نلتفت لهذا العمل نظراً لاقتراب ذكرى وفاة الشاعر أُنسي الحاج. نعود إليه كأولّ نصّ بصري للشاعر قدّمه المسرحي رضوان حمزة الذي يحاكيكَ بالبداهة التي لا يناقش فيها. الهادئ العميق البعيد الأفق، الصّامت حين لا داعٍ للكلام. الصادق في كينونته، البسيط لحدّ إجلالنا له – قدّمه - بعمل مسرحي متميّز، عملٌ يبقى حديثاً بمواضيعه وموضوعاته، وإن حدث الإلتفات لأنسي الحاج من خلال هذا العمل فهو التفاتٌ أيضاً للمرأة، للطبقات الأنثوية في النصّ، وهو إن جسّد هذا العمل الكلمة؛ فلقد جسّد أنثوية الكلمة والجسد الأنثوي على المسرح بإبداع.
- الكلمةُ ريعان الحياة، ومن مثلُ أنسي الحاج لا تموت كلمتُهم. ونحن عندما نقرأ، نفعل هذا لنعرفه أكثرَ رغم كلّ شيء. فكيف بنا ونحن نراه.. نرى كلماته حقيقةً متجسّدةً على موطئ قدم العبارة صورة. تتلوّن الصورة بشراهةٍ للحياة. تصمدُ أمام عجزِ الآن لتقولَ ذاتها في كلماتِه مشهداً بحجم السّحر وبِروعة الأسطورة الملحمة.
- للوفاء ألوان شتّى. ولم أرَ فيما رأيته في رسولة أُنسي الحاج متجسّدةً على خشبةِ المسرحِ صوتاً وضوءاً وصورة، بل وحياة صنعها لنا القدير رضوان حمزة – لم أرَ – إلا وفاءً من نَفَسٍ خاص.
- لعلّ من أجمل ما في الحياة هو العين التي تقرأ. ولعلّ أجمل ما في العين التي ترى الكلمة صورة هو أن تنقلها حركةً بشغف. شاهدنا الرّسولة بشعرها الطويل فما برِحتْ أعيننا عن خشبة المسرح. إبداعٌ قاله جسدُ الكلمة وأطّرته آفاقٌ مفتوحةٌ على المشهد. قرأ الأستاذ رضوان حمزة بطريقته الخاصة. بل قرأ بعين عقله ضرورة كينونة الكلمة.
شاهدنا المسرحية بتتاليها وتدّرجاتها، بهيكليّة الحضور الوجودي فيها بطريقةٍ شاعرية فذّة ومشهديّة أدركت عمق الميثيولوجيا فاستحضرتها باللون والموسيقا والحركة.
- تفاعلَ النصّ على المسرح بشخوصه، جاءتْ عمليّة التفاعل مرصودةً بالضوء بتجانسٍ في مواضعَ وتضارب في مواضع أخرى، وكان هذا واضحاً عند الأبيض مع تعتيم المسرح تقديماً للأنا النقي. أنا الحب البدئي. إيحائية مترافقة مع الموسيقا. ولقد نجحَ عندها الأستاذ حمزة بتقديم النص كشخصية طاغية رصَدَتْ تاريخاً هو القصة الأولى من التكوين مع الموسيقا كإيقاع لها. تجوّل النص على المسرح بتداعيات قراءة العين للكلمة بنفَسَها الميثيولوجي. ومن المُلفت أيضاً توافق الصوت مع حركية الكلمة كمشهد، واستخدام الإيقاع للإنتقال من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أُخرى كتحضير لتدرجّات العمل، بل وأكثر من هذا قام المخرج بالتركيز على إيقاع الجسد وإيحاءاته بأبعاد ثلاثية تصعيدية منذ البدء حتى وصول الرسالة.
حَضَرَ الجسد الأنثوي بقوّة ليحكي نزاعَه للتحرر، وهذه مقدرة نجح فيها المخرج كما نجحت فيها الشخصية لتعطينا حالة أكبر بكثير من أداءٍ على الخشبة، بل حالة حقيقية
تعيشها هي؛ نجح الإخراج في توظيفها وتوصيفها. مُعيداً للجسد أحقيّته بالإحترام خروجاً من دائرة الشهوة وصولاً إلى أصالة الرّحم فيه، تكوين الحُبّ علامة فارقة تفيض على الزمان، تحيكُ حكايات التاريخ منذ النزعة الأولى للوجود. ولم يتوقف الجسد عند هذا.. لقد استخدم كلّ طاقاته التعبيرية ليحمل صورة الكلمة إلى مشهديتها واصفاً كلّ ما يجول بالمخيلة ناقلاً إيّاه إلى المتلقي ليسيطر عليه بالذهول، قائلاً له إبداعات العقل المتجانسة والمتطورة من مستويات إلى أُخرى صارخاً أن الجسد حب، الحب خلق، والخلق حياة تتنازع الأبد.
