Tahawolat
امرأة ورجل، فتاة وشاب، شبه عُراة، جثّة وجثّة رفيق، كائنان ليس الا. الكلمات تصف وبعدل مشهد علي شحرور واميلي توماس (فرنسية مقيمة في بيروت) في بداية عملهم الراقص "دنس - موت صغير". مع الدخول الى الاستوديو يُطالعك جسدان خلا من الملامح والتعبير. يستمر المشهد لدقائق تليها روايات الحركة المستمرة الى النهاية بلا توقّف او تكرار للبداية. اميلي تنهار، ينتشلها علي. ينهار المخلّص، تنقذه اميلي. ومن بعدُ يسقط الفريق المكوّن من اثنين. على الارض، الى الارض، وفوق بعضهم البعض. غضب الى اليسار هلع الى اليمين غرام على الخصر والكتفين. يرقصون تارة كطيور جلال الدين الرومي وتارة كأسماك الف ليلة وليلة. فرح وغبطة وشجن ونحيب وتأمل وارتقاب. انّها نشوة الانعتاق في البعيد عن اليوم والامس وعن كل مُهيب يتجنّب الراقص مقاربته خارج اللحظة المسرحيّة. لا بدّ من متابعة الحركة على خلفيّة المنطق الحزين والاعتراف الصريح بانّ الجسد بكلّيته هو اداة التعبير الاولى عن العقل واعماله. ولانّه كيان لا يقوم بذاته بل بانصياعه لكيمياء الدماغ والعاطفة فهو صادق لا يقوى على الكذب والنفاق. فالبشاعات والاشراقات بغالبها من صنع  المعرفة والذاكرة في الذات وعند الآخرين على الارض وفي السماء. فهناك موت وحياة وشريك للغرام وغريم للحرب والخصام. ثمّة من يتلقّف الشريك عند الخصر وقبل السقوط ومن يرفعه بعيداً عن الهاوية. اسمه علي او اميلي واسمه قاطن في السماء.
الرقص واجب ونتيجة. لو كان الهدف من "دنس - موت صغير" اثبات تنوّع مناخات الجسد نتيجة التمكّن من تقنيّات الرقص المعاصر فانّ الغاية تحقّقت وبنجاح باهر. الحال اكثر جدليّة، وتقدير اميلي وشحرور يستدعي بعداً وعمقاً جديدان لجهة الرؤية التي تمتّع بها الفريق ولجهة تشكيل الموضوع والارتقاء به الى الجسد الصادق والمنكشف امام عين المراقب البسيط قبل المثقّف والعارف. في الرقص المعاصر مغامرة لن تكون آمنة فالتعرّف على اتقان الرقص امر بمتناول الجميع ولا مأوى للمغامر هنا في نصّ شفاهي يتيح له القول بانّ الجمهور عجز عن الفهم لافتقاره الثقافة المطلوبة. ولا مأوى في ملابس واضاءة معقّدة وديكور بحيث يُعجب المُشاهد بواحدة منها حين يفقد الاهتمام بالرقص وهو الاجمل من تلك الباقات ومفاتنها وهو بالطبع اكثر تعقيداً واعجازاً منها. المطلوب ملاحظة الصلابة دون الوقوف عند بيولوجيا العضلات والمفاصل والشهوة دون الارتكان الى الاغراء والفرح، ودون البحث عن الابتسامة والعيون البرّاقة.
اميلي وفي شكل لافت وساحر صمّمت اللعبة الفريدة وهي في تقديم مجموع الغيابات لتحقيق حاضر مُنجز وتام. المخرج علي شحرور بعد نجاحه اولاً في اختيار الشريك استطاع تكرار الشيء عينه حين قارب وتناغم واستوعب هذا التحدّي في انجاز اميلي الماثل بوضوح من الدقيقة رقم واحد وحتّى النهاية. من غادر الاستوديو سوف يتذكّر ولزمن طويل كيف يتكلّم الجسد لغات العاطفة كلّها دون عجز امام احساس مُلتبس او عاطفة مُتضايقة ومتضاربة من نوع العشق والكراهية بوجه شخص واحد وتحصيل الشريك والمنافس في الشخص عينه. وكيف يتعامل الجسد مع الافكار المقلقة كالموت والفناء والعدم. جسد بلا لغة صوتية وبلا زخرفة هندامية يتطرّق وباقدام فريد لمجرّداتٍ عدّة ليس اكبرها الموت.
مع اغنية واحدة بالكاد دامت دقيقتين وارض ملساء تناثرت على طرفها عدد من الاسماك ماتت قبل يومين من العرض وبساط من النايلون الشفاف، تحرّك الجسدان لرواية نصّ هو في صلب اهتماماتنا جميعاً. ودائماً ضمن انفكاك تام عن الاشارات الحسّية الصاخبة لغياب الكلام والاشارات المُباشرة كالضحك او الاندهاش او الامتعاض او الى ما هنالك من رسائل متداولة نختبرها خارج الاستوديو وداخل يوميّات الناس في كل مكان وزمان. تحرّكا فوق مسافات كافية لتغطية المسرح طولاً وعرضاً وبايقاع جاء من الداخل وتواصل سريعاً مع المشاهد كما بدا ذلك واضحاً مع وقوف المشاهدين في الصف الخلفي داخل الاستوديو بُغية القبض على ادقّ التفاصيل الحركية وعلى تحصيل المزيد من المتعة البصرية والفكرية في آن واحد. ليونة، انسجام، التزام، وانضباط. علامات فارقة في جسدين كانا لمرّة جسداً واحداً، وكانا ضحية وجلاد وطفل وام وعاشق وحبيبة وخائف وخائفة ومتأمل ومتأملة وادوار اخرى فاتتنا او تلهّينا عنها لكثافة المادّة المقدّمة من قبل اميلي وعلي. محاكاة وجدانية وروحانية وفكرية طالت ما يزيد عن ساعة من الزمن اصبحت الآن موضع احكام المهتمّين بفنون الرقص المعاصر. وبالطبع هي اضافة لطيفة ومميّزة لفنون المسرح اولاً وفنون الرقص ثانياً. هذة السمة المسرحية للعمل هي امتياز استحقّه الفريق تِبعاً لوجود النفس المسرحي طوال دقائق العمل وفي النهاية الرائعة التي جاءت على صورة لملمة المشهد والزمن بعد طيّ علي على الارض وكأنّه جريدة قُرأت. اميلي تسحب بخصرها سجادة النايلون الشفاف لتنسحب معه الى العدم حيث تلتقي او لا تلتقي بعلي الذي وضّبته للتو (ليسافر هامداً عديم الحياة بعيداً) وبعناية فائقة تجاوزت كل الاحاسيس التي صوّبتها اليه من قبل.
"دنس - موت صغير" عمل لافت ابرز قدرة اميلي توماس وعلي شحرور على اتقان الكيروغرافي واتقان الاداء فيما بعد واظهر تمكّن علي شحرور من الاختيار السليم للشريك في العمل اولاً ومن تحقيق الاخراج المناسب ثانياً. وفي الخلاصات ايضاً يداوم "مقامات" للرقص المعاصر (بيروت - شارع الحمراء) وبادارة عمر راجح وفريقه على استعادة البريق في عيون المتعطشين للاعمال الجادّة وعلى مراكمة رصيد الثقافة والفنون في لبنان.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net