Tahawolat
أيضاً وأيضاً "المسيح المعلم الثائر. هكذا تكلم يسوع"...
تتواصل وبزخم كبير ردود الفعل حول كتاب "المسيح المعلم الثائر. هكذا تكلم يسوع" لمؤلفه الدكتور عاطف خليل الحكيم، وهذا بحد ذاته بادرة خير لأنها تعكس وضعاً صحياً للمجتمع ألا وهو أن الكتاب بألف خير والقراء ما برحوا موجودين، وعلى عكس توقعاتنا، فهم يتكاثرون ويبرهن على ذلك الرواج الكبير الذي حققه هذا الكتاب الذي نفذت الطبعة الأولى 2010، المطبعة البولسية) منه كلها تقريباً، رغم كل ما يعصف بالعالم العربي من دمار ثقافي واجتماعي، ومؤامرات وحروب إلغاء ومحاولات استعمارية متجددة.

ولكن ما هي طبيعة ردود الفعل هذه حول هذا الكتاب، أهي كلها إيجابية أم كلها سلبية؟ وبتعبير آخر، أهي بيضاء، سوداء أم رمادية ضبابية؟ لعل الضباب الرمادي يلف معظمها حتى لا نتطرّف في حكمنا، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد ثمة من هو ضد بالمطلق ومؤيد بالمطلق، فالطرفان موجودان وكثر نقدُهما حول الكتاب وكاتبه، ولكن ثمة فريق آخر يقف موقفاً وسطياً مؤيداً ومعارضاً بنفس الوقت. يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين الأغلبية وهو أنهم ما برحوا رهينة التقليد المبتزل، المقيّد بسلاسل العبودية والتبعية العمياء. فمن لا يؤيد ما طرحه الكتاب، إنما ذهب بحسه ولا وعيه مذهب المتطرفين الدينيين أنفسهم فلا يرى في الكتاب إلا المسيح الذي يعرفه هو أو الذي لقنه أياه رجال الدين باجتراتهم الا منقطعة، فراحوا يكتبون منتقدين ومتعنتين ولكأنهم امتلكوا الحقيقة كلها بوحي إلهي دون غيرهم من البشر كقولهم مثلاً إن إسم عمانوئيل "ينشّط ذاكرة الملحدين منذراً ومحذِّراً..."، ومن ماذا ولماذا؟ "ليقول لهم إن الله حي سرمدي لا يموت". (راجع المقالة بعنوان "المسيح الثائر. هكذا تكلم يسوع" في "تحولات"، العدد 65/شباط 2012، ص 22).

ولكن، من الذي أنكر على الله أزليته وسرمديته؟ وبعد تفتيشنا عن الجواب، وجدنا أن الملحد الوحيد هو كاتب هذه المقالة وحده فهو يدين الدكتور عاطف الحكيم الذي وعلى حد تعبير ناقدنا، نحا نحو جبران خليل جبران في كتابه "يسوع ابن الانسان" والفيلسوف الالماني نيتشيه الذي قال إن الله مات، كما ويدين كل المذاهب التي «شوهت» صورة الله بتفسيراتها الخاصة على حد زعمه. وكاتب المقالة هو الملحد، لأنه نسب الى هؤلاء الفلاسفة العمالقة الثلاثة ما ليس فيهم وما لم يقولوه أصلاً، فعاطف الحكيم لم ينكر الله ولا وجوده ولا أتى أصلاً على ذكر ألوهية المسيح ولا العقيدة كلها ولم يتطرق إليها البتة في كتابه عن المسيح، وجبران تحدث عن الطبيعة الثانية للمسيح ألا وهي أنه إنسان ونيتشيه قال بموت الله في نفوس البشر الذين قتلوه ودفنوه في قلوبهم وعقولهم بدل أن يحييوه، فيبقى الملحد الوحيد هو الناقد الأغر الذي ينكر طبيعتي المسيح أو طبيعته المزدوجة والتي نصّ عليها قانون الكنيسة credo أو "فعل الإيمان" من أن يسوع هو إله وإنسان في الوقت عينه: ("نؤمن بإله واحد... وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الحي... مولود غير مخلوق، مساوي للاب في الجوهر... ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار إنساناً... وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي...)، وكأننا بمن يسمون مؤمنين ويقرأون الآيات "على أصولها"، ولكن كيف نثبت باليقين أنها أصول؟ لم يفهوا شيئاً من الحرب التي دارت رحاها بين المسيحيين منذ أكثر من 1700 عاماً حول طبيعة المسيح والتي راح ضحيتها الآلاف بسبب هذه الجدل البيزنطي العقيم وضيّعت وطن المسيح سورية وسكانها السريان، حتى نهشنا الغرب ورمانا على قارعة النسيان. أفلا تتعلمون من أخطاء التاريخ والويلات التي يجرها على وحدتكم؟ الى متى يشرذم أعداء الوطن صفوفكم؟ حبذا أيها المؤمنون لو فهمتم مضمون ما تصلون بدل الترداد الببغائي! لقد تجسد يسوع لكي يخلصنا من الخطيئة ومن العبودية، أفهل يرضيه أن تكون بلاده وإنسانها عبيداً يرزحون تحت نير الاستعمار والذل والعار الناتجة عن الاحتلال؟ هل بقي المسيح المخلص مكتوف اليدين إزاء العدو الذي صلبه؟ ولماذا صلبه إذن؟ أفهل يعقل أن المسيح تجسد ليخلص السجين من خطيئته ويتركه حبيساً ذليلاً داخل زنزانة المحتل يتعذب ويشقى؟ فكروا بالله عليكم!

