Tahawolat




د.فيفيان حنا الشويري
باحثة وأستاذة جامعية

  "الإنسان ابن بيئته"، و"الإنسان ابن الأرض" عبارتان تتردّدان في كل مرّة نتحدّث فيها عن تأثير المحيط على البشر وسلوكهم وأنماط حياتهم، وهم بذلك لا يختلفون عن باقي الكائنات الحيّة المتأقلمة مع بيئتها. وأيضاً تتردّد العبارتان في كل مرّة نتحدث فيها عن إنتاجات البشر وابتكاراتهم، فهل للبيئة والمحيط من تأثير مباشر على إبداع الإنسان؟

الإنسان أخذ لون بشرته من الأرض
الإنسان ولد في إفريقيا أسود، وهذا ما دلّت عليه أقدم الشواهد عن هياكل بشرية وجدت الى اليوم في كينيا (هيكل Lucy). ومع الترحال تباعاً، نحو الشمال، إبيضّت البشرة تدريجياً، ومع استيطان الإنسان واستقراره في الشرق، نشأ المتوسطي ذو البشرة السمراء وهو الإنسان العاقل العاقل (Cro-Magnon /Homo Sapiens Sapiens) الذي أبدع الحضارة في المشرق القديم. وتشير الأبحاث العلمية الى أن بشرة الإنسان تميل للرجوع الى أصولها السوداء وليس العكس، فاللون الأبيض هو طارئ وعرضي وحالة مكتسبة، بينما اللون الأسود هو الأساس. وتمثّل الدوائر الملوّنة التي تُرفع أثناء الألعاب الأولمبية، كل أربع سنوات، أصناف البشر بحسب ألوانهم التي تعكس لون تربتهم. وهذه الجغرافية لم تقتصر على تلوين البشرة، بل أثّرت في الطباع وعلى الذهنية، فالإنسان المتوسطي متلوّن، يَبْيَض لونه شتاء ويغمق صيفاً وهذا أثّر في طابعه المتقلّب تقلّب الطقس عنده، وهذا التقلّب ليس سلبياً وليس إيجابياً بالمطلق، بل جعل المتوسطي مطواعاً أي خلاّقاً، هذا إذا مال نحو الاعتدال وليس التطرّف، هذا التطرّف الذي مردّه التضاريس، فنجد القسوة عند سكان الجبل والسهولة عند سكان السهل وما يتمتعون به من النفس الطويل بفضل راحة التنقل في أرضهم، في حين أن الجبليين متهدّجة أنفاسهم لوعورة تضاريسهم، فتغلب على أغانيهم وأهازيجهم شدّة الإيقاع كمن يضرب في الصخر، بينما يميل غناء السهليين الى المواويل والحدا، على نسق "يا ليل يا ليل" التي تطول الى ما لا نهاية في البوادي والصحاري، حيث المخيّلة تتطوّر بفعل التوحّد في الصحراء (الجن والعفاريت في البوادي وعبقر للإلهام الشعري... وما الى هنالك من مخلوقات خفية من ضرب الخيال)؛ وكذلك الوحدة في البحار، ما جعل البحارة يخترعون أغلب المخلوقات الأسطورية التي تخيّلوا وجودها حولهم دون أن يروها، مثل حوريات البحر التي تدلّ في رمزيتها الى الحنين الى الوطن والعودة الى كنف العائلة والمجتمع. وهذا ما أوجد ظاهرة أنسنة العناصر الطبيعية وكلها تجسّدت في الميثولوجيا وصارت لها دلالاتها ورمزيتها (الحوريات الحنين الى الوطن، للمرأة، للأم/ النباتات شهيدات الحب ودورة الفصول، موتها وقيامتها/ التحوّل في الطبيعة متمثلاً في التقمص على هيئة الآلهة مثل زوس وتمظهراته العديدة أو بوذا/ والتقمص بشكل عام هو التماهي