Tahawolat
مقاربة علمية مبسطة تطلعنا عليها
الدكتورة فيفيان شويري في بحثها، تصل فيه التاريخ بالحاضر، فمن «طريق الحرير» وتأثيره في تواصل الحضارات إلى انصهار الثقافة بالسياسة في سوريا ، مروراً بإعتراف الإسكندر المقدوني بضرورة احترام الثقافات المشرقية واعتناق فكرها، تستقر شويري في بحثها عند فن وثقافة «آل كركلا» التي تعتبره التعبير الأهم في نهضة الأمة
 
 
قوافل تجوب «طريق الحرير» وتتماوج بين الصحاري والوديان والتلال والهضاب والبراري حتى تصل أخيراً الى الخانات المعدة للاستراحة وتفرّغ الحمولات في المخازن الخاصة. بضائع تنزّل وأخرى تحمّل، أشخاص يركبون الحافلات وآخرون ينزلون، وجماعات من نسوة وفتيات قدمن في رحلة مع أزواجهن أو أبائهن ومعهن الجاريات والخدم، منهن من ذهبن فوراً للاستقرار في منازلهن المشتراة في سوريا وخاصة في تدمر مدينة القوافل والتجار. ومن لم يسلم في الطريق، نقل الى مدينتها المدفنية الغنية بقبورها والتي تدل على طبقة من المترفين. تخيلوا غنى المشهد والثراء الذي ينقله هذا الخط البري الطويل المسمى «طريق الحرير» منذ أقدم العصور، حتى غدا تراكم الثقافات فوقه كتراكم الرمال الرسوبية عبر سيلانها، جارفة معها شتى المواد الى سوريا التي تقع على طرفه الأقصى غرباً، مشكلة بوابة نحو الغرب المتوسطي ومتزعّمة قوافل التجارة وناقلة لكل هذه الثقافات المستوردة والتي انتهت بأن أصبحت مزيجاً ثقافياً، قومياً وحضارياً، هو الأهم في العالم، انصهر بحداثة وعصرية بالقالب السوري .
 
ما هي «طريق الحرير» ؟
 
إن «طريق الحرير» هي شبكة قديمة من الطرقات التجارية الممتدة بين آسيا وأوروبا وكانت تصل مدينة شانغان (حالياً كزيان) في الصين  بإنطاكية عاصمة سوريا القديمة والقرطوسية. وتعود تسمية «طريق الحرير» للعالم الجغرافي الألماني «بول فيلهلم «فون ريشتوفن» وذلك سنة 1870، والذي يقصد بها، في الواقع، ليس طريقاً واحداً،  بل مجموعة من الطرقات التي كان يسلكها التجار والباعة والمحاربون والفنانون من آسيا الى أوروبا، والتي تحمل تسميات عديدة مثل «الطريق الوسطى»، «طريق الجنوب»، «طريق الشرق»، «طريق الشمال» وغيرها العديد. أو حملت أسماء أخرى مثل «طريق التوابل»، «طريق البخور» وطبعاً «طريق الحرير»، والتي كانت تنطلق من الصين حتى مدينة البندقية في إيطاليا. هذه الطريق كانت تجتاز مدناً وعواصم كبرى رفدت العالم القديم بغنى ثقافي ضخم التأثير ولكن أغلبها غدت مدناً مندثرة لم يتبق منها إلا بعض الأطلال الأثرية كشاهد عليها. وإن أقدم آثار هذه الطريق تعود الى الألف الأول ق.