Tahawolat
  المنعطف التاريخي الاساسي نحو تشكيل الامة العربية
المسيحية السيد المسيح وبعده
 

مثلت الحروب البونية (بين روما وقرطاجة، والتي انتهت بالتدمير التام لقرطاجة) نقطة التحول التام والنهائي من المرحلة المتأخرة للمجتمع المشاعي البدائي الى مرحلة المجتمع العبودي الذي جسدته روما تماما واستعبدت بموجبه شعوب العالم المتحضر القديم. وظهرت الديانة المسيحية (الايمان بمجيء المسيح ـ المخلص) كرد فعل على انتصار روما والمجتمع العبودي، وكشكل من اشكال النضال الانساني ـ الاجتماعي ـ السياسي ـ الايديولوجي ـ الديني ضد العبودية الرومانية وضد ملحقها وخادمها الاستغلالية والفسادية اليهودية. وانتشرت العقيدة المسيحية اول ما انتشرت في البلدان التي تعرف اليوم بـ"الوطن العربي الكبير"، وكان لها الفضل الاول في تقريب شعوب تلك البلدان وتآخيها في الاطار الديني المسيحي، مما مهد لبلورة وظهور الامة العربية لاحقا. وهذا البحث المتواضع يحاول ان يلقي الضوء على هذه العملية التاريخية، التي هي من اكبر العمليات الحضارية في التاريخ والتي تؤكد ثلاث حقائق جوهرية: الاولى ـ حضارية الامة العربية. والثانية ـ ان الامة العربية ولدت في الكفاح ضد الاستعمار والاستعباد الاوروبي والفساد اليهودي. والثالثة ـ ان المسيحية هي الاس الاساسي لولادة الامة العربية
 
 
 
جورج حداد
 
في الـ25 كانون الاول من كل سنة يحتفل العالم المسيحي (بما فيه العالم العربي) بذكرى ميلاد السيد المسيح ومن ثم بدء السنة الميلادية الجديدة. واصبح يغلب على هذه المناسبة الطابع الاحتفالي، الطقسي والانشراحي، حيث تقام الصلوات التقليدية وتتم السهرات وتبادل الزيارات والتهاني والتمنيات بالصحة والسلامة والتوفيق. وفي البيئات المسيحية ـ الاسلامية المختلطة، يتم تبادل التمنيات الشكلية والتأكيد الكلامي على التعايش الاسلامي ـ المسيحي. ونظرا لسيادة "الثقافة" المملوكية والعثمانية، التي لا تزال تعشش في بعض الجماجم الفارغة وتجرجر اذيالها منذ مئات السنين، فإن بعض المتاجرين بالدين الاسلامي، ولا سيما في المواقع السلطوية والنافذة، وخصوصا بعض التكفيريين، لا يجدون غضاضة في تمنين المسيحيين باستمرار وجودهم في "المنطقة الاسلامية" طوال الحقبات الماضية. وبعضهم يرفع شعار طرد المسيحيين من بلاد العرب، ويعمدون الى تفجير الكنائس والاديرة والى قتل رجال الدين والمواطنين المسيحيين، ويدعون ويتصرفون وكأن المسيحيين هم "ضيوف" على الاكثرية الاسلامية، وليسوا اكثر من "جاليات غريبة وغربية" و"محميات اجنبية" و"تفاصيل" متخلفة عن "المسألة الشرقية".