البشري مع الطبيعة والبشر ذكراً وأنثى في تمثل الرياح والأنواء والعواصف ومظاهر الطبيعة الأخرى وأخذ أوصافها). وهذه الوحدة أدّت الى الابتكار بالفطرة وتنمية السليقة، فالراعي أبدع الألحان دون تعلّم، والشاعر غنى الشعر في البوادي والقفار دون تعلّم، وعلى وقع ما أبدع وضعت فيما بعد الأوزان والنوتات الموسيقية، تماماً كما وضعت قوانين اللغة بعد الأخذ عن كل اللهجات واللكنات المحلية، فأضحت لغةً فصحى لها قوانينها وقواعدها، كما قُونن كل شيء في المعاهد، وحتى نفس البشر التي قيّدت بقوانين علم النفس الحديث الذي يرتكز على عرض ووصف الأهواء والمشاعر والغرائز والميول التي فطرت عليها النفس البشرية منذ وجودها. وحركة الأفلاك والنجوم احتلت مقاماً كبيراً في اهتمامات البشر الذين اتخذوها كدلائل يهتدون بهديها في حلّهم وترحالهم، ولتنظيم أوقاتهم وطقوسهم ولمعرفة المناخ أيضاً، وتعاظمت أهميتها في حياتهم لدرجة أنهم جعلوها آلهة تسيّر حياتهم وتسدّد خطاهم ومصائرهم كالنجم الجيد والنجم السيئ (طالع جيد/طالع سيئ)، ولا زلنا الى اليوم نؤمن بالأبراج والتنجيم والغيب والسحر رغم كل التطوّر التقني الذي خوّل البشر الاستغناء عن مراقبة السماء في معرفة الطرق والوقت والمناخ... ولا ننسى المفردات التي استنبطها الإنسان للتعبير عن كل ما ابتكرته مخيلته من أسماء ومصطلحات وأفعال وصفات... تملأ المعاجم والقواميس.
الإلهة الأم هي الأرض الأم
  ولعلّ أهم الرمزيات المؤنسنة للطبيعة على الإطلاق المرأة والطبيعة، هذه الإزائية الأزلية بين الخلق والأمومة، فالأرض هي الأم والمرأة، هي إلهة الأرض واسمها حواء أي الحياة، والإلهة الأم تصوّر غالباً مع الحيّات (تماثيلها عديدة في سوريا وفي جزيرة كريت)، والحيّة هي رمز الأبدية وتتجدّد كما الأرض بخلع جلدها موسمياً. ويعزى الى المرأة اكتشاف الزراعة التي أدخلت البشرية في حقبة تعتبر نقلة نوعية في مسيرتها الحضارية، من التنقل والصيد الى الاستقرار والإنتاج، ومن البداوة الى المدنية، وتحفل كتب الحضارات القديمة بالصور الدالة على هذه الرمزية الأم/ الأرض، ولكن الصورة الأجمل على الإطلاق وأكثرها تعبيراً تلك التي ذكرها أحد طلابي عندما بادرني بخجل، معقبّاً على حديثي عن الأم والزراعة، أن المرأة الريفية في بعض مناطق سوريا الزراعية حيث تعمل النسوة على قدم وساق مع الرجال، ما زالت الى اليوم لا تخلع زنارها الذي ربطت به بطنها، إلا بعد أن تنبت فيه سنابل القمح التي علقت فيه بينما كانت ترشّ الأرض بالبذار، وهذا يعني أنها أصبحت هي الأخرى قريبة من الوضع مثلها مثل الأرض. والمرأة هي الشجرة أو المعبودة وهي جميع أنواع الورود والأزهار وهي النبات على أنواعه والذي قُدس في المعابد من خلال الزينات الدقيقة التي غطّت جدرانها (لقد بلغ فن نحت النباتي في بعلبك ذروة التقنية، خاصة ورقة العنب البقاعية).