م.، ولا شك أن الطريق كانت موجودة منذ ما قبل التاريخ، ولكن لم يتبق شواهد كثيرة عليها، واندثرت معالمها. وتاريخياً، أهم الدول التي تجتازها «طريق الحرير»، إذا ما نظرنا الى الخريطة الحالية، هي، من أقصى الشرق الى الشرق الأدنى: الصين، طاجكستان، الباكستان، الهند، كيرجزيستان، كزخستان، منطقة القوقاز، أوزباكستان، تركمنستان، كردستان، العراق، تركيا، سوريا ولبنان. وابتداءً من القرن الخامس عشر، راحت هذه الطريق تهجر تدريجياّ، بعد أكثر من ألفي سنة على وجودها الحضاري.
والتأثير الثقافي لطريق الحرير كان لا شك كبيراً ومنه انتقال الاختراعات الصينية والمشرقية  نحو الغرب مثل البوصلة وبودرة البارود والعملة الورقية والورق والطباعة... وبالإتجاه المعاكس، ومن خلاله أيضاً، وصلت الى الصين عدة تيارات فكرية ودينية مثل البوذية والمسيحية والنسطورية والمانية والإسلام والتي انتشرت في كل النواحي الواقعة على طول الطريق. وكانت الطريق تسلك أيضاً من قبل الحجاج الذين مشوا على طريق «بوذا» ومن أشهرهم «فاكسيان» (سنة 399) و»كزوازنغ» (سنة 629). وهكذا فإن الفن البوذي، المتأثر بالفن الإغريقي انتشر في كل وادي الهندوس بعد حملة الإسكندر المقدوني (333 ق.م) والذي ترك وراءه عدداً كبيراً من الأماكن والمواقع التي انطمرت لاحقا تحت رمال الصحراء، وقد بيّنت الآثار التي اكتشفت خلال الحفريات التي جرت أبان القرن التاسع عشر، التأثيرات الثقافية التي انتقلت حتى العصور الوسطى. لقد شهدت هذه المنطقة المحاذية لطريق الحرير، انصهاراً فريداً من التأثيرات الهندية والفارسية والصينية والمشرقية الرافدية-السورية والغربية، وسمي هذا الفن المنبثق من كل هذه المكونات بالفن السيرندي (sérindien)، أي السوري-الهندي. واللقى الأثرية التي حملها معهم المستشرقون والرحالة والمغامرون بين 1860 و1925، والتي جمعوها من النهب وسلب المواقع في  آسيا، تملأ اليوم متاحف أوروبا مثل لندن وبرلين وباريس وسان بترسبورغ وغيرها.
 
