Tahawolat
أسئلة كثيرة تطرح اليوم حول طبيعة وجوهر السياسة الروسية في العالم بشكل عام، وفي منطقة المشرق العربي بشكل خاص، وكيف يتم النظر الى هذه السياسة ودورها في صياغة السياسة الدولية، وفي ترجمتها العملية لواقع توازنات القوى الدولية على مستوى العالم.
قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، كان العالم كله خاضعاً لتوازن استراتيجي سياسي – أمني – اقتصادي، وقد شكل هذا التوازن المظلة التي حصلت تحت سقوفها الصراعات المتنقلة حول العالم أو ما عرف في حينه "الحرب الباردة" .
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي حصل انكفاء واقعي وملحوظ للسياسة الروسية حول العالم، وانشغلت السياسة الروسية في الداخل الروسي في ظل تحديات اقتصادية – اجتماعية حقيقية وجدية أرخت بظلها على كل الواقع الروسي، وشهد العالم كله في مرحلة التسعينيات وفي العقد الأول من هذا القرن شبه غياب للتوازن في الساحة العالمية، تبدى في الأحادية المطلقة التي جعلت من واشنطن والولايات المتحدة الأميركية والمحور المرتبط بها، القوة الأساسية العالمية التي اعتمدت "ديكتاتورية مطلقة" في مقاربة الأزمات والمشكلات الدولية"، وتم عملياً اعتماد "حق القوة" أسلوباً ومنهجاً في حكم العالم، وفرض الشروط واملاء السلوكيات في السياسة والاقتصاد والأمن وممارسة الضغوط على دول وحكومات، وأمم وشعوب، وتم انتهاك صارخ لكل القانون الدولي ول "الأمم المتحدة" وخاضت الولايات المتحدة حروباً لا تستند الى أي حق أو قانون أو شرع دولي وانساني...
فكانت الحرب على أفغانستان، ومن ثم الحرب على العراق، وكذلك الحرب على يوغوسلافيا، التي جسدت رغبة عارمة لدى الولايات المتحدة الأميركية للولوج الى الشرق الأوروبي وفرض معادلات جديدة في الصراع، مستفيدةً من حال الانكفاء الروسي وحالة "انعدام الوزن" التي عاشتها روسيا في حقبة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي صدعت بنية الدولة الروسية وأصابتها آنذاك بأعطاب بنيوية أدت الى تقهقر وتراجع الدور الروسي الخارجي على كل المستويات.
ولكن، وبالرغم من تراجع الدور الروسي الاجمالي، الا أن روسيا حافظت على أدوار نسبية متواضعة في فترة التحولات، فهي كانت الى جانب الولايات المتحدة الأميركية راعية "للتسوية" (بين هلالين :التسوية العربية – الاسرائيلية) في مدريد، الا أن روسيا وبحكم أوضاعها الداخلية لم تكن طرفاً راعياً قوياً، ولم تعر النزاع "الشرق أوسطي" – حسب التسميات المعتمدة دولياً - أي الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب الاهتمام اللازم، وكانت كل سياسات روسيا آنذاك موجهة الى الغرب عملياً، كما كانت رعايتها للتسوية المذكورة أشبه بمحاولة للحفاظ على ماء الوجه، وعلى مكانتها على الساحة الدولية كدولة متنفذة.
ولكن، بعد العام 2000 تحديداً، بدأ هذا الوضع يتغير، وبعد تجاوز روسيا – الدولة للمآزق الداخلية، واستيعابها للأزمات الاقتصادية – الاجتماعية التي واكبت مرحلة السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي، استعادت روسيا زمام المبادرة وانتقلت الى طور استعادة الفعل السياسي في الاقليم المحيط بروسيا، أي في الجمهوريات الشرق أوروبية التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي، وحاولت بثبات ترميم علاقاتها واستعادة تأثيرها في المدى الحيوي الشرق أوروبي الأوسع، الذي كان يخضع للتأثير المباشر لروسيا من خلال ما كان يسمى آنذاك "دولة المنظومة الاشتراكية"، وكذلك تمكنت روسيا من اعادة بسط نفوذ نسبي وبحجم معقول في المدى الآسيوي وتحديداً  الدول الآسيوية التي كانت أيضاً جزءاً لا يتجزأ من الدولة السوفياتية من أرمينيا الى جورجيا وأسيتيا وكازاخستان وتركمانستان وغيرها من "جمهوريات الاتحاد" السابقة.
وبعد العام 2003، بدأت روسيا تعزز مواقعها في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، ففي العام 2006 زار الرئيس الروسي  المغرب والجزائر، وكانت زيارة الجزائر على مستوى عال من الأهمية لا لتطوير العلاقات الثنائية وحسب بل وكان لها صدى قوي على المستوى العالمي نظراً لأن حصة البلدين تصل الى ما يقارب 40 % من مجمل الاستيراد الأوروبي من الغاز، وقد قررتا بنتيجة هذه الزيارة طبعاً، الجزائر وروسيا "التعاون في مجال تصريف الغاز الطبيعي في البلدان الأخرى". وقد وقعت بالفعل آنذاك الشركة الروسية غاز بروم اتفاقية تفاهم مع الشركة الجزائرية "سوناطراك" المنافس الأساسي لها في أوروبا.