الفن كأداة تعبير عن الطبيعة
  والفنون على أنواعها، والتشكيلية منها على وجه التحديد، هي الأداة التعبيرية الأهم عن قدرة الإنسان الابتكارية من خلال نقله الطبيعة وتمظهراتها في أعماله، ولعلّ التيار الرومنسي (Romantisme) في أوروبا، يشكّل المحطة الفنية والأدبية الأبرز في تعاطي الإنسان مع الطبيعة واندماجه معها الى أبعد الحدود "انظروا الى مشهد الطبيعة، انصتوا الى الصوت الداخلي. ألم يقل الله كل شيء لعيوننا، لوجداننا، لحكمنا؟" (جان - جاك روسو)؛ "لنصوّر الطبيعة، ولكن الطبيعة الجميلة" (شاتوبريان)؛ لتأتي بعد ذلك، مرحلة الانطباعية (Impressionnisme) التي افتتحت القرن العشرين، ممثّلة أكبر التيارات الناقلة للطبيعة في كل تحوّلاتها وتمظهراتها، لدرجة أن بعض الإنطباعيين (Manet/Monet/van Gogh…) واكبوا تغيّرات الضوء وتأثيره على العناصر والأشياء عشرات المرّات في اليوم الواحد ونقلوا هذه التغييرات والانطباعات بحذافيرها متحدّين آلات التصوير الفوتوغرافي التي كانت قد ابتكرت مطلع القرن، كما وأبرزوا أهمية الاختلافات اللونية وما تتركه من انطباع في اللوحة من حيث تدرّجاتها وتموّجاتها والظلال الذي تحدثها... هذه الألوان التي يستعين بها علماء النفس اليوم من أجل تأمين الراحة للمريض، وعلى رأسها الأزرق، لو تعلمون!
ومع الرومنسيين والانطباعيين لم يعد المحترف هو المكان الوحيد الذي يعمل فيه الفنانون، بل التجأوا الى الطبيعة لإغناء تجربتهم لما تمنحه من تنوّع لا يسمح به جو المحترف، فخرجوا من ظلمة المحترفات ليبدعوا في الطبيعة، ليس فقط بنقل مشاهدها بل بالتعامل مع عناصرها، وأكثر ما لفتني هذا الفنان السكوتلندي، الذي عُرضت أعماله في وثائقي مؤخّراً، وهو يتعامل مع الثلج والجليد رغم اليقين أن أعماله ستذوب، ويتعامل مع الحصى والحجر، في عملية تركيب مستمرة على شاطئ البحر حيث المدّ والجزر يدمّران باستمرار قطعه المركّبة بعناء، ويصرّح أنه يقدّمها للبحر كهدية: "فمن خلال تهدّمها، نستقي الأشياء التي تغيّر حياتنا وتسبّب الصدمات". وكم تكون فرحة هذا الفنان عندما يجد أن قطعته الفنية عادت وبرزت بعد الجزر وبرونق أكبر، وكيف صمدت. ويتعامل مع النبات ويتكلم عن نبتة السرخس (Acanthe) السامة، الصلبة، القاسية والصعبة العمل والتي تشبه شفرات الحلاقة ويطوّعها حال خروجها من الأرض، فنقع على عالم مجهول من خلال ملاحظته ورصده الدقيق للطبيعة ومراقبتها. ويقول إن العمل الحقيقي هو التغيير كالذي يحصل باستمرار في الطبيعة ويتحدّث كيف تغيّرت طريقته في التقاط الصور المجازية في مخيلته والحقيقية من خلال عدسته، وإننا لندهش لشدّة انصهار هذا الفنان مع الطبيعة، ورغم أن عمله مضنٍ لأنه يمتدّ على مساحات واسعة، ولكنه فريد، لكوّنه يستمد مخططه من العناصر كالنهر الذي يقول عنه إنه الخط الذي يمشي عليه، والنهر هو نهر الماء ونهر الصخور ونهر النباتات ونهر الشجر ونهر الحشرات ونهر كل شيء... وخاصة نهر الحياة، لذا تغلب على أعماله التموّجات والتعرّجات (ondulation)، بحيث يزيّن كل شيء بشرائط ملتوية، حتى أنه يستفيد من صفوف الخراف ويعتبرها