Tahawolat
محمد بسام

فور وصوله مدينة الرقة قصد مقهاه وسط المدينة شرّع الأبواب والنوافذ، وبدأ بنفض الغبار عن الطاولات وجمع الزجاج المتحطم، والاتصال بأرقام عماله..لإعادة فتح المقهى والعمل مجدداً.
عاد العم "أبو شرف" من مدينة ماردين التركية بعد أن قضى ما يقارب الشهر عند أقاربه (الأكراد) هناك، وكان قد خرج من مدينة الرقة بعد التوترات الأمنية التي شهدتها في بداية آذار الماضي وانتهت بسيطرة مقاتلي جبهة النصرة على المدينة خلال يومين.
كأي نازح سوري يشعر "أبو شرف" بالمرارة وهو يتحدث عن أربعين يوماً قضاها عند أقاربه في تركيا كأنها سنين من الأسى والحرمان والألم على وطنه وبيته ومقهاه الذي كان قبلة لكل مثقفي المدينة وأدبائها.
سقط النصيف..!
تلتقي النخب الثقافية في مقهى وسط مدينة الرقة، اعتادوا أن يتسامروا فيه أدباء ومثقفين أطباء وصحفيين، ومن الممتع إن حضر النقاشات الساخنة بعض الشباب من صغار الكسبة، فحماس جيل الشباب يضفي على الحوارات جمالية، ويبث فيه الروح...
تتعدد الآراء..يحتدم النقاش ويضج المقهى، وتعلو الأصوات بين مؤيد للحراك ومعارض له، وفي النهاية يفترق الجميع بمودة وحنين، بعد الاتفاق على أن دخول الكتائب الإسلامية إلى المدينة سيؤذن بدمارها.
سقط النصيف، صباح السبت 2 آذار 2013 استفاق الأهالي على صوت التكبيرات في المساجد، وإطلاق العيارات النارية في الهواء، سقطت المدينة، بيد جبهة النصرة خلال يومين فقط دون إطلاق رصاصة واحدة..
حالة من الغضب والخوف والترقب طغت على المدينة وأهلها، الشوارع والأزقة والأشجار كلها كئيبة، السواد يطغى على كل شيء، وشهدت الرقة مخاض ولادة عسيرة، وما زالت حتى الآن تعاني آثاره في ظل تعدد الجهات التي تحاول فرض وجودها، فالمولود الجديد مجهول الأب في ظل تواجد أكثر من سبعين كتيبة وحركة وتيار لكل منها فكر ورأي ووجهة نظر، يحاول كل واحد فرض أبويته ووصايته على المدينة وأهلها بطريقة، وينتهي الأمر بسيطرة التيارات الإسلامية المتشددة بقوة السلاح..
أبناء علمان..!!
وضعت حركة أحرار الشام الإسلامية ـ وهي القوة الثانية في المدينة بعد جبهة النصرة ـ لوحة سوداء قاتمة من "الفيليكس" كُتبت عليها حديث نبوي، لتحل محل الصورة البانورامية التي يظهر فيها الرئيس بشار الأسد وسط المدينة، إلا أن مجهولاً مزق ـ ليلاً ـ اللوحة التي يصل طولها إلى 40 متر، ويقول الناطق باسم الحركة: إنهم أبناء علمان..!
بعد ازدياد الأوضاع سوءاً نستطيع الجزم أن الكتائب المسلحة بمختلف توجهاتها ليست خياراً للشعب، إذ يشعر كل المدنيين بالغربة عنهم، وقد عمدوا إلى عسكرة المدينة، وقمعوا أي تيار مدني حاول البروز، وأطلقوا على التيارات المدنية التي تجاوز عددها 40 تيار مدني اسم (بني علمان) في إشارة إلى علمانيتهم..!
يقول أحد المواطنين رافضاً الإفصاح عن اسمه خوفاً من عاقبة ذلك: كل ما يمكنني تشخيصه الآن هو حالة من الفوضى العارمة تضرب جميع القطاعات في المدينة لتشل الحركة فيها باستثناء محاولة المواطنين تأمين احتياجاتهم الأساسية في الصباح والعودة إلى بيوتهم على وجه السرعة..