في سوريا تنصهر كل الفنون والثقافات وحتى السياسة
 
إنها سوريا ملتقى الثقافات، حيث يصبح الفن فيها فناً عالمياً، لأنه يندمج مع الفكر المبدع والأهداف السامية والحس الخيّر للإنسانية بالمطلق وتكون هي مركز الاشعاع والانتشار له، ففيها تنصهر كل الأساليب والتقنيات في فن سوري خالص عنوانه الوحدة والتكامل والتواصل والجمال والمحبة. نعم لقد وحّدت الأبجديةُ سوريا، منطلقة من جبيل، واختفت بعدها كل الأقلام المشرقية الأخرى. نعم، لقد بنى السوريون دولة غربية تزعمتها قرطاجة وحمتها لمدة ألف سنة بهدف ضمان هذه الوحدة في سوريا الأم وحمايتها من كل غزو وعدوان، والتي  انتشر من خلالها التراث الفكري السوري في كل أرجاء الأرض وطبعها بأسمائه التي خلدت على الزمن، تماماً كما خلّد الأميركان إسمهم فوق سطح القمر، فكانت «خطوة صغيرة للإنسان وكبيرة للإنسانية» (أرمسترونغ). ولكن هيهات ما بين الخطوتين السورية –القرطاجية والأميركية! فالأولى ناشرة للحضارة وحامية للأرض وهي السورية، أما الثانية فمهدمة لها، وهي الأميركية، فالنزول فوق سطح القمر، وإن كان عملاً جباراً تقنياً، فلا معنى له، و»العلم الذي لا ينفع كالجهالة التي لا تضرّ» (أ.سعادة)، إذا ما بقيت سياسة تهديم الأرض وغزو الفضاء مستمرة. فكل «الطموحات شرعية، باستثناء تلك التي تشيّد فوق بؤس البشرية.» (ج.كونراد)، و»العلم دون ضمير هو دمار للنفس» (رابليه). لقد صدّرت سوريا الى العالم الفكر المؤيد بالمحبة، حب البشرية والعمل على سموّها وارتقائها. ففعل الحب ليس إلا تخطيّاً للذات كما يقول «أوسكار وايلد»، وهذا الحب جاء مؤيّداً بالعمل والتحقيق الفعلي لما تصبو إليه الإنسانية من رقي. لقد ساعد أجدادنا السوريون العالم على التمدن والتحضر بمحبة ومساواة، فنشروا الحرف والعلم والتقنيات وأهلوا سكان الأرض للسير في ركب التطور، وذلك بفضل الفكر الذي حملوه إليهم والقائم على المحبة، وقد انتشر فكر المسيح هذا في كل الكون وساعد البشرية على التقدم أشواطاً في سلم الإرتقاء والسمو. و»بعد فعل «أحب» فإن فعل «ساعد» هو أجمل الأفعال في العالم» (بيرثا فون سوتنر)؟ وأحب وساعد يعنيان احترم وجلّ.
 نعم، أراد الإسكندر أن يوحّد المملكة الآسيوية تحت رايته المقدونية فما كان من سبيل الى ذلك إلا باحترام الثقافات المشرقية واعتناق فكرها ونبذ التعصب العرقي الذي نشأ عليه هذا القائد في صغره في تصنيف الشعوب بين بربر، أي مشرقيين، ومتمدنين، أي إغريق. لقد رضخ الغازي في نهاية الأمر للواقع الحضاري للشرق واعترف بأنه ذو تاريخ عريق وأن اليونان ليست سوى قوة متغطرسة. وها هو يطلب من مؤرخيه وفلاسفته، وعلى رأسهم معلمه «أرسطو»، إنصاف الممالك المشرقية العريقة القدم  التي أخضعها بعد أن خجل أمام عظمتها. كما وأوعز لجنوده بالزواج من مشرقيات وكان هو أول من حقق هذا الدمج العرقي بزواجه من روكسان الفارسية. وهذا زمن آخر، نجد فيه «شيبو الإفريقي» ورغم انتصاره على أشد أعداء روما وأخطرهم على وجودها، ألا وهو «حنابعل» في معركة «زاما» (19 اكتوبر 202) والتي اجتاح على أثرها الرومان قرطاجة، يصرّح بقوله الشهير الذي نقش على قبره: «أيها الوطن العقوق لن ترى رفاتي أبداً»، في اعتراف منه أن روما لا تستحق حتى عناء الانتصار لها لأنها لا تعرف التمدن ولا الحضارة. أولم يغسل الحاكم الروماني بيلاطس البنطي يديه ليتبرّأ من دم المسيح؟ أولم يسلب الشرق قلبي أعظم رومانيين أثرتهما كليوبترا، ملكة مصر؟ الأول «يوليوس قيصر» الذي انتهى به القول:» أفضّل أن أكون الأول هنا على أن أكون الثاني في روما» (نقلاً عن المؤرخ «بلوتارك)؟ فكم من قيمة مضافة ومضاعفة اكتسب هذا القيصر في الشرق؟ والثاني القائد أنطونيوس، ألم يقع، رغم أن المؤمن لا يقع في الحفرة مرتين،  بفخ الهوى نفسه وانتهى بمحاربة بلاده روما الغازية لمصر واستشهد من أجل ملكتها كليوبترا؟  فما هو هذا السرّ الشرقي؟ أليس هذا ما يسمى بسحر الشرق؟ نعم، في كل التاريخ، لم يستطع قادة الغرب، حتى في أوج مجدهم، ورغم السياسة القاضية باخضاع الشرق في هذا الصراع الأزلي شرق/غرب،  إلا الانحناء أمام المجد الحضاري المشرقي والذي يبدو وكأنه يعيدهم الى جادة الصواب والعقل والمنطق والحس الإنساني السامي. وهذا يذكرنا بالاحترام الشديد الذي سوف يبديه ملوك الروم في معاركهم ضد العرب نحو قادة العرب الأشاوس (هرقل/أبو سفيان)، وبعدها قادة الحملات الإفرنجية ضد الشرق (ريكاردوس قلب الأسد/ صلاح الدين الأيوبي)، وبعدها حملة نابليون على مصر (نابليون متشبّهاً بالفرعون رعمسيس الثاني/ ومن فوق هرم «خوفو» متوجّهاً لجنوده بهذه الجملة: «انتبهوا! أربعون قرناً من التاريخ تنظر إليكم»)، وبعده («اللمبي» أو الجنرال «غورو» بعد معركة «ميسلون»، وأمام قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً بتهّيب ورهبة: « ها قد عدنا يا صلاح الدين!»)
فاذا كان الشرق آثراً الى هذا الحد في القادة الغربيين الذين مشوا على مبدأ الصراع شرق/غرب والى اليوم، فكيف كان الأمر بالنسبة للقادة ذوي الأصول المشرقية، ومنهم الإمبراطور الروماني كركلا (4 إبريل 186 - 9 إبريل 217) الذي  تولّى عرش الإمبراطورية الرومانية في الفترة من( 211 - 217). وهو ابن  القائد الليبي الأصل «سيبتيموس سيفيرس»، الذي كان حاكم سوريا والذي صعد الى العرش الإمبراطوري سنة 193. فبعد وفاة أبيه، شارك كركلا في الحكم أخاه «جيته» (أو كيتا)، وتولى كلاهما الإمبراطورية بسلطة متكافئة ومستقلة بوصفهما وريثين شريكين في العرش الروماني. ولكن، نظراً لأن كل منهما يريد أن يكون الحاكم الوحيد، وبمؤامرة فتكت بينهما بهدف إضعافهما، أصبح التوتر واضحاً بينهما في الأشهر القليلة التي حكما فيها الإمبراطوريه معاً، حتى أن «جيتا» فكر في تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين بحيث يحتفظ كركلا بأوروبا ويتخذ من روما عاصمة له، وأن تترك له آسيا متخذاً من إنطاكية أو الإسكندرية عاصمة له. ولكن أمهما «جوليا دومنا» وهي أميرة سورية من حمص، والتي كانت ذات نفوذ وقوة وسلطة في الإمبراطورية الرومانية، أقنعتهما بعدم القيام بذلك. وفي كانون الأول سنة 211 ، أقدم كركلا على قتل أخيه في حضرة أمه، لينفرد بالحكم، كما وقتل صهره وابن عمه «جيوس فالفيوس» وأعدم أنصاره وقتل كل من له علاقة بأخيه أو كل من يحمل له ودّاً، ويبالغ المؤرخون بنقلهم أنه قتل أكثر من عشرين ألفاً من الرجال والنساء، حتى كان من نتائج قتل كل هؤلاء البشر أن أصبح الإمبراطور مكروهاً من الشعب. ولكن كيف يبرر عمل كركلا هذا؟ في الواقع، إن تفسيرنا الوحيد يكمن في ما كتبه المؤرخون أنفسهم عن أعمال كركلا ومن خلال تشنيعهم به دون أن يعوا حقيقة الطموح الذي كان يصبو كركلا إليه. في الحقيقة، لقد استولت على الإمبراطور فكرة غزو الشرق تشبّهاً بالإسكندر المقدوني، فانتقل إلى إنطاكية ليقوم بمهاجمة «بارثيا» على الفرات والتي لم يتمكن أحد من الأباطرة اجتيازها وقتل اثنان منهم على أبوابها، وكان قد عهد إلى والدته «جوليا دومنا» تصريف شؤون الحكم المدني واعتبرها أمينة سرّه ورئيسة ديوانه، وكانت تستلم الرسائل وتجيب عليها وتحلّ محله في استقبال رجال الدولة والأجانب. وإذا كان كركلا قد عيّن والدته، رغم مجازره التي كانت شاهدة عليها خاصة قتله لابنها «جيتا»، فهذا يعكس ثقته العمياء فيها وأنها كانت متواطئة معه. وإن تعيينه لها أمينة سرّه لشؤون الدولة وأسرارها وأن تشاركه أو أن تحل محله في استقبال رجال الدولة أو ذوي المكانة العليا من السياسيين، لهو أمر دقيق وحساس ويحتاج الى أعلى درجات الثقة. هذه الثقة جعلته يترك معظم شؤون الحكم المدني لها، وأن يتفرّغ للحروب. ويؤكد هذه الثقة وهذا الدعم من قبل «جوليا دومنا» لكركلا وسلطانها عليه، أنه وبعد مقتل ابنها كركلا، ورغم أمر مجلس الشيوخ في روما بأن يُتخذ كركلا ورغم زعمهم أنه مجرم، إلهاً، نُفيت «جوليا دومنا» إلى إنطاكية عاصمة سوريا وليس الى مكان آخر، حيث راحت تهيّء وبالسرّ لوصول أحفادها الى سدة عرش روما قبل أن تموت. وكان لها أخت تدعى «جوليا مايسا» لا تقل عنها قدرة وكفاية، فعادت جوليا هذه إلى حمص لتؤهل حفيدين يبشران بمستقبل عظيم في قيادة السلطة في روما. وكان أحدهما ابن ابنتها «جوليا سؤامياس»، وكان كاهناً شاباً من كهنة بعل في معبد الشمس في حمص، يدعى «فاريوس أفيتس»، والملقب باسم «إلجابالس» أي «الإله الخالق» أو «إله الجبل». أما الثاني فكان ابن «جوليا ماميا» إبنة «ميزا»، وكان غلاماً في العاشرة من عمره يدعى «الكسيانس» المولود في عرقا اللبنانية، وهو الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور «ألكسندرس سفيرس». فما كان من «ميزا» إلا أن نشرت الشائعة القائلة إن «إلجابالس»هو الابن الطبيعي لكركلا، وإن كان في واقع الأمر ابن «فاريس مرسلس»، وأطلقت عليه اسم «بسيانس»، ذلك أن الإمبراطوريّة كانت أفضل عندها من سمعة ابنتها، وماذا يضيرها بعد إن مات «مرسلوس» والد الشاب. وكان الجنود الرومان في سوريا يشعرون باحترام لهذا الكاهن الشاب الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر، والذي في قلوبهم عاطفة قوية. يضاف إلى هذا أن «ميزا» أوعزت إليهم بأنهم إذا اختاروا «إلجابالس» إمبراطوراً، فإنها ستنفحهم بعطية سخية. ووثق الجنود بوعدها لهم وأجابوها إلى ما طلبت، وضمت «ميزا» بفضل ذهبها وأموالها إلى صفوف جندها، الجيشَ الذي سيّره «مكرينس» لقتالها، ولما ظهر مكرينس نفسه على رأس قوة كبيرة، تردد مرتزقة السوريين في ولائهم، ولكن الأميرتان «ميزا» و»سؤامياس» قفزتا من مركبتيهما، وقادتا الجيش المتردد إلى النصر، وهكذا حققتا هدف أختيهما الإمبراطورة الراحلة «جوليا دومنا» باستمرار حكم الأباطرة السوريين على روما.
 