حيوانات فعّالة بشكل غير معقول يستفاد من كل شيء في تصرفاتها، ناهيك عن دورها في الاقتصاد، ولكن أيضاً في تخريب النباتات بحيث تساعد على نمّوها كما وتغّير معالم المنظر الطبيعي. وأحسن ما يقوله: "لا أعتقد أن الأرض بحاجة إلي، بل أنا بحاجة إليها، فهي التي تعرّفني على جذوري وعلى نفسي". ومثل هذا الفنان، أولئك الذين يرسمون بالرمال بشكل إبداعي، فكم هم مندمجون مع المادة ويتنشقونها كما يتنشقون الهواء ويصنعون منها الزهريات الجميلة التي تباع في الأسواق العربية، والتي تعكس البيئة التي استلهموا فنّهم منها. وهذا يذكّرنا بشيللر الذي كان يستلهم الإبداع من تشمّم التفاح العفن. أما الشاعر العربي، عليّ بن الجهم، عندما ضاقت به الحال، توجّه إلى الخليفة المتوكّل لمدحه متكئاً على صور بيئته الصحراوية القاسية التي عاشها لينشده مادحاً:
    أنت كالكلب في حفظك للودّ      وكالتيس في قراع الخطوب
    أنت كالدلو، لاعدمناك دلواً       من كبار الدلا كثير الذنوب 
وهذه الأوصاف في مقام الخليفة أغضبت الحضور، غير أن المتوكّل بفطنته منحه منزلاً في بستان قريب من الرصافة، المدينة القريبة من جسر بغداد والمعروفة بخضرتها وسوقها. وبعد تأقلمه مع هذه الطبيعة الجديدة، طلب منه المتوكّل بعد مدّة أن يسمعه من جديد شعره. فأنشده قصيدته المشهورة التي، قال عنها الشعراء: "لو لم يكن لديه إلا هي لكفته أن يكون أشعر الناس"، ومطلعها:
   عيون المها بين الرصافة والجسر      جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

من الطبيعة استوحى الإنسان صناعاته
  إنّ البيئة لها دور كبير في التصميم المعماري على اختلاف المواد الموجودة في كل بيئة وحسب طبيعة المناخ التي تفرض أنواعاً مختلفة من المعالجات التصميمية مثل وجهة الرياح وضوء الشمس والفتحات المخصصة للتهوية... كما وأن الثقافة الخاصة بكل بلد تفرض أنماطاً معيّنة تختلف بين البلدان، فحيث الثقافة الدينية كبيرة تكثر المساجد والكنائس وأماكن العبادة بشكل عام، وهناك مدن دينية الطابع مثل الفاتيكان ومكّة وأبنيتها تختلف تماماً عن الأبنية الثقافية أو الأبنية الخدماتية وغيرها. وأهمية الأكواخ البدائية التي ما زالت تبنى اليوم لدى الشعوب كافة تعكس البيئة التي أمدّت الإنسان بالمادة التي بنى مساكنه منها، ومثل هذه الأكواخ ما نجده في إفريقيا، ومنها بيوت البردي في الأهوار في جنوب العراق، وهو تراث إنساني ما زال مستمراً ويعود الى أكثر من 5000 سنة، وهي بيوت من القصب والبردي مبنية فوق المسطحات المائية التي تكوّنت من ترسّبات نهري دجلة والفرات والتي شهدت ولادة وتطوّر الحضارة السومرية العريقة. وهذه البيوت ليست طراز سكن فحسب، إنما أسلوب معايشة مع البيئة وتطوّرات المناخ. ويبيّن كتاب "عرب الأهوار" الذي عاصر كاتبه سكان المنطقة حياتياً، "المعدان"، وجود قنوات الري لغاية الخمسينيات من القرن العشرين مرصوفة بألواح خشبية، الأمر الذي يدلّ على أسلوب التعامل السومري مع البيئة وتدبير شؤون المياه في حال ارتفاع منسوبها في نهري دجلة والفرات، إذ يساعد القصب الطيور في بناء أعشاشها