نقادنا وجدانيون عاطفيون ليس إلا

ثمة سؤال يحيّرنا وهو: الى متى يبقى القلم موظفاً في اجترار الوجدانيات ونقلها من والى، والى؟ كالتشييد بجرأة شاعرة ما في كتيب أصدرته فأعجب بها ناقدنا فراح ينشد شعراً على شعر، وعاطفة على عاطفة ووجداناً على وجدان، مبيّناً المشاعر والألم والعذاب والجرأة... ولكن ما هي الجرأة أساساً؟، ويروح يسأل: "ألا نتساءل: من هو هذا الحبيب الذي لم تكتشفه الشاعرة...؟" ويكرر مفرداتها ويبيّنها ويظهرها: فهي "سجينة الحلم"/"في لوحتها تكشف سرها..."، والواقع الأليم الذي ترزح تحته، أي شدة الولع والشوق الى "حبيب مجهول"، فيقول في النتائج التي توصل إليها لقد "بلغنا نهاية تجربتها العشقية"، ويروح يجود ويجود ويشدو في نقل مفرداتها ليقول ماذا؟ وتلفته العناوين الطنانة المعيبة برأينا، فالمرأة تُذكر بعفّتها وليس بمجاراتها أو اشتهائها الخطيئة! وآخرها، كما علمت منه، نقده لكتاب إحداهن ذهبت في الغرابة الى حدٍّ حيّرته معها كونها وضعت وزكاً لكل الشعراء في كل زمان ومكان، وهو تعبير اقتبسه من تعبيرها هي... واجبرناه! مسكينة بلادي! وبدورنا نسأل تلك الشاعرة المتحدية والكلية المعرفة ومن خلال ناقدها المحتار: هل يا عزيزتي يمكنك أن تضعي وزكاً بشاعرنا الوطني الملتزم بالأصول والإبداع الدكتور عاطف الحكيم الذي لا ينتقي من التاريخ إلا المبدعين لينحو هو وأبناء وطنه نحوهم، علّنا نصل الى الخلاص، وذلك في غنائه فيروز؟

تقاس الرجال بعمل وفعل

وعلى فيروز تقاس العظماء

تمضي أوتارُ اصواتها، تُقيم

الوطنَ وتبعث أمةِ الحكماء

يا سليلة الأحرار غنّي وخفـّ

في عـن الناس جوّرَ الرؤساء

صوتها هوية، بدلٌ عن ضائع،

بدلٌ عن المتسلطين الزعماء

صامتة، ثائرة شاركينا ثورَ

تك، وكفى في الرياض بيداء

شعب اختار الإنتحار خلاصاً،

ساعديه، انهي مواسم العزاء

الوطن ينزف، كثيرةٌ الأعداءُ،

هل نعالجه بزيادة الأعداء؟

جزّأ الاجنبيّ بلادًنا... ونكا

ية بالوحدة نقسّم الأجزاء

من طلب الحرّيةَ ركب صوتَها،

صوتُها للشرف حلمُ إغماء

الشِعرُ، ما الشعر؟ كلامٌ حتى تبثُّـ

ـه من روحها، فيقوم عطاء

تريدون الخـلاص! اتبعوا صوتَها،

يقودكم للشطِ، كِراماً أعزاء

(آبيات مختارة من القصيدة الملحمية "فيروز" لعاطف الحكيم (مجلة الحداثة، العدد124/123 ، خريف 2009، ص212-205).

