Tahawolat
قد لا تكون المسألة الفلسطينية هي ما يصبو المرء في زمننا هذا إلى الكلام فيه، وقد يكون الكلام الذي قيل فيها بات مستهلَكاً ومملاًّ إلى حدّ النّفور من تكرار الكلام عينه كل يوم وكل مناسبة. إلاّ أنّ ما هو مؤكّد أنّ هذه المسألة لا تزال بحاجة ماسّة إلى الانهماك في النضال من أجلها للوصول إلى مقاربتها على حقيقتها، ليس في العالم فحسب، بل في العالم العربي حيث ما يزال التفكير فيها مشوّشاً ومشوّهاً إلى أبعد الحدود. فالمقاربات السائدة، أو التي سادت، قد أخذت بنتيجة التقادم ومرور السنوات تتشعّب لتشمل تفاصيل كثيرة قد يعجز المرء عن الإلمام بها كلها، أو عن النظر بنحو كليّ نحوها، وهذا ما يدفع بالتالي إلى البحث في التفاصيل والاقتصار عليها، الأمر الذي يؤدّي إلى التّشتّت عن المسألة المركزيّة والابتعاد عن اتخاذ الموقف الذي يعتمد على مشهد "يريك الكثرة في العين الواحدة"، انطلاقاً من مقولة ابن عربي الشهيرة من هذا المنطلق تطرح نفسها أمامنا إشكاليّة: الصراع الفلسطيني وكيفية المحافظة على وجوده هويةً وكياناً، في ظل ما يحيط بهذا الوجود من تهديدات...
بناءً على ذلك كان اختياري للتّطرّق إلى صراع الذّات والذّاكرة في الفرد الفسطيني من خلال دراسة الفضاء في رواية "مفتاح لنجوى" للكاتبة فاتن المر. انطلاقاً من كون الرواية ترتبط مباشرة بواقع المخيمات وما فيه من بؤس على الصّعيد المعيشيّ والصّحيّ والتّعليميّ، وحتى على صعيد الطّموح الشّخصيّ... وسط الانقسامات التي تملأ المجتمع الضيّق للمخيم، والانحرافات التي تأتيه بنتيجة مؤثّرات داخليّة وخارجيّة. وذلك من دون أن يشكّل ذلك عامل انفصالٍ أو نسيانٍ للمسألة المركزيّة المتعلّقة بحقّ العودة واستعادة الأرض...
ولا يمكن للباحث في هذا السّياق إلاّ أن يلتفت إلى عاملٍ مهمٍّ في بحث هذه الرواية، ألا وهو ربط الإشكاليّات التي يطرحها الكتاب بتطوّرات العصر الحاضر وأفكاره، إيجابيّها وسلبيّها، ومنها الدّخول في عملية تناوب الصّوت الرّوائي باستخدام واقع تقنيات العصر في التّواصل، إلى جانب المحادثات الالكترونيّة التي تقدّم آليّةً جديدةً يفيد منها الحوار... ولا يخفى ما لهذا الجانب من تحدٍّ للباحث والقارئ على السّواء...
انطلاقاً من ذلك، يمكن أن يشكّل بحثنا هذا إضاءةً مكمّلةً لجانب محوريٍّ من جوانب المعاناة الفلسطينيّة ومن تطلّعات أفرادها، المتوازية مع البعد الجّغرافيّ والزّمنيّ عن الأرض - الأمّ.
رمزيّة المفتاح والإبداع في تشكّل السّياق
من خلال التمعّن في العنوان، نلاحظ أنّه يتضمّن مكوّنين اثنين. الأوّل بينهما هو كلمة "مفتاح"، مع ما يثيره هذا العنوان من معانٍ مواكبةٍ له، فالمفتاح يقتضي حضور الباب الذي يحضر في حالين هما الفتح والإغلاق، كما يقتضي حضور المسكن. وبالتّالي، فإنّه يتّخذ قيمةً كبرى في السّياق الطّبيعيّ للحياة الإنسانيّة فرديّاً واجتماعيّاً، فهو العنصر المحوريّ الذي يثبّت ملكيّة الفرد لهذا المسكن، والاحتفاظ بذاك المفتاح يعني الاحتفاظ به. وهذا ما يجعل منه حالاً مخيِّمةً على مسألةٍ بأكملها، وأعني المسألة الفلسطينيّة. من هذا المنطلق، كان المفتاح رمزاً من رموز العودة إلى ما يمتلكه الفلسطينيّ من أرضٍ وبيتٍ وغيرهما، وكذلك كان رمزاً من رموز مقاومته لحال التّشتّت والتّآمر وضغوط النّسيان...
أمّا أن يكون هذا المفتاح مخصّصاً لنجوى، فإنّ ذلك يفسح لنا في المجال أمام دلالات عدّة يمكن أن تضيء حقيقة السّياق الرّوائيّ. فهو يوحي بأنّ الشّخصيّة الرّئيسيّة ستكون "نجوى" التي تقدّم لنا بعدين دلاليّين: الأوّل يتعلّق بمعنى الاسم الذي يحمل عناصر المناجاة والحوار الباطنيّ وما يستتبع ذلك من إخفاء صراعٍ داخليّ من نوعٍ ما. في حين أنّ البعد الآخر يشير إلى طبيعة هذه الشّخصيّة بوصفها امرأةً، وهو الأمر الذي يشير إلى زاوية رؤيةٍ قد تكون مختلفةً حول الحياة لأنّها تنطلق من منطلقٍ أنثويّ. وبناءً عليه يصبح العنوان علامةً دلاليّةً عميقةً توجّه أبصارنا نحو رؤيةٍ ترتبط بامرأةٍ فلسطينيّةٍ قد قرّرت حمل مفتاحها لمقاومة ما عانى منه شعبها.
