Tahawolat
  هل يمكن إستعادة وحدة سوريا الطبيعية التي فرط بها الشريف حسين؟

لا زالت البلدان العربية غير قادرة على إنتاج سياساتها القومية لوقوعها تحت تأثير تدخّل القوى الخارجية ـ الاستعمارية في شؤونها الداخلية الى درجة تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والتحكُّم بمواردها الى حَدّ الاستباحة. قد يكون رسم صورة بيانية لتعثر العرب التاريخي وإخفاقهم في إنجاز دولتهم السياسية، لا يهدُف الى التعتيم على بعض المحطات المُشرقة التي تبلورت في محاولاتهم إنجاز وحدتهم، خاصة في عشرينيات القرن الماضي، والتي تبددت لعدم احترافية قياداتها وقصورها عن التعامل مع المشاريع الخطيرة التي تلازمت مع نتائج الحرب العالمية الاولى، وربما الإجابة على التساؤلات الناجمة عن فشل الشريف حسين في إقناع جمال باشا السفاح الذي كان من أكثر المتحمسين لإنفاذ سياسات جمعية الاتحاد والترّقي القائمة على ضرب القوميات، بخاصة العربية منها، بأن يُقنعه بأهمية أن تقاتل القبائل والجيوش العربية الى جانب تركيا مُقابل استقلالها ووحدتها، هل كان هذا الإخفاق بسبب عدم الخبرة والحنكة السياسية عند الشريف حسين وابنه الملك فيصل، أم بسبب عدم نضوج فكرة الوحدة عند قيادات عربية عديدة مثل نوري السعيد وصديقه لورانس وسعدالله الجابري ـ حزب الكتلة الوطنية وسواهم؟ وهل النتائج كانت تبدلت لو أنجز الشريف حسين تفاهماً تكتيكياً مع الاتراك؟ هل كان لإمارة مكة أن يتوارثها أبناء الشريف حسين واحفاده، مُسقطاً بذلك مفاعيل اتفاقية سايكس بيكو ومُلغياً القيمة السياسية لوعد بلفور بعدم تبنيها عربياً؟ وهل كان سيُكتب لفلسطين أن تبقى دولة عربية مُستقلة، وهل كان استطاع الغرب أن يسلخ لواء الاسكندرون لمصلحة تركيا؟ في هذا السياق يقول الجنرال ويلسون انه وصل الى حد القرف حين كان حاضراً في الاجتماع الذي دار بين سايكس وبيكو مع الشريف حسين وابنه فيصل، من الكذب والخداع الذي مورِس بحق هذا الكهل ـ الشريف حسين.
في الاستنتاج، نجد بشكل جلي غياب مفهوم الدولة القادرة في المفهوم العربي، وشعور واضح بالنقص في إرادة الوجود المُستقلّ الذي يتمظهر بالحاجة الدائمة الى الآخرين لتكوين ذاتهم وأنظمتهم ودولهم وسياساتهم المُرتبطة كُلّية بمصالح الغرب وخاضعة لإرادته، وهكذا مرّر الاستعمار القديم فرنسا ـ بريطانيا، الخديعة الكُبرى التي كانت ضحيتها الوحدة العربية، التي نتجَ عنها خسارة فلسطين والإسكندرون واستمرار وقوع الأمة تحت نير الاستعمار، مُقسمة الى دويلات مُتناقضة رسمت حدودها اتفاقية سايكس ـ بيكو التي هي على مشارف مئويتها الاولى من دون أن يستطيع أحد إحداث أي تغيير في مفاعيله، وبقيت المنطقة راضخة لهذه الحقيقة الى أن طرأت مُتغيرات دولية أتاحت تحريك المُستنقع بما يتماهى مع تبدل مصالحها.
مُتغيرات دولية
شكّل دخول الولايات المُتحِدة الاميركية، كعامل استعماري ناشئ في الحراك الدولي، واقعاً عربياً جديداً بسبب تبدُّل موازين القوى الجديدة التي أرستها نتائج الحرب العالمية الثانية، حيث أدّى دخول النفوذ الاميركي الى الشرق الاوسط العام 1945 الى انكفاء الاستعمار القديم وبالتالي بات على العرب بحكم الواقع أن يتفاعلوا مع الاستعمار الجديد وخريطة مصالحة الواسعة في المنطقة بمزيدٍ من التنازلات والتقديمات لاسترضاء الفاتح الاميركي من دون أن يُدركوا مروحة مشاريعه التي تستهدف الهيمنة على مُقدرات العالم وبسط نفوذه كقوة عالمية أحادية القطبية، ولم يقرأوا تدخّله المباشر في حرب تشرين العام 1973 إلا بضرورة تقديم التنازلات له حفاظاً على أنظمتهم، وقد شكّلت هذه الحرب بداية افتراق سوريا واختلافها عن العرب في قراءة الواقع، حيث كان حافظ الأسد يخوض الحرب على أنها حرب تحرير بينما كان أنور السادات يعتبرها حرب تحريك تُمهّد لمصالحة مع اسرائيل ولم تكن اتفاقية كامب دايفيد سوى شاهد على نمط الفكر العربي الذي أنتج ما هو أخطر من كامب دايفيد، حيث تنازل عن فلسطين ورضخ للضغوط الاميركية ومسارها في توظيف السياسات العربية لمواجهة إيران وروسيا والصعود الصيني، كما حرصت أميركا كي تتمكن من إنفاذ مشاريعها الكبيرة في الغاز والطاقة الحيوية واستكمال نفوذها بإزاحة القوة الروسية الصاعدة، وهذا كان يتطلب تدمير دول سوريا الطبيعية التي يُمكن أن يتكئ عليها بوتين لاستكمال قوته التي تخشى أميركا منها لكونها تقطع عليها طريق الغاز، فعمِلت على إقناع الخليج العربي ان دول المشرق العربي بطبيعتها هي العائق أمام تقدمه وازدهاره وأنها العدو الكبير الذي تجب إزاحته من طريق صعودها الى العالمية، زرعت أميركا هذا الوهم الذي شكّل حقيقة في عقول الخليجيين في الوقت الذي كانت الخارجية الاميركية تطرح نظرية الشرق الاوسط الجديد وفلسفته التي تقوم على الفوضى الخلاّقة، ولكون "أهل مكّة أدرى بشعابها"، اندفع الخليج المتأثر بالعقل الاميركي المُبدع في استعمال العرب لتدمير العرب، بالعمل على إسقاط سوريا وتدمير موقعها القومي والاجتماعي وتفكيكها لتبديل عقيدتها وأدائها، وإعادة خلط الأوراق في العراق ومحاولة تقويض الاردن واستقدام القوى المُتشددة الى المنطقة وتمويلها بما فيها لبنان، تمهيداً لقيام مشروع الإمارة الإسلامية الكفيلة بتفتيت المنطقة الى دويلات طائفية ومذهبية متناحرة، وضرب قوى المقاومة لرفع التهديد عن إسرائيل وقطع طريق التمدد الروسي.
في الخلاصة، يتبدى أن العرب لم يتجاوزوا مستوى الانفعال ولم يتمكنوا رغم التجارب الطويلة من إيجاد أرضية مؤسساتية تنقلهم من البداوة والتبعية إلى الفعل، فاقتصرت سياساتهم على تقويض قواهم باقتتالهم الداخلي إرضاء للخارج، وبحكم الطبيعة فإن الشعوب عندما تفقد قضيتها تفقد معنى وجودها وتخرج كأنظمة وشعوب عن مسار التقدم التاريخي، وهذا ما يجعل المأزق العربي أشدّ خطورة وتعقيداً لفقدانه العناصر الحيوية التي تؤهل وتُمهّد لحضوره في مستقبل الحضارة الإنسانية.