ولضمان استمرار وجودهم، فإن المسيحيين التقليديين في مختلف البلدان العربية، هم ملزمون عمليا بأن يدعموا السلطة القائمة، ولو كانت سلطة صدام حسين او سلطة الاحتلال الاميركي وعملائه في العراق، والا أفلتت عليهم العصابات المسعورة المتجلببة زورا بالاسلام، لاقتلاعهم من جذورهم الضاربة في هذه الارض منذ آلاف السنين قبل ظهور المسيحية والاسلام. وهذا هو "الدرس" الاساسي الذي أريد تلقينه للمسيحيين المصريين والعراقيين والسوريين، في التفجيرات الاجرامية التي تعرضت لها بعض الكنائس والاحياء المسيحية في مصر والعراق وسوريا. اي: اما ان يكون المسيحيون مع السلطة العميلة لاميركا، ويحملون السلاح دفاعا عن انفسهم، من خلال الدفاع عن اميركا واسرائيل، واما ليرحلوا الى اميركا والغرب، واما... القبر والقهر! وفي سوريا المجاورة دست في بعض المظاهرات التي تقوم بها المعارضة المشبوهة شعارات مثل "المسيحي عا بيروت".
وفي الاجواء الاحتفالية الشكلية لعيد الميلاد، من جهة، والسياسية والامنية المشحونة، من جهة ثانية، تضيع المدلولات الدينية والتاريخية القيّمة لميلاد السيد المسيح.
ونحن نترك لرجال الدين المسيحي الصادقين التعامل اللاهوتي مع ضياع المدلول الديني ـ الروحاني لهذا العيد، وتحويله الى مناسبة كرنفالية تجارية لنشر التهتك والعربدة والاباحية والدعاية التجارية وتسويق السلع وعلى رأسها سلعة اللهو والاستعراض واستهلاك المسكرات والمخدرات والعاهرات.
ولكننا ـ كمواطنين في هذا العالم المجنون، ولا سيما كمواطنين عرب ـ نرى من الضروري التوقف عند ضياع المدلول التاريخي لرواية ميلاد السيد المسيح، ومجزرة قتل الاطفال في منطقة بيت لحم وجوارها، وهرب العائلة المقدسة واختبائها في مصر.
ونسمح لانفسنا ان نقول، امام تعجب من يريد ان يتعجب ونحن بدورنا نضع على تعجبه الف علامة تعجب والف علامة استفهام، انه خلال ما يسمى "الحروب الفونية" كان من الممكن لتلك الحروب ان تنتهي بتدمير روما، لولا التعفف الافلاطوني ونكاد نقول "المسيحي" (بالمعنى الاخلاقي) لهنيبعل. ولكن الامتناع "المسيحي!" لهنيبعل عن تدمير روما فتح الطريق لروما كي تقوم هي لاحقا بتدمير قرطاجة (146 ق.م) وبيع من تبقى من اهلها أحياء للنخاسين (وجلهم من اليهود) كي يقوموا بدورهم ببيع القرطاجيين الاشاوس كعبيد.
وبعد تدمير قرطاجة، اتخذ النضال ضد طغيان روما شكل ثورات العبيد. وبعد سحق الثورة الثالثة بقيادة الاغريقي او السلافي سبارتاكوس (71 ق.م)، اتخذ النضال ضد روما شكلا جديدا، نضاليا ـ اخلاقيا ـ دينيا، تمثل في انتشار "العقيدة المسيحية" (الايمان بمجيء "المسيح ـ ابن الانسان" الذي سيقضي على العبودية والظلم ويقيم العدالة ويساوي بين البشر).
وإن الرواية الانجيلية عن ميلاد السيد المسيح وتداعياتها هي تعبير ديني عن اول حركة تاريخية كبرى، اجتماعية وقومية، في طريق التكوين اللاحق للقومية العربية والامة العربية.
فالمنطقة الكبرى التي نسميها اليوم "الوطن العربي الكبير" وتقطنها "الامة العربية" الواحدة، كانت قبل ميلاد المسيح، تتألف من عدة بيئات طبيعية ومحاور اجتماعية ـ حضارية مختلفة، اهمها (كعناوين كبرى): المغرب العربي الكبير، وادي النيل، سوريا الطبيعية (فينيقيا وكنعان)، جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية والخليج، ما بين النهرين (العراق). وقد نشأت في القديم في هذه المنطقة المترامية والمتنوعة حضارات متميزة، لها شخصيات او هويات مستقلة ابرزها: الحضارة القبطية (المسماة: فرعونية، وهي تسمية خاطئة تماما لانها تسمي شعب وبلد باسم الحكام، كما هي تسمية "السعودية" اليوم، وهي تسمية لا مدلول حضاري ـ تاريخي فعلي لها، الا عرفا ومجازا)، الحضارة الفينيقية، حضارة اليمن وشبه الجزيرة العربية، حضارة ما بين النهرين. كما نشأت فيها العديد من الدول التي تركت بصمات لا تمحى في التاريخ والحضارة العالميين. ونذكر منها، بدءا من شمال افريقيا: نوميديا، قرطاجة، الدولة المصرية، الدول الفينيقية، الدولة النبطية، الدولة التدمرية، دول اليمن وشبه الجزيرة العربية، الدولة العراقية. وكانت الصفة المميزة لتلك الدول هو استقلالها بعضها عن البعض الاخر، حتى حينما تكون لها لغة واحدة (كالدول ـ المدن الفينيقية، او دول الخليج وشمال شبه الجزيرة العربية)، وعلى العموم فإنه كانت لكل من تلك الدول: لغتها، ومجتمعها واقتصادها وديانتها، ونظامها السياسي وبنيتها العسكرية. وبحكم الجوار الاقرب او الابعد كان يتم التعاون والتبادل التجاري والحضاري بين تلك الدول. ولكن، وبالرغم من التلاقي والتفاعل والتآخي بين شعوب تلك المنطقة، و"بفضل" تناحر انظمة الحكم والطبقات المالكة السائدة، فإن الطابع المميز للعلاقات بين تلك الدول كان التحاسد والتناحر والعداء المستتر او المكشوف، وكانت تحارب بعضها بعضا، وتسبي شعوب بعضها بعضا، وتأخذ سكان بعضها بعضا عبيدا. ولعل ابشع ما يمكن ذكره على هذا الصعيد هو: ان عددا من الدول ـ المدن الفينيقية قد ضمت اساطيلها الى اسطول الاسكندر المقدوني لدى حصاره واحراقه مدينة صور (وقد جاء في موقع "يا صور" www.yasour.org : ان مدن ارواد وجبيل وصيدون ورودس ضمت اساطيلها الى اسطول الاسكندر). كما ان ماسينيسا ملك نوميديا الامازيغية (الذي يعتبر بطلا قوميا تاريخيا لدى الامازيغ في شمال افريقيا) قاتل الى جانب القائد الروماني "سيبيون الافريقي" ضد جيش هنيبعل في معركة زاما التي هزم فيها هنيبعل (202ق.م)، والخيالة الامازيغ هم الذين باغتوا جيش هنيبعل وسحقوه لصالح روما. وقد "كافأت" روما فيما بعد البربر (الامازيغ) بأن استعبدتهم هم ايضا بعد تدمير قرطاجة في 146ق.م.  واستعباد اهلها الاماجد. ومع ان روما كانت تكره اكثر ما تكره قرطاجة والقرطاجيين، الا انها جعلت من اسم "بربري" مرادفا لصفة "همجي" و"متوحش" لاطلاقه على العبيد، من اجل "التبرير الاخلاقي" للاستعباد. وصار الرومان يسمون العبيد القرطاجيين انفسهم "برابرة" لتبرير استعبادهم ايضا.
وبظهور الشكل الاولي لـ"المسيحية"، اي مسيحية ما قبل مجيء المسيح، او مسيحية التبشير بحتمية مجيء المسيح "ابن الانسان"، وحتمية انتصاره على الموت وعلى العبودية الرومانية وعلى النخاسة (التجارة بالعبيد ـ بالانسان) اليهودية، ودعوته لتحرير لجميع شعوب العالم، ودعوته الى اقامة "ملكوت السموات" على انقاض انظمة العبودية واستغلال الانسان المتحيون للانسان المخلوق على صورة الله ومثاله، ـ نقول بظهور المسيحية الاولى (الدعوة لحتمية مجيء المسيح ـ المخلص) ظهرت اول "جماعة منظمة" اخلاقية ـ اجتماعية ـ ذات مدلول ومفعول سياسي (ذاتيا وموضوعيا) ـ وذات لحمة ايديولوجية/دينية/سماوية (فوق بشرية)، تبشر وتنادي بوجود "قوة خالقة" فوق الامبراطور او الملك او الطبقة السائدة او الجيوش "الارضية!"، وان هذه "القوة الخالقة" ستتجسد كبشر، لتنتصر على العذاب بالعذاب، وعلى الموت بالموت، ولتحرر كل البشر من الخطيئة ومن العبودية التي هي تجسيد للخطيئة وعقاب عليها.
وقد انتشرت هذه "الدعوة" او "الجماعة المنظمة المسيحية" صاحبة هذه الدعوة في ثلاث دوائر كبرى هي:
ـ1ـ الدائرة "العربية" (نقول "العربية" بشكل مشروط، عن تلك المرحلة، حتى لا نقع تحت مقصلة بعض "العروبيين" السخفاء و"ابناء عمومتهم" من اليهود السفلاء)، التي امتد فيها الانتشار "المسيحي القديم" (قبل ميلاد المسيح) من شواطئ البحر الابيض المتوسط، الى شواطئ المحيط الاطلسي، الى شواطئ البحر الاحمر، الى شواطئ المحيط الهندي، الى شواطئ الخليج العربي. (يوجد دراسة قيمة في شكل كتاب للباحث والمؤرخ العراقي فاضل الربيعي بعنوان "المسيح العربي، النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي ـ الفارسي". ويعتبر فاضل الربيعي انه يوجد شكلان للمسيحية وهما ما يسميه: النصرانية (مسيحية عيسى بن مريم) والمسيحية الرسولية (نسبة الى بولس الرسول). وهو يعرض لانتشار "النصرانية" في اليمن والجزيرة العربية والعراق والشام. ويستنتج من هذا الكتاب ان "النصرانية" ذابت في "الاسلام"، وان المسيحية الراهنة (التي تقول بالمسيح ابن الرب  والمسيح ـ الاله) هي المسيحية "الرسولية"، علما ان "العامة" درجت على المطابقة بين "النصرانية" و"المسيحية"). ونحن لا ندخل هنا في نقاش مع فاضل الربيعي. ولكن ما يهمنا هو ان باحثا ومؤرخا رصينا مثله يؤكد انتشار المسيحية ("النصرانية") في الجزيرة العربية والعراق والشام.
والعامل الاساس في انتشار "المسيحية القديمة" في هذه الدائرة هو التقارب النَسَبي ـ العنصري وبالاخص التقارب اللغوي والحضاري بين الشعوب الاساسية في هذه المنطقة. والكثير من المؤرخين يعتبرون ان هذا التقارب يعود الى جذر "قومي اصلي" واحد لتلك الشعوب هو: الامة العربية القديمة ـ الام، واللغة العربية القديمة ـ الام، التي تطلق عليها بعض التسميات غير دقيقة السمات مثل: العرب العاربة، او اللغة السامية ـ الام. وقد ساعد هذا التقارب النَسَبي ـ العنصري والحضاري على انتشار اللغة الارامية (اللغة التي تكلم بها