هذه الدّلالة التي يحيلنا إليها العنوان تقودنا بشكلٍ مباشرٍ إلى السّياق الرّوائيّ وكيفيّة تشكّله، فـ"مفتاح لنجوى" تروي قصّة فتاة اسمها نجوى من خلال علاقة صداقة تظهر عبر التّواصل الافتراضيّ بشخصيّةٍ أخرى تدعى دارين، تنتمي كلّ منهما إلى وسط مختلفٍ عن الأخرى، لا بل يكاد يكون نقيضاً للوسط الآخر. فنجوى ابنة مخيّم شاتيلا الذي يمثّل مخيّمات الشّتات بكل ما تتضمّنه من بؤسٍ وفقرٍ وفقدانٍ للحدّ الأدنى من المواصفات الصّحيّة وعوامل السّلامة والرّاحة والأمان عناصر تحقيق الذّات والطّموح، حيث شكّل نادي "غدنا" للفنون المتنفّس الوحيد لها؛ بينما تنحدر دارين من بيئةٍ مدينيّة يطغى عليها نوع من الرّفاهيّة والرّاحة والخلوّ من أيّ وجهٍ من وجوه المعاناة، أو بالأحرى الابتعاد عنها، في ظلّ تفكيرٍ طائفيٍّ وطبقيٍّ حادّ.
سرعان ما تظهر طبيعة العلاقة بينهما، وهي علاقة دراسيّة أخذت تتطوّر بعد معرفة دارين لعلاقة الحبّ التي جمعت عمّتها "رندة" برجلٍ فلسطينيٍّ يدعى "الدكتور غسّان الخطيب"، إذ تكون قد طلبت منها عمّتها التي تفاقم مرضها الخبيث أن تبحث لها عن هذه الشّخصيّة لتعطيها الرّسائل الخاصّة بها ولتحاول التّفتيش عن نهايةٍ سعيدةٍ لقصّتها. فتعمل نجوى على مساعدة صديقتها التي أبدت تعاطفاً شديداً مع المعاناة الفلسطينيّة، ليتّضّح لنا أنّ دارين تعود بجذورها إلى عائلةٍ مسيحيّةٍ فلسطينيّة الأصل سعى أهلها إلى قطع الرّوابط مع منبتها. أمّا نجوى فيظهر أمامنا صراعها الحادّ مع محيطها الذي سعت إلى الانفصال عنه بأيّة وسيلةٍ ممكنة، نظراً لما تعيشه من طمسٍ للحرّيّة الفرديّة، ومن محاصرةٍ للطمّوحات وتقويضٍ لها، فضلاً عن الرّضوخ المستمرّ لحال المعاناة، وهو الأمر الذي شكّل لديها عقليّة الخروج عن حدود المخيّم وعن معاييره.
تتواصل الرّواية من خلال عمليّة البحث عن حبيب العمّة رندة من دون جدوى، في حين يترافق ذلك مع معاناة تمرّ بها نجوى، منها مقتل أخيها الذي كان عنصراً في جماعة "فتح الإسلام"، في مخيّم نهر البارد؛ وموت جارها أثناء محاولة دخوله غير الشّرعيّة إلى أوروبا عبر تركيا في محاولةٍ يائسةٍ للتّخلّص من واقع حياة المخيّم. أمّا دارين فتعمل على مواجهة وسطها من خلال إعلان سعيها لمعرفة جذورها الفلسطينيّة الحقيقيّة، ما يثير استهجان أهلها، وهو الأمر الذي يدفع شقيقها إلى مصارحتها بانتمائه إلى تجمّعٍ شبابيٍّ يدعى "خيبة بن غوريون" هدفه العمل على مواصلة ترسيخ الانتماء الفلسطينيّ في الأجيال الجديدة، ويؤدي ذلك بنجوى إلى تشجيع دارين للانخراط سويّاً بهذا التّجمّع، ما يعني تغييراً جذريّاً في نظرتها إلى انتمائها ونظرتها. لكنّ ذلك لم يمنع الفتاتين من مواصلة عمليّة الاستقصاء تلك، حيث تسهّل نجوى لصديقتها عمليّة الوصول إلى شخصيّة "أبي فداء" مسؤول النّادي الذي يتّضح أنّه هو نفسه الدّكتور "غسّان الخطيب" الذي تقومان بالبحث عنه، وتنجحان في جعل الحبيبين العجوزين يلتقيان. وتكون النّهاية بالدّعوة إلى الاحتشاد على الحدود الفلسطينيّة من كافّة الجهات بالتّضامن مع ناشطين دوليّين حول العالم، وذلك في ذكرى النّكبة من العام التّالي.
وبناءً عليه، يمكننا ملاحظة أنّ الرّواية قائمة بشكلٍ أساسيٍّ على صراعٍ بين ثنائيّتين تمثلاّنهما كلّ من نجوى ودارين: ثنائيّة الانتماء والخروج لدى فتاة المخيّمات الفلسطينيّة بمواجهة ثنائيّة الضّياع والبحث عن الذّات عند الفتاة المنتَزَعة من جذورها الفلسطيّنيّة. لكنّ السّؤال يبقى: كيف قدّم لنا الفضاء الرّوائيّ هذا الصّراع؟

الفضاء المكانيّ: تصارع الأمكنة
يتمتّع المكان بأهمّيّةٍ خاصّة في العمل الرّوائيّ لأنّه الحاضن الذي يغلّف الأحداث ويفرض عليها طبيعته، وكما أنّ الحياة الإنسانيّة لا تقوم إلاّ على أرض تحدّد ظروف تلك الحياة وطبيعتها على حدّ ما يبيّن لنا أنطون سعاده في كتابه نشوء الأمم ، فإنّ الحدث الرّوائي لا يمكن أن يقوم بلا مكان أو أمكنةٍ "تنقلنا بالخيال إلى بقاعٍ مجهولةٍ تجعلنا للحظةٍ نتوهّم أنّنا نجتازها ونسكنها" .  من خلال النّظر إلى الأمكنة في الرّواية يمكننا أن نجد أنفسنا في أماكن قد تكون مجهولةً علينا، لا سيّما تلك المتعلّقة بالمخيّمات الفلسطينيّة وبنظرة الشّخصيّة الرّئيسيّة إليها. على أنّ هذا يتمظهر لنا في مستوياتٍ عدّة، أتت على الشّكل التّالي:
1-    المكان المرجعيّ /الممرّ:
تُدخلنا الرّواية بشكلٍ مباشرٍ في حيّزٍ مكانيٍّ محدّدٍ تدور فيه حياة نجوى، وهو مخيّم شاتيلا. إذ كان بمثابة الإطار الأساسيّ الذي تقدّمه لنا هذه الشّخصيّة إلى جانب صديقتها دارين، مع الأخذ بعين الاعتبار لاختلاف نظرة كلٍّ منهما نحو هذا الإطار. ويمكننا أن نرى في البداية صورة هذا المخيّم بعين دارين لتعطينا نوعاً من الصّدمة بسبب المشاهد التي لم تألفها العين والتي قد لا يظنّ المرء أنّها موجودة في الأصل، إذ تصرّح لصديقتها نجوى: "لم أتصوّر حتّى في أسوأ الكوابيس، هذا الكم الهائل من البؤس والحرمان في هذه الجزيرة المخيفة التي تسمّى مخيّم شاتيلا" . فأن يوصَف المخيّم بأنّه جزيرة مخيفة هذا يعني أنّه لا يمكن أن يكون صالحاً للعيش في الأساس، على الأقل من ناحية الشّروط المادّيّة لهذا العيش، وهذا ما أخرج المخيّم بالتّالي من دائرة المكان العاديّ ليدخله في إطار المكان الحاضن للحدث الرّوائيّ.