بخلاف الأسمنت، وهكذا تكوّنت محميات طبيعية من أشجار وطيور وأسماك. واليوم، يتمّ تأهيل نصف مساحة هذه المحميات الطبيعية من خلال استعمال المواد الطبيعية والناتجة من بيئة الأهوار كالقصب والبردي. ويمكن مقارنة بيوت الأهوار القصبية هذه مع البيوت التي اكتشفت في تخوم جبال الألب السويسرية قبل قرن ونصف، وهي بيوت مصنوعة من الخشب والعظام والجلد، مرفوعة على أعمدة مربوطة إلى بعضها البعض بواسطة جسور وعبّارات خشبية (sur pilotis). والمقارنة بين هذين النمطين المعماريين تدلّ إلى وجود قواسم مشتركة بين وسائل عيش الشعوب الريفية، في العصرين الحجري والبرونزي قبل الميلاد، ومدى اهتمام سكانها بالبيئة التي تعاملت معها كنصير وكضامن بقاء. والجدير ذكره أن البيوت الخشبية السويسرية بُنيت قريباً من البحيرات ما جعلها في منأى من التخريب والعبث ولا زالت باقية إلى الوقت الراهن، لكنها مدفونة داخل الرمال أو وسط البحيرات، أمّا بيوت البردي العراقية، فهي قائمة حيّة يسكنها عرب الأهوار، إضافة الى الزوارق، وسيلة التنقل بين النهرين، ولا تزال مستعملة وبأنواع كثيرة ومختلفة.   
  وكانت الطبيعة ولا زالت الملهمة الأولى للإنسان في ابتكاراته الصناعية، وحتى في مجال الصناعات الثقيلة والصناعات الحربية التي تعتمد على الطبيعة لتعطي أشكالاً لآلياتها (الغواصة /الحوت؛ المروحية الأوبتيكا/ الجراد؛ خيوط العنكبوت في الإطارات وحرير دود القز؛ الأفخاخ والآليات والخوذ التي تغطيها النباتات في الأحراش من أجل التمويه). وتكثر الأفلام التي تعرض مدى استعانة المخترعين بالطبيعة والتي ساهمت مراقبتها في تحديد مصير دول كبرى منها على سبيل المثال الأسطول الإنكليزي الذي كان ينافس الأسطول الفرنسي في الوصول الى العالم الجديد، وتحدّيه للمصاعب وللقراصنة، ففي حين كان القائد الإنكليزي يبحث عن الوسيلة للإنقضاض على العدو الفرنسي، كان من بين طاقمه طبيب وعالم مهتم بالنباتات والأحياء وتجميعها وتصنيفها، وكان هناك دائماً مواقف صراع بينهما لأن الأول لا يفهم إلا بالبطش العسكري، بينما الثاني له نظرة ورؤية علمية للأشياء ويحتاج الى النزول الى اليابسة لجمع الأنواع الجديدة خاصة "الطائر الذي لا يطير". واحتدم الصراع بين الرجلين: الأول لا يريد التوقف خشية أن يسبقه الفرنسيون، أما الثاني فكان مغتماً لمروره بعدد كبير من الجزر ولا تسنح له الفرصة أن يعاينها عن قرب ويتعرّف على أنواع أحيائها عن كثب. وحصل أن أصيب الأسطول والطبيب في إحدى المعارك، فاضطر القائد أن يتوقّف في جزيرة "الطائر الذي لا يطير" حتى يستعيد أسطوله قدرته للانطلاق من جديد. وفي أسبوع النقاهة هذا، استغنم الطبيب العالم الفرصة للخروج الى الطبيعة وجال في أرجاء الجزيرة وجمع ما جمع من معلومات عن أحيائها، ولكن الأسطول الفرنسي فاجأ الإنكليز بهجوم غير متوقّع، فأسرعوا لتدارك الأمر، فاحتار القائد كيف يخلّص سفينته وطاقمها، فما كان منه إلا أن استمع لنصائح العالم التي اعتمد على حيل الحشرات والطيور، خاصة الطائر الذي لا يطير والذي كان قد وجده بعد عناء طويل، في تخليص نفسها من الأفخاخ من خلال التمويه، كأن تتحوّل الحشرة الى عود خشبي يتماهى مع أغصان الشجرة التي اختبأت فيها، أو أن يتغيّر لونها والى ما هنالك من حيل، وهكذا كانت الطبيعة المعلم الذي منه استقى القادة الحيلة، ولولا استماعهم لنداء الطبيعة لما كانوا خلصوا، فالطبيعة يستمد منها الإنسان ليس فقط إبداعه، بل خلاصه وبقاءه أيضاً. وإن المطلع على مواضيع لها علاقة بالحواس وأدواتها يعلم أن النسبية تلعب الدور الأهم بالنسبة لحواسنا، فالمطابقة معدومة بين شخص وآخر، فما من ذوق مشترك ولا من نظر مشترك (ولا ننسى مرض عمى الألوانdaltonisme )، وأن أضعف الحواس عند المرء هو الشمّ وهو الأكثر عرضة للضعف عنده، بينما لدى الحيوان الشمّ هو من أهم الحواس، فلا تجب الاستهانة بهذه القدرة عند الحيوان وما لها من أهمية في حياة البشر وضمان سلامتهم خاصة وقت الأزمات كالزلازل والفيضانات وغيرها من الكوارث، والتي يُستعان خلالها بالكلاب للتعرّف على الأحياء تحت الأنقاض، فكم من كلب أنقذ حياة آدميّ! ولكن بالمقابل، كم من آدمي اهتم بعالم الحيوانات وبيئتها وأثرها في حياته؟! وإذا ما أحصينا عدد القنوات العالمية المتخصصة بالطبيعة والبيئة، نجد أن لا عدّ لها ولا حصر، ولكن ولا واحدة منها عربية، والأنكى أنه رغم أن الفضائيات تبثّ قنواتها الى العالم العربي، يبقى السؤال: ما هو حجم مشاهدتها من قبل شعبنا؟ وهذه إشكالية بذاتها. فهل يضيّع المشاهدون العرب وقتهم بالبيئة وحيواناتها وأحيائها ويهملون المسلسلات التي تعالج مَنْ تزوج مَنْ ومَنْ طلق مَنْ ومَنْ أحبَ مَنْ ومَنْ قتل مَنْ ومَنْ... مَنْ...؟ أيعقل أن يترك حريم السلطان بدون مشاهدين؟ وكيف يحقق العثمانيون الجدد ما فشلوا في تحقيقه منذ قرن؟ كيف يُهمل التتريك بهذه البساطة؟ وفي هذا التتريك الجديد تطبيع جديد وأقلمة من نوع خاص، وبالتالي طغيان ثقافة على ثقافة، فأهلاً بالعبودية وإن الطيور على أشكالها تقع!

سعاده مناصر للبيئة
  والتلوّث أنواع وأشدّه التلوث العقليّ وإن تلوّث البيئة يلّوث الإبداع وتشويه المعالم محبط للخيال وللابتكار ويوقف الإلهام بشكل مخيف. وهذا كريس وِليامز، أحد خبراء البيئة والمناخ وأحد معدّي الدراسة والأبحاث في الشؤون الاجتماعية بجامعة لندن يعلّق على مثل هذه الحقائق بقوله: "لقد أصبح الدماغ البشري في خطر جَرَّاءَ السلوكيات التي اقترفها بنفسه، بينما لا يوجد أي شيء في النظام البيئي يؤذي نفسه بنفسه". ولكن، هل من يستشهد به من أعلامنا في موضوع البيئة؟ يسأل سائل. وهذه أليزنجيلا كارولينو أستاذة التدريس البيئي في جامعة تويوتي كوريتيبا، بارانا، بالبرازيل، كتبت تحت عنوان "نشوء الأمم" كتاب جدير بالدراسة والاهتمام: "يسرّني بادئ ذي بدء أن أقدّم التهنئة لمنظّمي ومعدّي كتاب "نشوء الأمم"، تأليف العالم الاجتماعي أنطون سعاده، وترجمة الأستاذ يوسف المسمار، كما أودّ أن أبدي بعض التنويهات الخاصة بموضوع البيئة الذي تناوله الكتاب، مستهلة بكلام المؤلف سعاده حيث يقول: "ليس للإنسان حاجة من حاجات الحياة يستطيع سدّها إلا مما هو في الأرض". لقد رافق الإنسان تغيّرات الطبيعة منذ بداية ظهوره على الأرض، وفي المجتمعات البشرية البدائية كان تدخله وتأثيره على الطبيعة أقلّ بكثير مما وصل إليه في زماننا الحالي غير مستخرج منها إلا ما كان ضرورياً لأوده وبقائه على قيد الحياة مثل صيد الحيوانات البرية وصيد الأسماك، والاستفادة من جلود الحيوانات للتدفئة في فصول الشتاء القارسة، واستخدام النباتات للأغراض الطبية وغيرها من الأمور. ومع مرور الزمن، فإن علاقة المجتمع المعاصر مع الطبيعة أصبحت علاقة تنافر وعدم انسجام، ما سبّبّ ارتفاعاً كبيراً في التدهور البيئي (...) نظراً إلى أن اكتساب الرأسمال جعل الإنسان ينظر إلى الطبيعة من الخارج بدلاً من أن يعتبر نفسه جزءاً منها، أو بحسب ما عبّر عنه سعاده بالقول: "يكيّف الإنسان الأرض، ولكن الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التكيّف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية". إن السياسات البيئية الحالية لبعض البلدان هي محلّ ريبة وشك نظراً للحدود البيولوجية لكوكب الأرض التي تجاوزت الكثير من المجالات. ولذلك، فإن الإدارة العامة هي أمر ضروري سواء كانت على الصعيد الاتحادي الفدرالي(...) والشركات التي تمارس نشاطاً صناعياً غالباً ما يؤدّي نشاطها إلى التدهور البيئي. وهذه هي اللحظة التي تتطلب تغييراً في السياسة البيئية العالمية على مستوى الكوكب الذي نعيش عليه، وذلك بمساعدة كل مجموعة من الأساتذة الأكاديميين والسلطات وقيادات المجتمعات التي لها دور مهم في هذه العملية، وسوف يؤدّي ذلك إلى تعزيز المواطنة. نحن بحاجة إلى إيجاد الأسباب والتوعية التي تؤدّي إلى تحويل مختلف أشكال المشاركة إلى إجراءات تتحقق فعلاً في الممارسة العملية، كما ذكر في تقرير "برونتلاند"، والذي هو وثيقة بعنوان: "مستقبلنا المشترك" الذي أعدّته اللجنة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية. إن من الضروري أن يكون لنا على هذا الكوكب طريقة من طرق التنمية التي تلبّي حاجات الجيل الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة، وهذا يعني تمكين الناس في الحاضر والمستقبل من الوصول إلى مستوى مُرضٍ من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنجاز الإنساني الراقي، والقيام في الوقت نفسه باستخدام مستدام لموارد الأرض والحفاظ على الأنواع الطبيعية ووسائل حماية الأمكنة والبيئات التي يعيش فيها بعض أنواع الحيوان أو النبات.     أختم تنويهاتي هذه، تتابع الباحثة، بما توصّل إليه سعاده في قوله: "لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة". وبناء على ما تقدّم، فإن كتاب "نشوء الأمم" جدير بأن يقرأ ويُدرس دراسة متأنية وباهتمام كبير". (المرجع، "النهضة"، "نشوء الأمم" لسعاده مترجماً إلى البرتغالية وقراءات أكاديمية حوله).

إبداع جبران وتقصير الجاليات!
  جبران أبدع وهو في نيويورك، فصورة بشري ولبنان وجباله وجروده وثلجه ووديانه لم تغب لحظة عن باله، رغم البعد المكاني والجغرافي بين سوريا وأميركا، لم تغب صورة بلاده وشعبها من مخيلته، بل كانت مصدر إلهام دائم له ومن خلالها كتب وصوّر وأبدع. 