الوحدة والعدالة والمساواة طموح القادة الكبار
 من أهم الإنجازات التي حققها الإمبراطور كركلا خلال فترة حكمه، أنه أصدر سنة 212 «مرسوم كركلا» الشهير، حيث منح الجنسية الرومانية للأحرار في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية من أجل زيادة الضرائب، والذي جعل بموجبه جميع سكان الإمبراطورية سواسية، يخضعون لقانون واحد ضمن الحرية والحقوق الأساسية التي مُنحت لهم. في الواقع، لقد مشى كركلا على خطى منشيء الإسكندرية، المثل الذي احتذاه والمطمح الذي يأمل أن يبلغه. وللوصول إلى هذه الغاية، أنشأ كركلا فيلقاً من 16000 جندي سمّاه «فيلق الاسكندر» وسلّحه بأسلحة مقدونية من الطراز القديم، وكان يأمل أن يُخضع به «بارثيا» كما أخضع الإسكندر فارس. ولقد بذل كركلا كل ما يستطيع من الجهد ليكون جندياً عظيماً، فكان يشارك جنوده في طعامهم وكدحهم، وسيرهم الشاق الطويل، وكان يساعدهم في حفر الخنادق، وإقامة الجسور، ويظهر الكثير من ضروب البسالة في القتال. ولكن رجاله لم يكن لهم مثل ما كان له من رغبة في قتال البارثيين، بل كان حبهم للغنائم أكثر من حبهم للقتال، فقتلوه في «كارى» (حران اليوم)، وهكذا آل كركلا للمصير نفسه الذي أودى بحياة الاسكندر الذي قتل على يد جنوده أيضاً، وهذا الاغتيال بحق كل من الإسكندر وكركلا  ليس له من سبب في الحقيقية إلا لأن الإثنين أرادا توحيد الشعوب والثقافات والمعاملة العادلة لكل المواطنين دون أي تفرقة عرقية أو إجتماعية. وهذا، إن دل على شيء، فيدل على سعة الرؤية والانفتاح الفكري والمعرفة، ولذا يعتبر كركلا وعلى الرغم من كل ما قيل فيه وكتب عنه من تعرّض لشخصه، وما نقرؤه عنه من القصص التي يرويها «ديوكاسيوس» وفي كتاب «حياة القياصرة»، وهي ليست إلا انتقاماً كتبه عضو في مجلس الشيوخ، من أبرز الأباطرة الرومان الذين تركوا أثراً اجتماعياً هاماً وكان حكمهم محطة تاريخية فاصلة. ولا ننسى أن كركلا تربى على يد «بابينيان» المعلم والمشرّع الحمصي الذي كان يدرّس في مدرسة الحقوق في بيروت قبل أن تستقدمه «جوليا دومنا» لتنشأة ولديها. وكركلا هو أكثر من كان وفياً لأصوله الليبية والسورية ولوصية والده «سبتيموس سيفيرس» المخلص لبلاده الأم، وكانت آخر وصاياه الحفاظ على الأسرة الإمبراطورية. وكان كركلا قد أولى، كما فعل والده إزاء مدينته «لبتيس ماغنا» (لبدة) في ليبيا، اهتماماً عمرانياً كبيراً بكل سوريا، وببعلبك وبحمص تحديداً واللتين رفعهما الى «معمرة رومانية/كولونيا» تتمتعان باستقلالية. وحظيت تدمر بمعاملة مميزة، فأعفي التدمريون من دفع الضرائب لروما، على كل ما يمرّ بمدينتهم من سلع ثمينة, من عطور وبهارات وعاج وزجاج وحرير.... وغرقت المدينة بالترف والبحبوحة، فكثرت المنشآت والشوارع والأقواس والمعابد والتماثيل، حتى وصلت تدمر في جمالها الى مصاف كبرى المدائن.
والسؤال يبقى: أين القائد الموحِّد للأمة اليوم وهي بأشد الحاجة لأمثال قادتها التاريخيين؟ أين حنابعل؟ أين سبتيموس سفيرس؟ أين كركلا؟ أين فيليب العربي؟  أين ثوار الأمة العظماء؟ أين يوحنا المعمدان؟ أين السيد المسيح؟  أين مخلصو الأمة ومحرروها؟ أين النبيّ محمد؟ أين خالد بن الوليد؟ أين طارق بن زياد؟ أين صلاح الدين الأيوبي، أين الأمير فخر الدين الكبير والى متى تدوم هزيمة «مرج دابق» (1516)؟ إن صور وسير مثل هؤلاء وحدهم لا بدّ وأن تتصدر عناوين أدبنا وكتبنا وشاشات إعلامنا ومسارحنا حتى تستنهض الهمم، وإلا...
 