إلاّ أنّ حقيقة هذا المكان تمثل أمامنا على نحوٍ أكثر إغراقاً في توصيف الواقع، عندما انتقلت الرّواية إلى لسان نجوى التي اختصرت المخيّم كاملاً بلفظة "الممرّ" التي عبّرت عن عمق المعاناة التي تصيب الإنسان في هذا المكان بسبب الضّيق الذي يوحي بالاختناق: "هل تعلمين معنى أن يولد المرء في ممرّ؟ أن لا ينتمي إلى وطنٍ أو منزلٍ حقيقيّ، بل إلى ممرّ؟ المخيّم هو الممرّ حيث كلّ شيءٍ مؤقّت، حيث القوافل تقتات الانتظار وتحلم بالعبور" . إضافةً إلى ذلك فإنّ هذا التّشبيه بالممرّ المؤقّت يعطينا انطباعاً عن كون حياة الفلسطينيّ القائمة ما تزال مرتبطة بمسألة العودة، ولذلك فإنّ كلّ هذه المظاهر تبدو مؤقّتة. وبناءً عليه يبدو الخروج من هذا "الممرّ" إلى رحاب المدينة، حسب العجائز في المخيّم، هو بحدّ ذاته "الخيانة العظمى" .
إضافةً إلى ذلك، فإنّ الضّيق الذي يتّصف به المخيّم يأخذ بالتّفاقم بسبب العوامل الخارجيّة نظراً لكونه مركز جذبٍ للبائسين من مختلف الجنسيات وليس من الفلسطينيّين فقط، وبالتّالي فإنّ المساحة المعطاة لهذا "الممرّ المؤقّت" تأخذ بالتّقلّص شيئاً فشيئاً حتّى يصبح أبعد ما يكون عن كونه حيّزاً سكنيّاً. وهذا الأمر الذي توضحه نجوى بالقول: "ستّة آلاف لاجئ يعيشون ضمن أقلّ من كيلومترٍ مربّع، بالإضافة إلى اللّبنانيّين والسّوريّين والبؤساء من مختلف الجنسيّات. ما الذي يمكن توقّعه غير ذلك؟" .
ولا ينطبق هذا الأمر على مخيّم شاتيلا فحسب، بل يتعدّاه ليشمل المخيّمات الأخرى. فالمعاناة تبقى واحدةً، والمشهد يكاد يكون واحداً لولا بعض التّغييرات الطّفيفة. وهذا ما توضحه لنا دارين من خلال استرجاعاتها الدّاخليّة حول الزّيارات التي قامت بها إلى بعضها بحثاً عن حبيب عمّتها، ومنها دخولها إلى مخيّم مار الياس بمرافقة أقارب لنجوى، حيث كانت مشاهداتها تتلخّص بالتّالي: "المخيّم [مخيّم مار الياس] يضيق بأصحابه، يجتاحه الأثيوبيّون والسريلنكيّون والفقراء من مختلف الجنسيّات، يبحثون عن شقّةٍ صغيرةٍ قريبةٍ من أحياء المدينة الغنيّة. هذا ما أخبرتني به ليلى [ابنة خال نجوى] خلال جولتنا في أزقّة المخيّم الضيّقة"  .
ولا تتوقّف مشاهداتها عند هذا الحدّ، لكنّها تتجاوزها لتروي بعض حالات البؤس التي تجري داخل مخيّم برج البراجنة على سبيل المثال لا الحصر، ومنها ضعف التّنظيم في الإمداد الخاصّ بشبكات الكهرباء والمياه، حيث يؤدّي اختلاطها إلى مخاطر باتت اعتياديّة بالنّسبة لسكّان المخيّم، وجريان المياه الآسنة وسط طرقات المخيّم، مع أنّ سكّانه يبقّون ضاحكين للزّوار بكلّ صدق .
استناداً إلى ذلك، نلحظ أنّ الفضاء المرجعيّ للرّواية يحيلنا إلى حالٍ من البؤس تستطيع أن تغرق الانسان الفلسطينيّ بعيداً عن همّه الأساس وقضيّته التي أوصلته إلى هذا "الممرّ"، وهو الأمر الذي يقدّم لنا نافذةً لبحث طبيعة التّأثير الذي يمتلكه هذا المكان في ساكنيه.
