مسهدي لو تعلمين/ حاجز قد بات فيما بيننا أنا في السوق وأنت في العرين/ أنتِ لا تدرين ماذا أبتغي وأنا أجهل ماذا تبتغين/ إنّ حلمي ورجائي ذهبا وسرى الشك الى قلب اليقين.

وبإيحاءات من واضع الكتاب، نلحظ بوضوح الترابط الروحي الذي يوحد بين القصائد المترجمة التي تمّ اختيارها المؤججة بآهات المعذبين والمظلومين وبين مشاعر موسومة بتاريخ الماضي العربي وحضور أمجاده التي لا تغيب عن ذاكرتنا.

أخيراً، ومع شاعر "ثورة العقل على اللامعقول" خليل محمد العقدة الذي "ولد في بيت ترتيل القرآن ومجتمع التقوى والإيمان" تتأجج شرارات الكفر بقصائد لا أجد مطرحاً لعرضها أو الإشارة إلى محتواها حتى المطلوب والمقبول منها على سمع بعض القراء... لكن، وعلى الرغم من ذلك لا يجوز توجيه اللوم إليه أو إلى رفاقه من شعراء المهجر وقد عانوا الأمرين في

غربة بائسة، فجرَّهُم العقل الى الكفر والثورة على اللامعقول في واقع مجتمع مريض في أوطانهم السائبة، هذا الواقع الذي يصفه الشاعر بأبيات موجعة هي الأقرب في محتواها من واقعنا في هذا الزمن الرديء إذ يقول:

"إنّ عصرا .. سوق النخاسةِ فيهِ في رواج .. أراه شرَّ زمان ِ! / فرجالٌ تُباعُ فيهِ وتُشرى ونساءٌ تُساقُ كالقطعانِ/ وإماءٌ وطْؤُهًـنَّ مبـاحٌ لا يعدُّ الفعولُ بين الزواني!/ شرعة الغاب هندموها وقالوا إنها من شرائع الرحمنِ..!".

خلاصة القول أن معدّ الكتاب بهذا التقديم لشعرائه الخمسة، استطاع أن يتألق باستنارات روحانية ... تفاعلت وتمازجت بإيحاءات متشابكة لا تخلو من التطرّف أحياناً وسيكون لنا جولة توضيحية لها في تعليق على كتابه الجديد الذي صدر اخيراً وقدّم له الأستاذ كريم مروّه، ويعتبر من أهم الكتب توثيقاً وحّدت بين أفرادها للهجرة العربية في الجنوب الأميركي، هذه الهجرة التي ولم تفرِّق بين لبناني وسوري وفلسطيني وأيّ عربي آخر

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net