 الشرق وحدة راقصة
 
وتطالعنا شاشة كبرى حيث يتجلى فيها أن أبرع تعبير وأذكى منهج لكتابة التاريخ أو إعادة إخراج التاريخ الى الوجود، هو عبر الرقص. فمن كل تراث الأمم الذي اندثر، تجمعت مادته وخلاصته في الرقص وحده والذي حافظت عليه الأقوام عبر الزمن، فكان الرقص هو الهوية  الضائعة بين أزقة التشويه التاريخي وأنفاق النفاق والتزويرالحضاري وإلغاء الوجود.
وأنت تشاهد فرقة كركلا للرقص، تشاهد الشرق كله ومعه كل تراثه وثقافته، وليس مجرد فرقة محلية متقوقعة على ذاتها. إنها «طريق الحرير» بكل غناها وإرثها الثقافي التي ترقص على الخشبة الكركلية، وهذا ما يميّز مسرح كركلا عن باقي المسارح الراقصة، وإن كانت المقارنة لا تجوز بين المدرسة الفنية الأكبر في الرقص وبين المستجدين على الساحة والمقلّدين. وعندما يقول مؤسس هذا المسرح وقائده الأستاذ عبد الحليم كركلا إن الفن هو التعبير الأهم عن نهضة الأمة، وإن تمسّكنا بتراثنا هو لإحياء هويتنا الثقافية وليس من مجد دون مجد الوطن، فهو لا يعني هوية متقوقعة، محلية، زقاقية الطابع، بل يشير الى الهوية الكبرى، هوية الأمة السورية كلها والأزلية، ولكن الضائعة في أذهان الغير متجذرين في وطنهم الشاسع سوريا. و»أوبرا الضيعة» المسرحية الأخيرة لهذا المبدع، ليست ضيعة محددة في مكان ضيق، بل هي هذه الكرة الكونية القديمة التي شكلت وحدة ثقافية على طول «طريق الحرير» وإلا لما هذه الأزياء الهجينية وهذه الأقمشة المزخرفة والديكور الشرقي، العجمي والقوقازي والطشقندي والسمرقندي والإيراني والهندي والفارسي والأرمني والروسي والصيني والدمشقي والتركي والبيروتي...؟ لما لم يكتف كركلا بالعباءة والكوفية المحلية لتلك الضيعة المفترضة؟ لما هذه الموسيقى الشاملة الجامعة والتي تقودها أذن فارسية هي الأكثر تمكّناً من فهم معانيها وأبعادها الفولكلورية حتى تمكّنت من صياغتها بلحن قديم جديد مستحدث ومتطور؟ ولم هذه الصيحات بل الصرخات الجنونية الصادرة بفعل الأحاسيس الجياشة والتي تطلقها حناجر الراقصين الروس والأوكرانيين والأرمن واللبنانيين؟ فكيف لقائد لبناني أن ينتزع الإحساس نفسه الذي يختلج في صدر البعلبكي من قلوب الأجانب ويجعلهم يعبّرون عن وجدانه الخاص إذا لم يكن نفس الإحساس يختلج في صدورهم أصلاً وبفعل تراثهم المشترك؟ إنه فعل ذكاء نابع من خلال متابعة مسرح كركلا لجمهوره وتسجيله انطباعات المشاهدين من العالم أجمع، فلمس صدق المشاعر وأن الفن لغة عالمية، والرقص تحديداً أكثر من الموسيقى، فثمة من يستثقل الموسيقى الغربية الكلاسيكية وحتى الصاخبة من الشرقيين وثمة من يأنف من النغم الشرقي من الغربيين، وهذا ما لا تلمسه في الرقص الكركلي لأنه حيوي وهادف وحامل لرسالة حضارية. فمصمم الرقص هو مؤرخ بالدرجة الأولى وهو بالتالي ملتزم بقضية، قضية أمته وحضارته ولكأنه اؤتمن من قبل أسلافه على ضمان وحدتها، فأبى إلا أن يبقيها واحدة عزيزة، وهذا ما تعبّر عنه صيحات الراقصين المجيّشة بالإفتخار بهذه الحضارة العريقة التي عمّت العالم. ولأنه يتفرّد بهذا الفن ولأن هذه الوحدة الثقافية لطريق الحرير تنهل من نفس الينبوع البعلبكي الذي انتشر في كل المعمورة الآسيوية زركشة ورسوماً وزينة ورقصاً، جاءت هذه الصيحات والصرخات الراقصة لتملأ المسرح وتتخطى حدود جدرانه الى مسام القلوب فتؤجّج نار الحماسة في كل من كان ومن أي جنسية كان، لأنها «أوبرا الضيعة» الكونية وليست أوبرا ضيعة محددة في زمن ومكان معيّنين.
ثمة من يظن أنه لم يعد زمننا زمن  المعجزات،  وأنه لم يعد من رهجة ولا حتى للزينة، ولكن هل لم يعد هناك من حلم؟ هل دخلنا في الفناء والعدم والاضمحلال؟ إن «أوبرا الضيعة» تجيب بالنفي وتؤكد العكس وتثبت أن الحلم باق وأن الوجدان سوف يختلج ما بقي مبدعون أصيلون. فليس «في مجرات النجوم وتألق الشهب يتجلى الأزل، عنوان كل خلق، بل في روح الإنسان» (طاغور). وعلى نهج أسلافه يسير كركلا، وقد شرب من نفس الينبوع العاصي لأجداده. فها هو «نهر العاصي يتدفق في نهر التيبر» على حدّ تعبير «جوفينال»، الكاتب الروماني. أولم تكن الحفلات التي كان يقيمها الإمبراطور «إلاغابال» في روما هي نفسها أوبرا الضيع السورية؟ اقرأوا التاريخ تتأكدون.
 