2- فاعليّة المكان /الأثر القسريّ:
مارس المكان/الممرّ هذا تأثيره الواضح في الذّات الفلسطينيّة داخل الحيّز الرّوائيّ، ولعلّ الملاحظة الأولى التي نجدها في هذا التّأثير هي عمليّة الالتصاق بوثيقة اللاّجئ الفلسطينيّ المسمّاة بـ"الوثيقة الزّرقاء" على لسان نجوى، وكأنّ هذا الوصف يريد أن يخبّئ الأثر السّلبيّ الذي يولّده التّعبير الأصلي عنها، والذي قد يكمن في الهرب من الإطار الذي يذكّر بالتّجرّد من الحقوق الوطنيّة والقوميّة والحقوق المدنيّة والإنسانيّة. الأمر الذي يتّضح على نحو أكبر من خلال وصف الوثيقة بأنّها "تلك التي تحشرنا في الممرّ وتدفننا فيه" .
على أنّ هذا "الحشر" في الممرّ أو في المكان الضيّق المعروف بالمخيّم يحمل في طيّاته مجموعةً من المعطيات التي تؤثّر سلباً في مجرى الحياة العامّ فتسم المجتمع المحصور داخل حدودها بمواصفاتٍ عدّة منها ما هو مشترك مع المحيط العامّ، ومنها ما هو خاصّ بهذا الحيّز. فعلى سبيل المثال، نرى صورة المجتمع الذي لا يمكنه أن يتقبّل أيّ رأيٍ آخر، لا بل لا يمكن أن يعترف به في الأساس، وفي هذا السّياق يأتي كلام نجوى: "أنسيتِ أنّنا ننتمي إلى مجتمعٍ لا يؤمن إلاّ بالنّظرةٍ الأحاديّة وينسى كلّ ما لا يرتبط مباشرةً باقتناعاته؟" . ومن هذا المنطلق، نرى أنّ مفهوم الحريّات بعامة يأخذ بالتّقلّص داخل حدود المخيّم، فإلى جانب انعدام حريّة الرّأي، نلاحظ أنّ الحصار يعمل على تضييق مساحة الحرّيّة شيئاً فشيئاً لتشمل الحرّيّة الفرديّة. إذ أنّ زاوية الرّؤية التي تقدّمها لنا الرّاوية نجوى تبيّن انتفاءً حتّى في الحرّيّة الشّخصيّة، حيث تتداخل الأصوات بين المساكن، ولتختفي خصوصيّة البيت ويصبح كأنّه مباح أمام ما يحيط به من ضجيج يبعث على الخنق النّفسيّ .
في السّياق نفسه، نجد أنّ تأثير المكان يبدو أكثر تنامياً في نظر نجوى ليشمل هيكليّة المجتمع الأخلاقيّة والقيميّة، إذ أنّ مفهوم المجتمع نفسه ينتفي لمصلحة حضور مفهوم التّجمّع البدائيّ الذي يتّبع سنّة البقاء للأقوى، فتقول: "أنا نشأتُ في بنيةٍ حيث النّاس يقاومون القهر بالضّرب. كلّ واحدٍ يضرب مَن هو أضعف منه. الزّوج يضرب امرأته وأولاده، والأمّ تضرب أولادها، والأخوة يضرب بعضهم بعضاً... أنا كنتُ الأضعف.." . ومن هذا المنطلق نرى دخولاً في قضايا كيانيّة داخل هذا الحيّز المكاني تشكّل صورة عن المجتمع فيه وحتّى في محيطه ككلّ، وأعني هنا تمثيلاً لصورة مجتمعات العالم الثّالث. إذ يمكننا أن نقرأ من خلال هذا المقطع حضوراً لحال المرأة بوصفها الحلقة الأضعف في المجتمع، وبالتّالي العنصر الأكثر تلقيّاً لممارسات الضّغط والعنف.
إلاّ أنّ القارئ يلحظ تميّزاً للإطار المكانيّ الذي يمثّله المخيّم في بعض الجوانب عن غيره من المجتمعات، وإن ورد على لسان نجوى بصورةٍ هروبيّةٍ تعمل على الفرار من الواقع بدلاً من مواجهته، وإن كان يحضر من خلال الثّغرات التي يعاني منها القانون العنصريّ. فوضع المرأة في المخيّم يختلف عنه في الخارج، وهو الأمر الذي يدفع نجوى إلى استغلاله وفق نظرتها التّالية: "دارين العزيزة، إنّ القانون الجائر يحقّ للفلسطينيّين فسحة تسمح للمرأة بالتّفوّق على الرّجل، وأنا مصرّة على احتلالها واستغلالها إلى الحدّ الأقصى. فالرّجل الفلسطينيّ إن تزوّج لبنانيّةً لا يحصل على أيّ امتياز إذ يمنع القانون اللّبنانيّ المرأة من منح أبنائها الجنسيّة. بينما المرأة الفلسطينيّة، إن تمكّنت من العثور على زوج لبنانيّ، تكون قد وصلت إلى المنفذ الذي يسمح لها ولأولادها بالخروج إلى الضّوء" .