جاء التمثّل البصري في العمل مترافقاً مع عنصر الصوت ليحرّك لدينا كامل الحسيّات، توافَقَ اللون مع الصورة المُمَثَّلة مترابطاً ومتجانساً مع الإختيار الصوتي وانتقائية الآلات الموسيقية موصولاً مع نوعية الملابس وألوانها التي تناسبت مع كلّ مشهدٍ مضبوطة بإيقاع خاص تمّ اختياره ملاءَمةً مع النمط الملحمي للعمل كنص وكمسرح، ذاهباً بالأمر إلى أبعاده الرمزية بقوّة متناهية تحتاج بصراً وبصيرة يقرآن ويريان ما أراده الكاتب وما أراده المخرج. لم يكن اختيار كل هذه الأمور محض صدفة. كانت عين عقل مخيّلة المخرج المتأنية المنفتحة على ثقافة العبور إلى الخالد في الفكر والرؤيا. المنفتحة على إيحائية تتحدث عن انسجام متكامل بين كافّة العناصر. رأينا الإبداع في مطارح عدّة سَحَرَتْ العين وولّفتْ كيانية المتلقي ليقحم نفسه متماهياً مع ما يراه، مسكوناً بهواجس الصورة وما تقوله، رابطاً بين الكلمة ومستحضراً في ذهنه ما أراده رضوان حمزة وما قرأه وكيف رآه.
أخذنا المشهد إلى تجلٍ صادم. من يتوقّع هذا! استحضار صوفي تفاعَلَ في جزئيات مختلفة من العمل ليأتينا واضحاً جليّاً بعد رصدٍ لعبورات تطهيرية / الطهارة – التحرر – الخلاص / متبوعة برمزية خاصة لاستحضار الماء كمشهدٍ إبداعي خاص وقويّ جداً عكَسَ مقدرة الإخراج التصويرية بارتباطاتها مع مختلف العناصر.
ثنائية الخلق حاكَتْ ثلاثية الوجود بحوارية متكاملة اتّجهتْ نحو روحانية للمشهد متفاعلة مع مادية الكون. مذهلٌ هو التأطير بمشهد، بل وصادمٌ في مواضع عدّة إلى حدّ الدّهشة.
كوني زخماً لله،
اصعدي بالحبِّ طهارةَ الأبيض،
أَشْرقي ريعاناً بالخصبِ ولادة الآن،
ناجيتكِ التاريخ يصرخ وجودَه أنثى عتّقها الزمان،
أنتِ الخلق.. أنتِ ذروتي.. أنتِ فرحي،
أنتِ الولادة.
نخرج من العمل مسكونين فيه، برأسنا الكلمة تطرق مخيّلة التصوير والتجسيد المتحرّك. نعنوِنُ أوقاتنا بحالةٍ سَتَدوم، نريدها دائمة! ننتشي بالوصول إلى أعمق أعماقنا. نكتب كلمتنا من جديد. كلمتنا التي نراها أمامنا. ننظر للكون بأفق عاموديٍ يحاكي صلابة الحقيقة. من الأرض إلى السماء. سينوغرافيا الوجود.. كتابنا المقدّس الخاص دوّنه شاعرٌ رحل عنّا وهو مسكونٌ فينا وأخرجه مخرجٌ ننحني أمامه مبدعاً كلمةً تحولّت صورة، الصورة تحوّلت جسداً، الجسد تحوّل حركة، والحركة صارت مشهداً يقول: أيها الشّعر إني أراك.
الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع
يدي يدٌ لكِ ويَدُكِ جامعة
حَسَرْتِ الظّلَّ عن شجرة النَّدَم
فغسل الشتاءُ نَدَمي وَحَرَقه الصّيف
أنتِ الصغيرة كنُقطة الذهب
تفكّين السّحر الأسود
أنتِ السائغـةُ اللـّيـنـة تشابكتْ يداكِ مع الحُبّ
وكُلّ كلمةٍ تقولينها تتكاثف في مجموع الرّياح
أنتِ الخفيفةُ كريش النعام لا تقولين تعال
---------------
أيُّها الرّبُّ
إحفظْ حبيبتي
أيُّها الرّبُّ الذي قال لامرأة: يا أمّي
إحفظْ حبيبتي
أيُّها الرّبُّ إلهُ جنودِ الأحلام
إحفظْ يا ربُّ حبيبتي
مَهِّدْ أمامها
تَعَهَّدْ أيّامها
مَوِّجْ حقولها بعُشب الخيال
إجعلْ لها كُلَّ ليلة
ليلةَ عيدِ الغد
------------------------
يا حبيبتي
أُقسِمُ أنْ أظلّ أشتهي أنْ أكون كتاباً مفتوحاً على رِكبتيكِ
أُقسِمُ أنْ أكون انقسام العالم بينكِ وبينكِ لأكون وحْدَتَه فيكِ
أُقسِمُ أنْ أُناديَكِ فتلتفت السعادة
أُقسِمُ أنْ أحمل بلاديَ في حُبّكِ وأنْ أحمل العالم في بلادي
أُقسِمُ أنْ أحبّكِ دون أن أعرف كم أُحبّكِ
أُقسِمُ أن أمشي الى جانبي وأُقاسمكِ هذا الصديقَ الوحيد
أُقسِمُ أنْ يطير عمري كالنّحل من قفير صوتكِ
أُقسِمُ أن أنزل من برقِ شَعْرِكِ مطراً على السهول
أُقسِمُ كُلّما عثرتُ على قلبي بين السّطور أن أهتف
وَجَدْتُكِ! وَجَدْتُكِ
أُقسِمُ أن أنحني من قمم آسيا لأعبدكِ كثيراً
--------------------
يا ليلُ يا ليل
إحملْ صلاتي
أصغِ يا ربُّ إليّ
أغرسْ حبيبتي ولا تَقْلَعْها
زوّدها أعماراً لم تأتِ
عزّزها بأعماريَ الآتية
أبقِ ورقها أخضر
لا تُشتِّت رياحها
أبقِ خيمتها عالية فعُلوُّها سهلٌ للعصافير
عَمِّرْها طويلاً كأرْزَة فتمرّ مواكب الأحفاد تحت يديها الشّافيتين
عَمِّرْها طويلاً كأرْزَة فتجتازأُعجوبتُها مراكزَ حدودٍ بعيدة
عَمِّرْها طويلاً كأرزةٍ فتتبعها مثل توبتي شُعوبٌ كثيرة
أبقِ بابها مفتوحاً فلا يبيتُ الرجاءُ في العراء
بارِكْها إلى ثلج السنين فهي تَجْمَعُ ما تَفَرَّق
أُحرسْ نجوم عينيها فَتَحْتَها الميلاد
وها هو المَطَر
المداخنُ تَصعَد لاستقبال المجيء
تُمطر من قُبلة
--------------------
المملكةُ المُنقسمة اتّحدتْ
تاجُها الحُبّ سلامٌ للمملكة
المُستحيل صار معيشة
تُمطر من قُبلة
والمنفى ينهار
أُنفضوا على المنفى غُبارَ المنفى
وتعالَوا
من أعماق اليأس ومشارف الصقيع
من أطلال الأماني ورماد الصبر
تعالَوا
صِيروني كما صِرْتُكُم
أنا شفّافكم
أنا مَنْ سَقَطَكُم ومَنْ نَجَاكُم
حبيبتي كَشَفَتْ عن الضائع
دلّتْ على المفقود
الرسولةُ فازتْ بعُذوبة
بشفَقة فازتْ على القُوّات
وتَشْهَدُ تُعلنُ العودة
تعالَوا
المملكة مفتوحة
أسرابُ الحساسين عند باب المملكة تُسْرع للتحيّة
على بُعْد قُبلة تقفون من الباب
الكنوزُ وحيدة
الأرضُ وحيدة
الحياةُ وحيدة
تعالَوا
كلَّلوا رؤوسكم بذَهَب الدخول
وأحرقوا وراءكم
أحرقوا وراءكم
أحرقوا العالَمَ بشمس العودة