القضية في كتاب "المسيح المعلم الثائر" قضية وطن ووجود وهوية

الى متى تبقى صرخة الوطن التي خنقها التأويل والتفسير الديني الكلاسيكي والمتحجِّر ليطلقها الحكيم الى الملأ، طي النسيان والكتمان؟ أراكم يا حضرات النقاد، وأنتم تُشكرون على جهودكم في قراءة الكتب وأعمال الكتاب، تسهبون في العاطفة وتبخلون في القضية، أوليست القضية والوطن عاطفة أيضاً؟ إن المشكلة الكبرى اليوم هي مشكلة التعدي أصلاً، فالكل يحمل قلماً أو "لاب توباً" ويكتب، ولكن لا أحد يحمل ريشة والتي هي خاصية الكاتب الجيد، المتعمق، المتريث والهاديء في قراءاته والواعي للمقاصد والأبعاد التي يحتويها الكتاب الذي ينوي نقده. ولكن المشكلة الأكبر هي أن كل دور النشر والجرائد والمجلات تطبع وتنشر لكل من استل قلماً وراح يخبط خبط عشواء ولا يخفى على أحد خطورة السيف بيد متهوّر! ومن ثم يسوّق إنتاج من كتب وتقام له الاحتفالات للتوقيع. أما المشكلة الأكبر والأكبر أيضاً فهي أن الكل يتهافت لينقد هذا العمل المطبع والصادر حديثاً، مضيفاً أهمية على هكذا كتب لتصبح قيمتها مضاعفة، ولكن أين؟ في ذاكرة النسيان وحسب طبعاً، فليس كل يوم يخرج لنا جبران خليل جبران ولا عاطف الحكيم من التاريخ!

المسألة مسألة إبداع أولاً واخيراً

ثمة سؤال يطرح نفسه ويتضمن في طياته الجواب: لماذا جبران من دون غيره من الأقلام الأدبية، لمع نجمه وصار شغل الناس الشاغل؟ ألم يوجد غيره منذ أكثر من قرن وفي زمنه من أدباء وشعراء وكتاب؟ كيف لا والرابطة القلمية التي انتمى إليها تعجّ عجّاً بالكتّاب والشعراء في زمن الجودة والأصالة؟ لا شك أنكم تعرفون أكثر مني أعدادهم وأسماءهم، ولكن يبدو أن كلام جبران عنهم وعن غيرهم صحيح، فكلامه شمولي النزعة، عندما قال: "مسكينة سورية، كل أبنائها شعراء!" ولا زالوا أؤكد لك ذلك يا جبراننا العظيم ولقد تدهوروا أكثر اليوم فالكل يطبِّل ويزمّر ويغني ويكتب وينشر... في الحقيقة، لقد تميّز جبران ولا زال ببساطة لأنه مبدع والإبداع لا يتحمل عجقة، ولا زحمة ولا تخمة، بل هو نادر ونادر جداً. لقد تميّز جبران الى حد أن أعداءه وأعداء قلمه وقضيته رضخوا اليوم لإبداعه وردّوا له الاعتبار، عنينا بهم الإقطاع وأعداء الوطن والسلطة الدينية، ولكنهم لم يقبلوه إلا بعد أن شوّهوا كتاباته وحوروها وأخرجوها

بما يرضيهم طبعاً ومن هنا خطورة الموقف، فهم ينهجون نهج الماسونية التي تقبلك وترفضك في الوقت عينه، تقبلك لأنك فارضاً إبداعك وترفضك سرّاً، لذا فهي تشوّه فكرالعظماء وعلى رأسهم السيد المسيح!