أمّا التّأثير الأخطر للمكان في أحداث الرّواية خصوصاً، وفي الانسان الفلسطينيّ بشكلٍ عامّ، فيتجلّى في الواقع الاجتماعيّ - السّياسيّ المزري الذي يفصل هذا الشّعب عن قضيّته المحوريّة، والذي تقدّمه لنا الرّواية من خلال الانقسام الحاضر داخل العائلة الواحدة: "عائلتنا صورة مصغّرة عن المجتمع الفلسطينيّ المفكّك والمتعصّب لتفكّكه" ، فصورة هذا المجتمع تتّصف بالتّصدّع السّياسيّ - الفكريّ الذي يتمّ استغلاله من أجل إبعاد الشّعب الفلسطينيّ عن الخوض في الصّراع على قاعدةٍ ثابتةٍ ومن خلال تخطيطٍ جادّ للوصول إلى أهداف الحريّة والعودة، وذلك انطلاقاً من الدّخول في الصّراع الحادّ بين أبناء القضيّة الواحدة بدلاً من الصّراع ضدّ سالبي الحقوق والأرض. ولا يتوقّف الأمر عند التوجّهات السّياسيّة والفكريّة القائمة، بل يصبح المخيّم ميداناً لدخول أفكارٍ غريبةٍ ومريبة، وبالتّالي لتفتّتٍ أكبر وتشرّدٍ أكبر: "كلّ يومٍ يظهر تنظيم جديد، ويحمل اسماً مختلفاً ووعوداً جديدةّ للشّبّان الذين يبحثون عمّا يملأ فراغهم بوهم النّضال، أو جيوبهم بأموال مجهولة المصدر". لعلّنا نرى في هذا الأمر تمهيداً لظهور الحال الخاصّة المتعلّقة بـ"كريم" في عائلة نجوى، إذ اتّضح لنا أنّه انخرط في إحدى المنظّمات المتشدّدة في مخيّم نهر البارد، وأخذ يتصرّف بشكلٍ مختلفٍ عن تربية تلك العائلة وقيمها . وهنا نكتشف خطورة التّأثير لأن يكون الإنسان جزءاً من المخيّم، فهو عرضة لسياقاتٍ غير محسوبةٍ تغرق سكانه في مآسٍ أخرى فوق ما عرفوه، ليس أقلّها فقدان الأبناء بشكلٍ مجّانيٍّ أبعد ما يكون عن النّضال من أجل العودة وطرد الاحتلال .
3- المكان ذهنيّاً /ذاكرة الدّم:
يدخلنا ذلك النّقاش في ما كوّنته الأحداث عن المخيّم في الأذهان، فحدود المخيّم لا تضمّ مجرّد مساحةٍ مكانيّة عاديّة، بل تضمّ تاريخاً حافلاً من العذابات والمآسي والحروب. لذا نقرأ من وجهة نظر دارين عن ارتباط لفظة المخيّم بالحروب: "كأنّها حرب وراء حرب، والخيوط التي تحرّكها تبدو أطول ممّا نتوقّع، ممتدّة إلى أوكارٍ مخفيّة. المخيّمات ملعب مفتوح أمام لاعبين يمارسون فيه اختباراتهم" .
 في السّياق الرّوائيّ، نتفاعل مع هذه الحروب من خلال عمليّة البحث التي تقوم بها دارين عن الدّكتور غسّان الخطيب، حيث يشكّل هذا الخيط السّرديّ مساراً مطّرداً يعرّفنا بعمق المعاناة التي عاشها أهالي المخيّمات في ظل المجازر، ولكن من زاويةٍ تعمل على مقاربة المشاعر التي تركتها فيهم. هنا يكمن الحضور الذّهنيّ للمكان، إذ أنّ تاريخ المجازر التي مرّت على هذا الشّعب ارتبطت بالمكان، أو على نحوٍ أدقّ بالمخيّمات، ما أثار في ذات الفلسطينيّ الشّعور باليأس والموت.
تنطبق هذه الحال على والد نجوى، حينما يتحوّل إلى صوتٍ روائيٍّ ليسرد علينا تجربته الشّخصيّة مع مجزرة "تلّ الزّعتر" فيقول: "سأحدّثكِ عن يوميّاتنا أيّام الحصار، عن صراعنا ضدّ الجوع، عن انقطاع المواد الطّبّيّة [...] عن انقطاع التيّار الكهربائيّ وعن العدس الذي غدا، في المرحلة الثّانية من الحصار، طعامنا الوحيد [...] وانقطاع الماء... والقسطل الوحيد الذي كان يروي ثلاثين ألف نسمة طوال اثنين وخمسين يوماً.. غدا مصيدة [...] والمعارك التي كنّا نخوضها دون شجاعة فعليّة، مدفوعين فقط بغريزة البقاء" . ويتابع سرده في موضع آخر ليبيّن لنا اللّحظات التي استشهدت فيها أمّه وأخته بوصفهما جزءاً من ضحايا المجزرة أثناء القصف على المخيّم . وهذا ما جعل المكان المذكور، أعني "تلّ الزّعتر"، لا يرتبط إلاّ بالألم النّفسيّ لدى والد نجوى، نظراً لكونه ممثّلاً لضحايا هذ المجزرة التي غيّرت حياة كلّ مَن مرّ فيها بشكلٍ جذريّ، وهو ما يعلنه بنفسه معلناً: "قبل تلّ الزّعتر، كنتُ شخصاً آخر... هناك فقدتُ الطّبقة الأولى من تلك الشّخصيّة. بعدها عرّتني التّجارب من الطّبقات الأخرى" .
ذاكرة المكان تتطوّر بشكلٍ أكبر في ذهن الوالد الذي يرافقه التّأثّر حتّى بعد زمنٍ طويلٍ على تلك الأحداث، فتتضخّم الذّاكرة لتشمل تجاربه الأخرى المرتبطة بمكانٍ آخر حفر صورته الذّهنيّة في فكره؛ وهو المكان الذي ارتبط بالمجزرة الشّهيرة المعروفة بـ"صبرا وشاتيلا"، وهو المكان الذي ما يزال قائماً فيه ضمن حاضر الرّواية. ولعلّ تعاظم منسوب الألم الذي لم يفتأ يشعر به جعله يؤثر الصّمت التّام، نظراً لوحشيّة المشاهد التي عاشها والتي تنقلها زوجته لدارين، مع كل ما تضمّنته هذه المشاهد من ذكريات إصابته بالسّاق، وسقوطه ثمّ سقوط جثّة صديقه فوقه، واختباؤه لمدّة يومين والتهامه الخبز اليابس ليسد شيئاً من جوعه .
يُبرز هذا كلّه كيف أنّ المكان شكّل ذاكرةً محدّدة في أذهان أهالي المخيّم، هي ذاكرة المأساة التي يراد لها أن تكون عاملاً أوّل من عوامل الانهزام والانكسار والخوف، لأنّها مأساة تسعى إلى تدمير الذّات وإلى الاستسلام. الأمر الذي أتى على لسان والد نجوى بصيغة تساؤل يبيّن تملّك تلك المشاعر السّلبيّة منه: "ما الذي يمكن أن ينقذكِ بعد أن تخوضي تجربةً كالمجزرة؟ ما الذي ينقذكِ من الخوف والقرف والجنون؟" .