وبشر بها السيد المسيح) في كل تلك المنطقة في مرحلة تاريخية معينة. وكان ظهور المسيحية الاولى (الدعوة الى الايمان بمجيء المسيح ـ المخلص وانتظار ظهوره) كدعوة وكتنظيم سري حديدي معاد للسلطة الرومانية، محفزا رئيسيا لتشديد التقارب بين شعوب المنطقة "العربية" الشاسعة. وفي مسار تاريخي لاحق، بعد ميلاد السيد المسيح وانتظام الحركة المسيحية وتوسعها، فإن هذا التنظيم تمخض عن ظهور الكنيسة (التي قاموسيا تفيد معنى مرادفا او قريبا من: "الجماعة"، "الجامع"، "المجموعة" ، التجمع", الخ.). وقد كسر ظهور الجماعة المسيحية، ومن ثم الكنيسة الجامعة، كل اشكال العداء القديمة بين دول وشعوب المنطقة. وبوجود الكنيسة المسيحية الشرقية ("العربية") وجد لاول مرة في التاريخ رابط "مجتمعي"، اخوي، منظم ومتين بين تلك الشعوب. ولعلنا لا نخطئ اذا قلنا ان هذا الرابط، اي "المسيحية الشرقية "العربية" وكنيستها (جامعها، او جامعتها) هي المدماك المنظم المتين الاول لظهور الامة العربية والقومية العربية الكبرى في المسار التاريخي اللاحق. وبعض "الاسلاميين!" المزيفين والتكفيريين الذين يناصبون اليوم المسيحية والمسيحيين العداء، انما يعملون ـ بوعي او بدون وعي ـ الى تدمير الاساس الاول والامتن للعروبة والامة العربية والقومية العربية والحضارة العربية، وبالتالي هم يعملون ـ بقصد او بغير قصد ـ لالغاء وجود الامة العربية عن الخريطة الحضارية والتاريخية للعالم، لصالح "الاسلام!" المزيف "العثماني" او "الجنكيزخاني" او "التيمورلنكي" . 
ـ2ـ الدائرة الثانية التي انتشرت فيها "الدعوة" و"الجماعة المنظمة المسيحية" هي: الدائرة الهيلينية، التي امتدت من ليبيا ومصر وسوريا، الى كيليكيا وارمينيا وجورجيا والقوقاز، الى انطاكيا واسيا الصغرى، والى بلاد البلقان (الاغريق والمقدون والالبان والبلغار والصرب والكروات).
والعامل الاساس في انتشار "المسيحية القديمة" في هذه الدائرة هو التفاعل بين الحضارة الاغريقية والحضارات الاقليمية القبطية و"السورية" و"العراقية"، وهو التفاعل الذي نشأت عنه الحضارة "الكوسموبوليتية" التي سميت تاريخيا "الحضارة الهيلينية" او "الهلينستية"، التي تنطلق من الحضارة الاغريقية ولكنها لا تتطابق معها كما يعتقد البعض بل هي اوسع واغنى منها بكثير.
وتجسد الاساطير الاغريقية التفاعل الحضاري في اطار الهيلينية. ومن هذه الاساطير اسطورة تقول ان زيوس كبير الآلهة الاغريق خطف "اوروبا" ابنة الملك الفينيقي اجينور وتزوجها، واطلق الاسم الفينيقي "اوروبا" على القارة الاوروبية. وتقول اسطورة ثانية ان "نختنبو" اخر فراعنة مصر الذي طرده الفرس من بلاده هرب الى مقدونيا، وكان ساحرا، وقد التقى والدة الاسكندر الاكبر وكانت عاقرا، فخدعها بأن كبير الآلهة زيوس سيضاجعها بصورة افعوان كي تحمل، وقام هو بمضاجعتها بهذه الصورة فولدت الاسكندر. ولهذا يسمى الاسكندر احيانا "ابن الالهين"، زيوس والفرعون الهارب، باعتبار ان المصريين القدماء كانوا ينظرون الى الفرعون كإله.