الإبداع يعني

التطور وممشاة العصر ومحاكاة الواقع

في خضم الرومنسية خرج جبران بفكرة الوطن فهو تكلم عن النفوس الضعيفة المتكسِّرة، النفوس الميتة والأرواح الهامدة والتي تسكن كالأموات في الأمة الميتة التي أحيلت الى قبر. لقد تصوّر جبران الإنسانَ مخلصاً بقدرة إنسانية دون معجزات ودون صبغة ألوهية وكان سابقاً لعصره avant-garde ، والتعريف الأصح للمبدع أنه سابق لعصره، فلم ينغمس بالرومنسية الفردية المتقوقعة على غرار معاصريه الأوروبيين كما اتهم بهتاناً وجهلاً، ما جعله يحبس داخل هذه الشرنقة الأدبية الخانقة. لقد كان جبران خليل حبران نسراً يحلّق في الفضاء الواسع ويرى بعينه الثاقبة أنه إذا ضاع الإنسان ضاعت الأمة وتكسّرت الأجنحة، هذه الأجنحة المتكسرة، التي أبدع في نقلها إلينا، هي أجنحة أمته السورية التي ربطت العالم شرقا وغرباً، وشعّت حضارة ومعرفة وجمالاً وفكراً وقلماً... فهل كان جبران المتهم بالرومنسية وهو التيار الذي طغى على عصره، أن يكتفي بتكسّر الفرد ويعكس ألمه الشخصي دون الوطني؟ أفهل اهتم بألمه الخاص أم بالأمة المتشلعة؟ وكلامه عن ذاته المريضة ووجعه، أليس وجع الوطن الأم الرازح تحت الخراب والذي كان يُمزّق أشلاء؟ ومثل جبران هو الدكتور عاطف الحكيم الذي نبذ في كتاباته وسلوكه الأنا ليخرج الى النحن، من هنا عبقرية قلمه وتفرّده، وهو في كتابه عن المسيح الثائر، قد وجد فيه مخلّص الأمة والوطن وقائد الإنسان نحو الحرية والعدالة وذلك بسلاح الحب وحده. هذه هي فرادة الحكيم وهذه هي الرسالة التي يحملها لينقلها بقلم مهذّب، شفاف، محترم ومتجدّد. ومن هنا ابدعاته الحاملة لقضية ولهدف أسمى، ألا وهو الحرية.

القضية هي قضية شعب

ووجود وليس قضية فرد

ونسأل: كم هو عدد الكتاب والشعراء المهتمين بالقضية والمصلحة العامة والخارجين من ذاتيتهم الضيقة؟ تؤكد التيارت الأدبية والفنية الوجدانية التي يتزعمها كتّابنا وشعراؤنا ونقادنا المنغمسون في الرومنسيات والوجدانيات والذاتيات أن الشرق ما زال يبرح مكانه وأن الغرب تقدّم عليه أشواطاً بعيدة، ويؤكدون لنا أن الغرب سبقنا الى حيث لا يمكن بعد اللحاق به. هذا الهدوء العاطفي الذي يسبحون به لهو مخيف وخطير، فهم لا يدركون أن الزمن يتطوّر ومعه الأدب والفكر طبعاً. ولو أن هدوءهم كان هدوء ما قبل الثورة، لهانت المصيبة، لكنه هدوء الأجنحة المتكسرة ومن دون عواصف والتي لا أرواح متمرّدة تعرقل تحليقها. فما فتئت الأنا تسيطر على النحن وما برحت الفردية تغلب على المصلحة العامة والقومية، فأغلب النتاج الأدبي في الشرق اليوم هو عبارة عن بكّائيات فردية وقصص عن الولع والعشق والهيام والشكوى والتبكبك... والوطن، أين الوطن؟ والمجتمع، أين المجتمع؟ والوجود، أين الوجود؟ وكيف يكون لهذه القيم من مكان والأغلبية من أقلامنا لم تلحق بعد بركب التطور ولم تخرج عن التقليد ولا حتى في أساليب التعبير ومضامينها وتياراتها؟ ولو أنهم توقفوا عند الرومنسية لهان الأمر، ولكنهم في كتاباتهم ونقدهم ما برحوا في عقلية العصور المظلمة حيث تقودهم كالعميان آراءُ الإقطاع ورجال الدين ومحرّمات المؤسسة الكنسية. وهذا ما يترجمه فعلياً كاتب المقالة من أن "القارئ المسيحي يرفض الآيات المحوّرة"، وهذا جد صحيح بالمبدأ، لا بل صحي، ولكن هل فقه هذه القارئ المسيحي معانيها وأبعادها والكنه الصحيح لهذه الآيات قبل أن يرفضها؟ كيف يرفض وهو تابع ومقاد، لا رأي له بشيء، يردد ما أملي عليه كمنزّلات مقدسة ليس إلا؟ فإذا كان قد قيل "طوبى لمن آمن ولم ير"، فما بالكم بالذي زاد إيمانه أضعافاً مضاعفة بعد أن رآى وأدرك وعرف؟