بعد استيعاب كلّ ما سبق عن فضاء المخيّم، تمثل أمامنا نجوى من جديد بسعيها إلى الفكاك من جوانب المآسي تلك، والتي قد يبرّر لها البعض ذلك، وقد يتحوّل طموحها إلى حالٍ عامّةٍ تنسحب على الشّريحة الأكبر من متّحد المخيّم. لكن السّؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف سيبدو العالم الذي يقع خارج أسوار المخيّم أمام القارئ؟ وكيف سيُقدَّم لنا؟
4- الحضور المكانيّ لـ"آخر" /فساد الجنّة:
قد يظهر للقارئ أنّ صورة العالم الخارجي بعد هذا كلّه ستكون الجنّة الموعودة بالنّسبة إلى قاطني المخيّم، كما كان كذلك بالفعل بالنّسبة لنجوى. ولعلّ هذا ما يتّضح من خلال نظرتها إلى المكان الذي وسمه العدوّ بصبغته فبدا نقيضاً للمخيّم من كلّ النّواحي، لا سيّما من النّاحية المدنيّة - العمرانيّة، إذ أنّ استرجاعها لرؤية الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة من جهة الجنوب اللّبنانيّ لأوّل مرّة بعد التّحرير في العام 2000، أظهر إحداث نوعٍ من الصّدمة فيها نظراً للفارق الكبير من حيث الشّكل على الأقل بين هذه المناطق وبين المخيّمات: "أنا لم أستطع أن أنتزع نفسي من موقعي قرب الشّريط، أراقب بغيظٍ بيوت مستعمرة المطلّة الجميلة، طرقاتها نظيفة وأشجارها المصطفّة بانتظام. الأشجار شكّلت التّحدّي الأكبر بالنّسبة إليّ، أكثر من الطّرقات والمنازل وجنود الاحتلال" .
يلفت نظر القارئ هنا هذا الغيظ الذي تحسّ به نجوى بسبب مقارنتها تلك لأنّ هذا الجانب هو الذي شكّل دافعها إلى السّعي للانفصال عن المخيّم. واللافت أكثر في كلامها هذا هو التّركيز على رمزيّة "الأشجار" التي شكّلت الحدّ الفاصل بين حيّز المخيّم المكانيّ وبين الحيّز المكاني الذي يشغله العدوّ إلى جانب دقّة التّنظيم والحرص على النّظافة، وهي الأمور التي افتقدتها نجوى، فأوضحت ذلك في شكل مقابلةٍ بلاغيّةٍ بسيطة ولكن معبّرة: "نحن نغنّي وهم يزرعون الشّجر" ، أيّ أنّ شعوبنا احترفت التّبجّح بينما العدوّ أتقن عمليّة إدارة المكان وتنظيمه، وهذا ما شكّل في ذهنها هاجس الخروج عن مكان نشأتها.
على أنّ هذا الهاجس بدأ يتبلور من خلال صداقة نجوى بدارين، إذ فتحت لها الباب من أجل التّعرّف على مكانٍ آخر مناقض لما تعرفه. لكنّ الحصول على هذه الفرصة لم يكن كما تنشده نجوى، لأنّ النّطرة الأولى نحوها أبرزت استهجاناً واضحاً، وبالتّالي نوعاً من العنصريّة على صعيدين: على صعيد انتمائها الدّينيّ أو انتمائها الوطنيّ، ويتّضح ذلك بقول نجوى نفسها: "كان الجميع ينظرون إليّ كأنّني قادمة من كوكبٍ آخر، ألم تستقبلوا من قبل مسلماً في منزلكم؟ لا تشعري بالحرج. الذّنب ليس ذنبكِ" . وعند الغوص في خفايا ذلك البيت بوصفه النّموذج المكانيّ الثّاني أمام نجوى، نلاحظ تفكّكاً من الناحية النّفسيّة في العائلة تتجلّى في التّوتّر المتواصل وانعدام استقرارٍ نفسيٍّ لدى أفرادها، من خلال ما تبيّنه دارين: "حال الجوّ في بيتنا يسيطر عليها مزاج والدتي، سواء أصافياً كان أم متقلّباً. أمّي غارقة في المؤامرات، ترى الجميع متحالفين ضدّها، وهي في مواجهةٍ يوميّةٍ مع الجميع، ابتداءً من والدي الذي راح يتلهّى عن كيدها بمطاردة النّساء وبالسّهرات والحفلات، إلى زوجات أعمامي اللّواتي يكلن لها الصّاع صاعين. حتّى عمّتي لم تسلم من نميمتها ومن الحروب الضّارية التي تشنّها في العلن والخفاء" . ومن الواضح أنّ مكاناً كهذا لا يمكن أن يكون إطاراً مثاليّاً للعيش، لأنّه لا يمتلك مؤهّلات الاستقرار والرّاحة التي تظنّها نجوى، وإن بدا كذلك في الظّاهر.
غير أنّ المكان الذي يحضر بوصفه الأكثر نموذجيّةً، أو بوصفه الجنّة المنشودة بالنّسبة للشّباب الفلسطيّنيّ بعامّةٍ، فهو العالم الغربيّ، وبالتّحديد الأوروبيّ، حيث الحرّيّة وحقوق الإنسان والتّنظيم الحضاريّ والثّقافيّ كما هو مفترض. وقد شكّل الوصول إلى هذا المكان في الرّواية طموحاً أساسيّاً لكونه يمثّل الخلاص من عناصر البؤس ومحاصرة الحرّيّة الفرديّة، إذ تصفه نجوى بأنّه "بوابة الجّنة" . وقد برز هذا المكان من خلال شخصيّتي الشّقيقين: ياسر وجلال. فالأوّل سعى إلى السّفر لأوروبا بطريقةٍ غير شرعيّة عبر تركيا، مع ما تضمّنه ذلك من مخاطر جمّة تتمثّل في الدّجّالين وخفر السّواحل وقلّة عناصر السّلامة... وهي المخاطر التي أودت بحياته أثناء رحلته الموعودة على متن زورق متّجهٍ نحو جزيرة رودس . ما يعني أنّ الاحتمال الأوّل الذي يقدّمه هذا المكان هو الموت أو على الأقلّ التّعرّض للاحتيال والاعتقال.