  ولكن ماذا أبدع جبران؟ أبدع الأمّة بامتياز! لقد أبدع الأمّة الواحدة الموحّدة وهو في الغربة. ولكن ماذا يفعل أبناء الوطن في الغربة اليوم؟ أين دورهم؟ هل هم مجرد أعداد مالية وانتخابية وزيادة عدد لا أكثر ولا أقل؟ ألم يظهر من بينهم الى اليوم جبران واحد يستفيد من الحرية حيث يقطن خارج زنار النار الذي يتخبّط به الوطن الأم كي يقود هذه الأعداد نحو الحرية برفع الصوت عالياً ضد التعدّي الذي تتعرّض له الأمّة من الكون أجمع؟ إنه لأمر عجيب حقاً هذا النوم الذي ينغمسون فيه، نوم أهل الكهف الذي طال لدى الجاليات السورية في العالم! ما هذا المخدر الذي شربوه؟ ما هذا اللاإدراك واللاوعي الذي يتخبّطون به؟ ما لنا لا نراهم يقلبون الدنيا رأساً على عقب ليتفادوا ضياع الوطن وزواله الى الأبد؟ نحن نستنكر هذا السكوت بشدّة ولدرجة أننا نتساءل: هل هم موجودن حقاً أم أنهم مجرد أوهام يحكى عنها؟ وعلام يتغنون بجبران ويتغنون بما يطبع له سنوياً من كتب والتي يجترون أسماءها ويعرفون قصصها ويعرفون الحديقة التي تحمل اسمه حيث يأكلون الفوشار والأيس كريم وربما يرمون الفضلات في أرضها! ولكن هل من أحد فقه معاني كلمات جبران الحقيقية وأهدافها؟ هل من رابطة قلمية تأخذ بيد هؤلاء المغتربين المتغرّبين والذين نسوا أصولهم؟ ولكن هل من قلم أصلاً؟
  إن الأبداع هو إبداع الهوية فلا أبداع لا هوية له، ومبدعو الهوية قلّة فما من جبرانيين بل جبران واحد، أبدع حتى في نيويورك بعيداً عن أرضه الأم، لأنه حمل الوطن في عينيه، حمل همّ الأمّة في قلبه لدرجة أفنى حياته وصحّته من شدّة حزنه عليها؛ حمل أمّه أرضه في وجدانه ولم يكتب إلا بوحي دموعها ("وجه أمّي وجه أمّتي!") وبوحي آلامها وخاف على مصيرها أكثر من خوفه على نفسه، لأنه تيقّن أن مصيره من مصيرها ولا وجود له من دون أمّة حرّة كريمة وعزيزة. وضحى بشبابه من أجل تحريرها بقلمه وريشته ورفع الصوت عالياً في بلاد الاغتراب، ضارباً بعرض الحائط ما تؤول إليه مصالحه فيها! فماذا تفعل الجاليات المليونية في الخارج سوى التكاثر كالمجموعات النملية التي ترواح مكانها منذ الأطوار الجيولوجية الى الآن؟ ولكن هل تساءلنا لماذا هذا التقاعص وما أسباب هذا السكوت أمام ضياع الوطن؟ لأن كل من تغرّب ذهب وهو قرفان من بلاده ولا يستحق حتى أن يشبّه بجبران الذي أجبر على الرحيل، وذهب وهو شبعان من تراب بلاده، متشبّع من صور بلاده، متضخّم من جمال بلاده، وهل يكون الفنان غير ذلك؟ وهل لشاعر أن يكون غير ذلك حتى يستحق هذا اللقب؟ وهل لأديب أن يكون أديباً بلا أدب وأقلّه معرفته أدباء أمّته التي طالما تغنى جبران بأعمالهم لا بل وعرّفنا عليهم؟ وإلا كيف أصبح نبيّ الأمّة لولا حبه للأمّة؟
   هذا هو تأثير البيئة على الإنسان وما من سواه تأثير وما من سواه إبداع!

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net