من له الحق بالكتابة ومن له الحق بالنقد؟

إن المنهج الذي اعتمدته الجامعات الكبرى في تصنيف الأبحاث والأطروحات وتقييمها يقوم على مبدأ منطقي ألا وهو أن الناقد يجب أن يكون من أصحاب الاختصاص وحاصل على درجة دكتوراه أولاً، وعالماً باختصاص البحث ومنهجيته وأسس التقييم، فلا تسند الرياضيات الى الباحث في التاريخ مثلاً وهكذا... ومن المفترض أن ينطبق الأمر نفسه على الناقد الأدبي، فإذا ما تناول بالنقد كتاباً فلسفياً، فعليه أولاً أن يكون مطلعاً وبعمق بمجال الفلسفة برمّتها قبل أن تخوّله نفسه الإدلاء برأي يطلع الى الوجود لا دخل له بما تضمّنه الكتاب. لقد عرف الأدب والفكر والفن تطوراً تصاعدياً في الشرق قبل الغرب ولكن الإستعمار العثماني قضى على كل ثقافتنا، فبتنا في انحطاط ما من قيامة لنا بعده واضطررنا أن نضرب الغرب مثالاً لنا. فبعد العصور المظلمة، دخلت أوروبا في التيار المسمى التيار الإنساني حيث أصبح الإنسان محور كل شيء بعد مرحلة قاسية وجافة، طغى خلالها الفكر الديني المتحجِّر على كل ابداع، ثم انتقل الفكر الى الكلاسيكية التي قُلدت من خلالها الثقافة اليونانية القديمة وفنونها وآدابها من تراجيديا وكوميديا ودراما، جعلت الإنسان لقمة في فم القدر، لينتقل بعدها الى الرومنسية حيث صارت النفس البشرية والأنا والوجدان العاطفي هي الطاغية في نقل المشاعر والأحاسيس وتبجيل الطبيعة ومحاكاتها والهيام بجمالها وسحرها والحلم والتأمل فيها، لكن الواقعية هي التي سادت بعدها مباشرة، لينتقل المرء الى اليقين بالواقع ولإدراك المحسوس والبعد عن الغيبات اللامنظورة والغيرمرئية وراح ويعبّرعن واقعه كما هو بحسناته وسيئاته، مبتعداً عن المثالية والتجميل، مما جعل المنطق يتبلّور فاسحاً المجال الرحب أمام الوجودية والتي تعتبر، الى اليوم، دين الغرب وديدنه، يدعمها التيار المادي والعقلاني، ولكن هذا لا ينفي وجود الإبداع بكل مكوناته، فالإنسان يبقى إنساناً على مرّ الزمان، ولكن في كل الحالات يبقى الوعي هو سيد الأحكام، فالأمة الحرة هي التي أنجزت حريتها ودخلت في طور الإزدهار والرقي، ولا ضير عليها إن اجتاحتها التيارات العاطفية والوجدانية واللهو والعبثية وشتى أنواع التيارات الأخرى، بينما الأمة العبدة، والتي شاء الحظ أن نعيش فيها والتي تخلو من أدنى مكونات الحياة حتى لا نقول الحرية، فهل يحق لها العبث والمجون والتراخي والاسترسال اللاوعي في التيارات العاطفية؟ استلوا ريشتكم أيها المبدعون من أجل بناء أمة القوة والعزة وانهلوا من معين رجال أمتنا العظماء واتعظوا من أقوالهم وأفعالكم، ومن فعل ذلك فهو الحكيم العظيم، فطوبى له! وفي النهاية يطالعني قول للدكتور عاطف الحكيم من جملة مآثره وحكمه والتي ضمّنها كتابه الملتزم "كتاب الأفكار الكبير" (دار الحداثة، 2008): "رفضت دور النشر قلمك؟ عظيم فأنت لست عبداً!" وأراه يردّ على ذلك الأستاذ الزميل والمسؤول عن المنشورات في أحد أهم دور النشر في لبنان والذي نصحه بأن يرمي كل فكره وراءه ويعتمد فكراً جديداً، مناقضاً لقناعاته من أجل أن يزدهر مالاً وشهرة: "ماذا ينفعني لو ربحت العالم وخسرت نفسي، هكذا كلمني يسوع!" أجل فكلام المسيح

يعلو على كل كلام آخر، حتى في تحديد إسم الأمة سورية وحدودها، فما ورد في الإنجيل لا يضاهيه أي مقولة لأي مؤرّخ آخر، وهذا ما لم يغفل عنه الحكيم أبداً ولن يغفل عنه بعده أحد، ولا حتى أعداء الأمة، لا من الداخل ولا من الخارج. وبانتفاء الجهل وسيطرة الحقيقة والمعرفة، تنتفي الحاجة للثورة التي تكون ساعتئذ قد حققت أهدافها، فلا يعود هنالك من أذية للقراء الهادئين المتواضعين، فينامون قريري العين مطمئنين، هانئين كما يفضلّهم ناقدنا الفذّ. وعكس ذلك، فلتتأجج الثورة وتحرق من لا يمشي بركبها، فلا أسف عليه لأن المسيح ثورة وأتباعه يجب أن يكونوا ثواراً على نهجه، ومن نكر على المسيح ثورته، فكأنه نكر صلبه وقيامته ورسالته، ونكر وجوده أصلاً!


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net