أمّا شخصيّة جلال، فقد مثّلت الذين نجحوا في العبور ووصلوا للاستقرار في إحدى الدّول الأوروبيّة. وانطلاقاً من اعتقادات نجوى، يجب أن تكون حياته تتّسم بالرّاحة والاستقلاليّة وتحقيق الذّات. إلاّ أنّ حوار جلال معها يوضح لها ولنا أنّ هذا المكان أيضاً ليس بالجنّة المفترَضة: "نجوى، ليس الحلّ هنا أيضاً، حيث الطّرقات الواسعة والنّظيفة، حيث الأحياء التي تتنافس في زراعة الأزهار، حيث الخضرة الدّائمة والنّظام الدّقيق والعلم والطّبابة وفرص العمل لمن جدّ واجتهد، على الأقلّ بالنّسبة إلى سكّان البلاد النّظاميّين" . ويشرح لها كيف أنّ هذا المكان نقيض بالفعل للمخيّم، ولكن ليس نحو الأفضل بل نحو وحشيّة الوحدة وانعدام أي مفهوم للمساعدة، وكيف أنّ هذا العالم يتضمّن حيّزاً شبيهاً بالمخيّم سمّاه "العالم السّفليّ أي الضّواحي، مع اختلافٍ أساسيٍّ هو سيطرة حال الوحدة عليه .
في خلاصة القول حول هذا الجانب، يظهر لنا الحضور المكانيّ للآخر أبعد ما يكون عن كونه خلاصاً، أو "جنّةً"، بكلّ مستوياته، ولذلك لم يكن هو الحلّ، لأنّه تضمّن عوامل الفساد والانحطاط الأخلاقيّ. فهل من ثغرةٍ في جدار الإحباط هذا؟
5- فنّيّة المكان /طريق النّضال:
تظهر الفنيّة في الرّواية من خلال تحويل أمكنة صغيرة إلى مساحاتٍ أوسع من النّاحية المكانيّة ومن ناحية الإرث أو الطموحات، وينجح ذلك باستعمال تقنية تناوب الرّواية، ما يعطينا إطارين مكانيّين متباعدين ظاهراً ولكن يصبّان في الغاية نفسها التي يطمح إليها العمل.
يبرز لنا المكان الأوّل، في هذا السّياق، من خلال تيار الوعي الذي ينشط لدى دارين ليعيدنا إلى طفولتها، إذ كان الموضع الأكثر حميميّةً واطمئناناً بالنّسبة إليها هو خزانة جدّتها حيث كانت تعيش في عالمها الخاصّ ومستقبلها الواعد بعيداً عن عالمها الواقعيّ . غير أنّ هذا الإطار المكانيّ الضّيّق لم يبقَ على حاله في شبابها، لأنّه تحوّل إلى بانوراما عن المسيرة الأولى لعائلتها التي شرعت تبحث عنها في ظل إنكار تامٍّ من قبل أبويها. لذا تقوم بالإعلان: "هذه الخزانة تحوي اليوم رسائل توقظ الماضي، فيها حبّ وأحلام وبطولات وانكسارات. حبّذا لو استطعتُ أن أتكوّم داخلها، كما في الماضي، حين كانت المساحة تتّسع لجسدي الصّغير. في الخزانة حكايا عن وطنٍ تضاءل فبات لا يتّسع لحاضرنا أو مستقبلنا، وفيها مفتاح، كما المفتاح المعلّق عند المدخل في بيت نجوى" .
ونرى تضخّم هذا الخزانة بشكلٍ عمليٍّ عندما تأخذ دارين بقراءة ما وجدته فيها من الرّسائل والمذكّرات التي كتبها جدّاها، ومنها قول جدّها: "لم أبعْ كما فعل بعضهم. احتفظتُ بحجّة الأرض وضعتها داخل قميصي يوم الرّحيل. ما زلت أؤمن أنّها ستفيدنا يوماً ما وستعيد لنا أرضنا" .
استناداً إلى ذلك، قد يكون هذا المكان الضيّق هو الذي دعا دارين إلى الدّخول في حياة نجوى بحثاً عن الانتماء إلى جذورها الفلسطيّنيّة، كما كان له الأثر في دفع حياة نجوى إلى التّغيّر في الفعل والتّفكير. الأمر الذي تبرزه هذه الأخيرة في حوارها الإلكترونيّ معها: "عظيم تصرّين على لحس المبرد. أنتِ تتّبعين المسار المعاكس لمساري. أنا أسعى إلى الهرب من المآسي وأنتِ تسلكين درب الآلام بمحض إرادتك" .
من جهتها، أظهرت نجوى مكاناً فنيّاً آخر، لكنّه وقع هذه المرّة داخل المخيّم، ما أسهم في تشكيل حيّزٍ مناقضٍ لواقع هذا الأخير. وقد تجلّى هذا الحيّز في نادي "غدنا" الذي انضمّت إليه نجوى؛ فكان بالنّسبة لها، بوصفها راويةً وشخصيّةً رئيسةً على حدٍّ سواء، حضوراً أكبر من إطاره الواقعيّ وأثراً أبعد ممّا يبدو عليه. ويتبدّى لنا ذلك في معرض كلامها عن مدير النّادي، ورفيق والدها القديم: "أبو فداء هو مدير نادي «غدنا» للفنون الذي أرتاد مع أشقّائي للتّمتّع بفسحةٍ من الضّوء والرّاحة [...] ما زلتُ في البداية وما زالت الدّروس جافّةً وصعبة، ولكنّني أحلم باليوم الذي سأتمكّن فيه من أن أفرغ عواطفي وأفكاري ألواناً وخطوطاً فوق القماش. ربّما سيكون هذا منفذي من المتاهة" . ومن الواضح أنّ هذا المكان غدا بعداً نفسيّاً يتميّز بكونه ضوءاً بالنّسبة لها، مع ما يعنيه ذلك من الحرّيّة والأمل، ويحمل المنفذ الذي يجعل المستقبل أكثر إشراقاً.