يوضب "سامي" ـ وهو اليد اليمنى للعم "أبو شرف" في المقهى ـ الطاولات والكراسي، ويحضر ما بقي من "النراجيل" للرواد الذين اشتاقوا لجلسات الرصيف والمناقشات السياسية والثقافية إلا ان هذه الاحاديث أصبحت محظورة الآن أكثر منها في السابق..فأصبحت تُدار همساً أو صمتاً..!
عسكرة المدينة..
في مشهد مسائي قضيناه في المقهى مجموعة من الناشطين الشباب توافدوا إلى المقهى يحملون آلة تصوير، ومايك مصنع من علبة "بيبسي كولا"، محاولين تصوير مشهد فكاهي لرفعه على موقع "يوتيوب"، والتهكم على وسائل الإعلام ليجري الحديث وسط ضحكات رنانة..
سيارات محملة بكافة صنوف الأسلحة الثقيلة أحاطت بكل من جلس في المقهى وقطعت الطريق، لينزل مسلحون من جنسيات غير سورية، تبين من لهجتهم أنهم سعوديو الجنسية، حيث أمروا الشباب الذين كانوا يقومون بهذه التمثيلية الافتراضية بالانبطاح أرضاً، وتراكضوا ناحية المقهى آمرين البعض ممن شكوا بأنهم كانوا معهم بالرجوع إلى الشارع...
جعجعة السلاح أثارت الرعب بين المدنيين المصدومين مما يجري، وقضي الأمر وقاموا برمي الفتية في السيارات وتوجهوا ناحية مقرهم الكائن في قصر المحافظة، ليتبين لنا لاحقاً بأنهم من "جبهة النصرة"..ومن الجدير ذكره في هذه الحادثة ملاحظة أن الحياة المدنية مرفوضة قطعاً بنظر الجبهات الإسلامية التي تتحكم بمقدرات كل هذه المحافظة...
تقول الشابة الناشطة (منار): لا نستطيع المراهنة على هذه المرحلة في الرقة لأنها حالة فوضى، وسنحاول ونستمر بالمحاولة رغم جميع الصعوبات التي نواجهها لإثبات أنفسنا على الأرض ونكتسب ثقة الناس هنا..
غريزة البقاء..
ما يميز الرقة طيلة الفترة الماضية هو نشاط مقاهيها التي تحولت إلى ملتقى للجميع، حيث الأحاديث التي تخرجهم من أزماتهم النفسية، التي أدخلتها الأزمة إلى بيوتهم... حيث يتوافر "نت" فضائي بكلفة صارت رغم قلة قيمتها في عز الليرة السورية أضحت باهظةً الآن (100) ل.س للساعة الواحدة، وهذا يسوقنا لذكر أن قيمة صرف الدولار في محافظة الرقة بالسوق السوداء بلغت 149 ليرة سورية...
على صوت أزيز الرصاص يبدأ الجميع بمغادرة المقهى الذي يقع في منطقة حساسة من المدينة، والعم "أبو شرف" ما زال خلف طاولته يحاسب الزبائن الذين غادر معظمهم، وهو يتمتم ولسان حاله يقول: رحم الله أيام زمان.
أما "سامي" فيجمع ما بقي من "نراجيل" لم تتحطم ويعيدها للداخل ثم يغلق باب المقهى ويعود إلى منزله.
أجمل ما في الرقة هو التأقلم وحالة التعايش، فقد تكيف الناس مع القصف بمختلف صنوفه، وكل فترة يعود الخوف من ضربات مفاجئة إلى الواجهة خاصة بقذائف الهاون التي تهبط على حين غرة ضمن أحياء المدينة ولا يُعرف مصدرها، لتظل رحمة الله سيدة الحسم في وجود ضحايا أم لا.
إلا أن الحياة تأبى أن تفارق تلك المدينة الغافية على ضفاف نهر الفرات، وخلال ساعات أو اقل تعود لشوارع المدينة وأسواقها الحركة اليومية المعتادة، وغريزة البقاء هي سيدة الموقف في مدينة يخترق رحمها الفرات ليبث فيها الروح ويمنحها الحياة.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net