الربيع العربي

في هذا السياق جاء الربيع العربي كخطوة تمهيدية لإنجاز المشروع الاميركي الكبير القائم على منصتي إطلاق، الأولى وهي الأهم والأخطر، لكونها تفتح اتفاقية سايكس بيكو على جغرافيا سياسية جديدة تعتمد قيام الدول المذهبية والطائفية، والمنصة الثانية هي مُساعِدة ومُمَهِدة لمشروع الشرق الاوسط الجديد الذي يحمل في طياته آلية سايكس بيكو جديدة تنتظم فيه المنطقة على الإيقاع الاميركي، ولتحقيق ذلك كان لا بد من خديعة كبيرة تضمن أن يكون الشعب العربي بطلها ووقودها في آن.
وقد ساهم انبهار النُخب الفكرية والثقافية والسياسية بالحراك العربي في تأمين الغطاء له لينفذ الى تغيير الواقع العربي الذي كان مُمعناً بالركود والسكينة من دون الانتباه الى الاتجاهات الحقيقية التي كان مُخططاً أن يصلها، وكانت أية قراءة مُبكرة لخطورة هذا الحراك وتعقيده تُعتبر هرطقة، أجمعت الدراسات كافة التي عملت عليها مراكز البحوث الاوروبية والاميركية والروسية على أن سوريا كانت الهدف الاساس وما سبقها من أحداث في تونس ومصر وليبيا إنما كان توطئة لخلق مناخات لتنفيذ الانقضاض على سوريا من خلال بيئة عربية حاضنة ومُستقطبة بشعارات الحرية والديمقراطية والعدالة والتي تكاد تكون الشعارات عينها التي استُعمِلت في خديعة الشريف حسين في عشرينيات القرن الماضي، الفارق الوحيد كان الثبات السوري في التصدي للمشروع، وتحولت سوريا من دولة كان مُفترضاً تفككها وانهيارها أسوة بليبيا ومصر وتونس، إلى عقدة مُستعصية حالت حتى الآن من استكمال المُخطط الاميركي، إضافة الى كلفة معنوية أصابت مصداقية الدول التي راهنت على سقوطها في الجولة الاولى بالضربة القاضية، حيث ظهرت المُفاجأة بمناعة الجيش السوري والديبلوماسية السورية وأكثرية الشعب السوري المؤيدة، تُضاف إليها عوامل بالغة الحساسية والمُتمثلة بتحالفات سوريا الإستراتيجية، أما الكلفة المادية التي أرهقت الممولين والداعمين وتبين أن كل هذا الجهد كان استثماراً خاسراً، جعل الازمة السورية تتمدد لتصبح أزمة إقليمية ودولية يترتب جرّائها نظام عالمي جديد سيتكون تبعاً لنتائج الصراع الدائر في سوريا.
في الخلاصة، يقع المشرق العربي الآن على فالق زلازل اتفاقية سايكس بيكو، التي قرر الغرب تجاوزها، لإرساء واقع جديد يخدم مصالحه بشكل أفضل، ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الوقائع الجديدة تفرضها وتحددها موازين القوى المتصارعة، فإذا كانت المنطقة على شفير تحول جذري، فإما أن نعود الى المرحلة التي كانت سائدة قبل اتفاقية سايكس بيكو، أو ستخضع الى واقع التقسيم الجديد على قاعدة الطوائف والمذاهب، أم أن واقعاً جديداً مُغايراً سينشأ، وهذا مرهون بقدرة بشار الاسد في أن ينجح حيث فشل الشريف حسين ويحقق وحدة المشرق العربي بحنكته السياسية وقدرته على الاستفادة من تحالفاته الاستراتيجية ليُنجز وحدة سوريا الطبيعية في مواجهة مشروع إسرائيل الكبرى.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net