الثورة الحقيقية
 
لقد أعاد كركلا في مسرحه تكوين إمبراطورية لا فرق فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وليس بالثقافة ولا بالفن ولا بالفكر ولا حتى باللغة، فالرقص هو اللغة الجامعة، وطشقند هي بعلبك نفسها وأرمينيا هي بعلبك نفسها والهند وبخارى وروسيا مثلها، وغيرها وغيرها الكثير، فمن يجرؤ بعد على القول: «كنتم وكنا، لم تكونوا ولم يكونوا، بل كنا»؟ إن هذه العولمة  التاريخية قد فرضت نفسها على الزمن ولا يحق لأحد أن يلغيها ولا أن ينكرها، فقط المبدع المؤمن بعظمة حضارته هو الذي له الحق في إظهارها، ولتسكت كل الأصوات المغرضة الأخرى والتي ألمُها، وهي من ذوي القربى، لأشد من ألم الأقلام الزائفة القديمة، اليونانية والرومانية، التي شوّهت ماضي سوريا وما زالت مستمرة في نفس النهج بتسميات أخرى.»لا تفتح فمك إلا عندما تكون متأكداً أن الذي ستقوله أفضل من الصمت»، يقول المثل العربي. وحده كركلا يحق له الكلام لأنه كلمة حق تقال أمام كل السلاطين الجائرة، ففي «زمن الخداع المعمّم، مجرد قول الحقيقة هو فعل ثوري بحد ذاته» (ج.أورويل).
 يدّعون أنه زمن الثورات والربيع والتغيير العربي ولكن الى أين والهوية ضائعة؟ فحبذا لو عمل مدعو التغيير هؤلاء بالمثل الإفريقي الذي يقول: «حين لا تعرف الى أين أنت ذاهب فتذكر على الأقل من أين أتيت». ووحده كركلا، في هذا الزمن العصيب، يمكنه أن يذكّرنا من أين أتينا والى أين نحن ذاهبون، لأنه  يعمل بقول (Montaigne): «من كل الأحلام التي في العالم، الأعظم هو الاهتمام بالمجد»! إن مسرحه ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ثورة تتحدى كل المؤامرات التخريبية المهدمة للهوية وتدعو الى الوحدة والتقدم. فعندما «يحلم فرد، يبقى مجرد حلم، ولكن عندما يحلم  الكثير من الناس، تكون بداية لحقيقة جديدة» (هندرتوسر فردريك)، و»مجتمع دون حلم هو مجتمع لا مستقبل له» (ك. يونغ). وخسيء الفم المسوّس الذي تفوّه بهذا:»الكبار سيموتون والصغار سينسون»، فسوريا بمبدعيها سوف تحيا الى الأبد.
أستاذة الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية
 
الإمبراطوريّة كانت أفضل عند
«ميزا» من سمعة ابنتها
 
إن الفن هو التعبير الأهم عن
نهضة الأمة
 
لقد أعاد كركلا في مسرحه تكوين إمبراطورية لا فرق فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى
 
 
أقدم كركلا على قتل أخيه في حضرة أمه، لينفرد بالحكم
 
لقد استولت على الإمبراطور فكرة غزو الشرق تشبّهاً بالإسكندر المقدوني

آراء القراء

1
14 - 8 - 2012
Deep thought! Thanks for contributing.

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net