ومن ابرز الامثلة الحضارية ـ التاريخية على التفاعل الحضاري لشعوب المنطقة مع الحضارة الاغريقية، مثلان هما:
الاول ـ اخذ الابجدية الفينيقية من قبل الاغريق، وتأسيس الابجدية الاغريقية عليها (ومن الابجدية الاغريقية أخذت الابجدية "الكيريلية" التي اشتقت منها كل الابجديات السلافية، من جهة، والابجدية اللاتينية التي اشتقت منها غالبية الابجديات الاوروبية من جهة ثانية. ومن تاريخ نشوء الابجديات ذاته نجد الانشقاق الى شرق ـ غرب، ونجد الصلة الوثيقة بين الشرق العربي والاغريق والسلافيين (الروس والبلغار والصربيين الخ).
والمثل الثاني الكبير هو ظهور الفلسفة الرواقية التي اسسها الفيلسوف زينون الفينيقي (335 ق.م ـ 264 ق.م) الذي ولد في قبرص وعلم في اثينا. وقد دعت الرواقية الى رفض الاستغلال والظلم والعبودية، والى سيادة الاخلاق والحرية والتآخي البشري كقوانين طبيعية فوق القوانين المدنية. ومن وجهة نظر فلسفية ـ فكرية ـ ايديولوجية، فإن الرواقية مهدت لظهور وانتشار المسيحية و"تسلحها الفكري". ومن هذه الزاوية نظر يمكن اعتبار الرواقية انها المقدمة الفلسفية والفكرية و"الام المرضع" للمسيحية القديمة. وانا شخصيا اميل الى الاعتقاد ان تعفف هنيبعل عن مهاجمة وتدمير روما بعد السحق الكامل لجيشها في معركة كاناي (216 ق.م) انما يعود الى تأثره بالمبادئ التي كانت تدعو اليها الفلسفة الرواقية. وهنيبعل كما هو معروف كان على اطلاع على الفلسفة والثقافة الاغريقيين. وكان معلمه الاغريقي ملازما له
ـ3ـ الدائرة الثالثة لانتشار "الدعوة" و"التنظيم" المسيحيين هي: الدائرة السلافية (الروس والاوكران والبلغار والصرب والكروات وغيرهم). وقد اضطلع البلغار بدور مركزي كناقل رئيسي في هذه الدائرة، فيما اضطلع الروس بدور الجسم الاكبر والثقل الاساسي في هذه الدائرة. ويمكن رسم الخط البياني التالي: من المسيحيين العرب (من سوريا الطبيعية اكثر تحديدا) انتقلت الدعوة والتنظيم المسيحيان الى الاغريق، كما انتقلت الابجدية. وعن الاغريق اخذ البلغار الابجدية والمسيحية، وعن البلغار اخذ الروس والشعوب السلافية "المسيحية الشرقية" الاخرى الابجدية و"المسيحية الشرقية". وتقول الرواية التاريخية شبه الاسطورية ان الاخوين القديسين "كيريل" و"ميتودي" (وهما من اصل يوناني، ولكنهما تبلغرا) هما اللذان صاغا الابجدية البلغارية القديمة استنادا الى الابجدية اليونانية القديمة، وهما اللذان ترجما الكتاب المقدس من اليونانية الى البلغارية القديمة، وهما اللذان نقلا الديانة المسيحية من اليونان الى بلغاريا، ومنها الى الروس والشعوب السلافية الاخرى. وقد اتخذت الكنائس الشرقية (العربية واليونانية والبلغارية والروسية والاوكرانية وغيرها) خطا مستقلا عن البابوية في روما، وهو الخط الذي تبلور اخيرا في ما يسمى "الكنيسة الارثوذكسية"، بعد انشقاق الكنيسة الى "كاثوليكية"(غربية) و"ارثوذكسية"(شرقية) وقد وقع الانشقاق في سنة 1054 بعد مدة طويلة من الجفاء بين روما والكنيسة اليونانية. وقد دعت روما اليها القديس كيريل (الذي كا يعرف ايضا بلقب "الفيلسوف") للانضمام الى الكرسي الروماني. وقد توفي القديس كيريل سنة 869 في روما ولا يزال قبره هناك، ولكنه امتنع عن الموافقة على خضوع الكنائس الشرقية لروما
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net