وكذلك، فتحت الديبلوماسية الروسية في التسعينيات وبداية العقد الأول من القرن الحالي قنوات سياسية واقتصادية مع العديد من دول الخليج العربي من المملكة العربية السعودية الى الكويت والامارات العربية وغيرها من هذه الدول، ونشأت بالفعل بين روسيا وهذه الدول علاقات اقتصادية وتجارية نسبية أسست لتعاون مستقبلي مرهون – بطبيعة الحال- بتقدم الدور والنفوذ الروسي في المنطقة.
من نافل القول، أن الدور الروسي في هذه المنطقة من العالم يتعاظم، وتبدى هذا التنامي للدور الروسي من خلال محاولاتها القيام بدور الوسيط في الشرق الأوسط، وقد أحدثت هذه الرغبة الروسية بتقوية نفوذها في المنطقة صدمة للغرب، وكلنا يتذكر ردة الفعل الغربية في العام 2006 عندما وجهت روسيا بشخص رئيس وزرائها آنذاك بوتين دعوة رسمية لقادة حركة المقاومة الاسلامية "حماس" لزيارة موسكو.
وعلى خط مواز، شاركت روسيا وبفعالية في السابق في صياغة العديد من قرارات مجلس الأمن بما فيها بشأن العراق، وكذلك من خلال عضويتها ما يسمى "اللجنة الرباعية" جنباً الى جنب مع الاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، وقد لاقت المقترحات الروسية الكثير من العناية والاهتمام، وكان الشيئ الرئيسي آنذاك "الحلول الوسط" التي ترجمت مراعاة الجهات الدولية المعنية الموقف الروسي من العديد من المسائل التي تم طرحها آنذاك.

العلاقة الروسية – السورية: الآفاق المستقبلية
بموازاة فتح الخطوط السياسية والاقتصادية مع دول مشرقية كانت محظورة على روسيا أبان الحكم السوفياتي سعت روسيا للحفاظ على العلاقات التقليدية ذات الطابع الاستراتيجي مع دول مشرقية مثل سوريا، بالنظر الى عمق وأهمية المصالح الاستراتيجية المشتركة، والتي يدرك الروس أهمية تعزيزها وتطويرها وحمايتها، وهذا ما سنحاول مقاربته لفهم طبيعة النظرة الروسية الى سوريا خاصةًُ في الظروف الراهنة التي تشهد فيها سوريا أزمة سياسية بنيوية تهدد الدولة بالانحلال والتلاشي والسقوط مع ما يعنيه مثل هذا الأمر من تداعيات ونتائج مباشرة على الدور والمكانة وحجم النفوذ الروسي المستقبلي في هذه المنطقة.
بالطبع، العلاقة الروسية – السورية والنظرة الروسية الى الواقع السوري نظرة بعيدة عن الرومانسيات والعواطف وتحكمها كما في كل العلاقات الدولية اعتبارات المصالح الجيو- سياسية والاقتصادية ذات الطابع الاستراتيجي، وهذا بالضبط ما يفسر الموقف الروسي من الأزمة السورية، واختلاف الموقف الروسي الجذري مع الموقف الغربي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب الأوروبي بعد أن تم خذل روسيا وتنامي محاولات تهميشها في المغرب العربي بعد سقوط النظام في ليبيا، والضربات الحيوية للمصالح الاقتصادية الروسية التي لحقت بروسيا فيها، بسبب تجاهل الغرب وأميركا لهذه المصالح الحيوية في تلك المنطقة من العالم.
بلا شك، ان سوريا كدولة ليست غنية أو مصدرأ أساسياً من مصادر انتاج الطاقة العالمية، ولكن، الموقع الجيو- سياسي للدولة السورية وحجم تأثيرها على المنطقة بأسرها، وحجم التبادلات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وسوريا، اضافة الى غيرها من العوامل والمصالح السياسية – الاستراتيجية المشتركة شكلت قاعدة صلبة للنظرة الروسية العميقة الى أهمية الحفاظ على المكانة والمستوى العالي من التنسيق ذي الطابع الاستراتيجي بين روسيا وسوريا، وبالرغم من مرحلة الفتور في العلاقة بين الدولتين أبان التحولات في روسيا، الا أن قادة الدولتين سلكوا من جديد منذ سنوات طريق زيادة التعاون المتمثل في التوقيع على معاهدات واتفاقيات اقتصادية ومذكرات تفاهم تشمل العديد من الاستثمارات الاقتصادية المشتركة، وكذلك تفعيل معاهدة الدفاع المشترك السابقة.