ومن ناحيةٍ أخرى، شكّل هذا المكان ميداناً للعمل الفاعل في تحسين واقع الحياة في المخيّم من جهة، وللرّبط بالجذّور الفلسطينيّة من جهةٍ ثانية. إذ أنّه احتضن مشروع التّشجير داخل المخيّم "لنشر الخضرة ولإحياء تقليدٍ رسّخه أجدادنا حين وصلوا إلى لبنان وغرسوا التّين والبرتقال والأكي دني في المخيّمات، ليتذكّروا الأرض التي كانوا يزرعونها في ديارهم" .
استناداً إلى ما سبق، نرى أنّ المكان قد تحوّل بنتيجة طموحات الشّخصيّات ومبادئها إلى أمكنةٍ فنّيّةٍ تمتلك هويّتها داخل الرّواية فحسب لتعطي مساحةً من الأمل وترسيخاً لروح الانتماء فيها، وهو ما يمكن أن نعدَّه المؤثّر المحوريّ في تغيير مسار حياة نجوى نحو النّضال من أجل القضيّة.
الخاتمة: محوريّة المكان.
في خلاصةٍ لما تمّ درسه، نجد أنّ الفضاء المكانيّ قد امتلك أهميّةً بارزةً في سياق العمل الرّوائيّ المعنون "مفتاحٌ لنجوى"؛ لأنّ المكان هو الذي أفسح في المجال أمام تكوين الصّراع لدى الشّخصيّات، ولا سيّما شخصيّة نجوى؛ فنشأتها داخل مخيّم شاتيلا شكّل تحدّياً بالنّسبة لها لتتخلّص من واقعها. من هذا المنطلق تقسّم الفضاء المكانيّ إلى مستويات مطّردة في دوره داخل أحداث الرّواية: أوّلها المستوى المرجعيّ الذي أوضح لنا بؤس الحال في المخيّمات بصورةٍ عامّة، يليه المستوى الذي يبيّن تأثير هذا المكان في حياة الأفراد، ثم مستوى الذّاكرة الذي بيّن ما يختزنه أهل المخيّمات من ذكرياتٍ حول المآسي والمجازر التي دارت ضمن حدود المخيّمات وارتبطت تسميتها بها. في حين ظهر مستوى رابع يتعلّق بالأمكنة المناقضة للمخيّم من أطر تخضع لسلطة العدو، أو التي تقع ضمن المدى القريب من حدود المخيّم أو ضمن مداه البعيد. ليكون المستوى الأخير هو الذي حمل أطراً مكانيّة تعزّز جوانب الانتماء وتهدي إلى سبيل النّضال.
وبناءً على هذه الدّراسة، نلاحظ أنّ الرّواية تسير في خطٍّ تصاعديٍّ يوصل إلى إعادة شخصيّة نجوى لموقعها الطّبيعيّ المتمثّل في العمل من أجل العودة، وهو ما ارتبط برمزيّة العنوان الذي شكّل إيحاءً بأنّ نجوى قد عادت للالتزام بقضيّتها الأولى وبنضالها في سبيل حلّ المشاكل التي تصيبها ليس بوصفها فرداً، بل بوصفها امرأةً فلسطينيّةً، لذلك كان انخراطها الإراديّ في المراحل الأخيرة من الرّواية بنشاط جمعيّة "خيبة بن غوريون"  والتي تشكّل هي بحدّ ذاتها دليلاً على نجاح خططها، وهي الخطط التي ستؤدّي، من خلال استباق الرّاوية دارين، إلى الزّحف نحو الحدود الفلسطينّية بمناسبة ذكرى النّكبة في حدثٍ شهدناه جميعاً وتفاعلنا معه على أرض الواقع، بما يشكّل مماهاةً مبتكرةً بين الفضاء الرّوائيّ والفضاء الواقعيّ، لتُختتم الرواية بوصفٍ لشرارة تلك الثّورة: "إنّها ثورة المفاتيح. المفاتيح رمزٌ لحقّ الملكيّة لا يسقط بالتّقادم. والأوراق والسّندات والحجج هنا لتثبت حقّ العودة إلى البيوت والأراضي" .
وهنا إشارة إلى أنّ العناصر الأخرى شكّلت أبعاداً دلاليّةً لا تقلّ أهميّة ً عن الجانب المكانيّ، لأنّ الزّمن كان عمل على نحوٍ غنيٍّ في هذا السّياق، كما أنّ استغلال التقنيات الحديثة في التّواصل أدّى دوراً أساسيّاً في إبراز الصّراع بين نظرتين متناقضتين على مدى الرّواية، غير أنّ المجال هنا لن يتّسع لتفصيل القول فيها، وإن كنتُ أشعر بالرّغبة القويّة للإقدام على هذا الأمر.
يبقى أنّنا نحتاج على الدّوام للبقاء في مدار المسألة الفلسطينيّة، على المستوى الثّقافيّ - الأدبيّ، لأنّ الأدب لم يعد مجرّد شكلٍ من أشكال التّرف الفكريّ ولا وجهاً من وجوه التّعبير، بل فعلاً مقاوماً بحدّ ذاته يشارك في تحرير الإنسان وبالتّالي في تحرير الأرض، انسجاماً مع مقولة سارتر الشّهيرة: "ليس من المهم أن يعبر الأديب عما يريد، بالأسلوب الذي يـبتغيه، لكنّ الأوجب أن يكتب لجمهور تقوده الحريّة إلى التغيير الشامل نحو الأفضل" .



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net