لذا يمكن وتأسيساً على ما تقدم فهم  الموقف الروسي من النزاع الداخلي السوري بتقاطعاته الاقليمية والدولية، ويمكن معه استيعاب هذا الاختلاف الجوهري في الرؤية الروسية عن رؤية الغرب المنغمس في المستنقع السوري أيضاً لاعتبارات مختلفة ومتعددة لا مجال لذكرها الآن، وتصلح لأن تكون مادة لبحث سياسي – اقتصادي – استراتيجي مستقل من وجهة نظر الغرب والولايات المتحدة الأميركية، كما أن الموقف من الصراع مع الكيان الصهيوني يلقي بظلاله أيضاً على الحدث السوري بتفاصيله وتفرعاته واتجاهات تطوره الانية والمستقبلية.
بسبب كل هذه العوامل، يمكن القول أن هناك بعداً استراتيجياً في مقاربة روسيا للواقع السوري وعلاقتها به.
بالطبع، ان تعقيدات الأزمة السورية وتشعباتها ترخي أيضاً بظلالها على الرؤية الروسية لآفاق المرحلة القادمة، ولكن، روسيا تدركأن سوريا –بالنسبة لها- تمثل منطقة نفوذومصالح حيوية لا يمكن التساهل معها، وهي أخر موطئ قدم بالمعنى السياسي – الاستراتيجي لها في هذه المنطقة الحساسة والتي تعتبر امتداداً للجغرافيا السياسية الروسية.
وقد شكل التعاطي الروسي مع مجريات الأزمة السورية المتجسد بآليات العمل الديبلوماسي الروسي نقلة نوعية فرضت على المجتمع الدولي والاقليمي أخذ المواقف والمصالح الروسية في الحسبان خلال صياغة القرارات الدولية المتعلقة بسوريا، الأمر الذي يدفع للقول بأن الأزمة السورية شكلت البوابة الأوسع للسياسة الروسية التي تحاول من خلالها اعادة بناء منظومة العلاقات الدولية، ونحو تثبيت وتعزيز النفوذ الروسي في العالم العربي وفي البحث عن تسويات للنزاعات في مناطق أخرى من هذا العالم.
في ظل هذا التطور في الموقف الروسي المعبر عنه في السياسة الخارجية الروسية، تصبح مشروعة التساؤلات حول العلاقة المستقبلية لروسيا مع العديد من الدول العربية التي شهدت تغيرات جذرية ذهبت معها أنظمة حكم كانت تقيم علاقات طيبة مع روسيا، خاصةً في ظل الخلاف الجدي بين موسكو وعواصم عربية  -الخليج خاصةً- بسبب الموقف الروسي من الأزمة السورية، اضافة الى العلاقات الروسية – الايرانية وتأثيرها على علاقات موسكو مع دول عربية تخاصم ايران وتحكمها علاقة متوترة معها.
والاجابة عن هذه التساؤلات  أتت على لسان فلاديمير بوتين نفسه عندما قدم عرضاً حول عمل الحكومة الروسية لعام 2011 أمام مجلس النواب الروسي (الدوما) حيث قال:" ليس من الصواب القول بأننا خسرنا شيئاً ما هناك " نتيجة التغيرات الجارية في المنطقة العربية" وان روسيا تقيم علاقات تعاون قاعدتها مصالح روسيا الاستراتيجية والدفاع عنها".
أما الدوافع التي تكمن وراء الموقف الروسي من الأزمة السورية فتحكمه جملة من الاعتبارات لعل أهمها:
1-  الموقع الجغرافي السوري على شاطئ البحر الأبيض المتوسط باعتباره قاعدة تواصل تجاري واقتصادي مفصلي بين الشرق والغرب.
2-  الأهمية الجيو – سياسية للدور السوري في المنطقة بأسرها، والذي يعطي رصيداً عالياً للنفوذ الروسي فيها.
3-  حجم التبادلات التجارية الاقتصادية بين سوريا وروسيا الذي يصل الى مليارات الدولارات الأميركية ولا سيما فيما يتعلق منها بصفقات السلاح الروسي.
4-  الاستثمارات الروسية في البنى التحتية السورية التي تصل أيضاً وبالأرقام الى مليارات الدولارات.
5-  الموقع العسكري الاستراتيجي السوري واعتباره من وجهة النظر الروسية قاعدةً عسكريةً متقدمة للنفوذ العسكري الروسي في المنطقة، وأهميته على المستوى العالمي.
6-  خشية روسيا من تنامي المد الاسلامي الأصولي (بين هلالين) الذي يشكل تهديداً مستمراً للأمن القومي الروسي بسبب الخوف من تواصله مع العمق الروسي في الجمهوريات الاسلامية الملاصقة للجغرافيا الروسية، وهذا الاعتبار أساسي ومفصلي في المقاربة الروسية للتحديات.
ولعل تطور الأحداث المستقبلية سيعطي مؤشراً قوياً حول آفاق الدور الروسي واتجاهات تطوره...


آراء القراء

1
28 - 1 - 2013
That's cleared my tohguhts. Thanks for contributing.

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net