Tahawolat
نادراً ما يكون تطابق بين الاسم والمسمى. تلك هي سمةٌ من سمات التناقضات الجميلة في الحياة. هذه السمة تشير بذاتها الى نوع من صراع داخلي، حيوي وقوي، يقود حركة الواقع الى تحقيق التطابق، وعندما يتم ذلك يكون الوعي قد بلغ إحدى ذراه المعرفية، فيصبح في هذه الحالة مجهراً كاشفاً يبحث عن حل التناقضات المتوالدة، بدلاً من أن يكتفي بأن يكون مرآة عاكسة تنقل صورة الأشياء، ولا تغير فيها شيئاً، أو على الأقل تنقل صورة الأشياء من دون أن تعي الديالكتيك الداخلي الذي يتحرك ويتفعّل بقانون التبدل والتغير المشدود الى التطور، فالإنسان (وكذا سائر الموجودات) "لا يستحمّ في ماء النهر مرتين"، إذا استذكرنا في هذا المجال عبقرية هيراقليطس اليوناني الذي لم يقل قوله المذكور إلا بعد تجربة عميقة جعلت وعيه كاشفاً لا عاكساً فقط.
قول هيراقليطس تحوّل إلى قاعدة لا تزول الا بزوال الكون الذي نعرفه. قاعدة في كل شيء، في الفكر، والمعرفة، والثقافة، والانتماء، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد... الخ. ذلك لأنه اكتشف ما هو قانون، وحرّضنا على أن نعرف لنغيّر، ونطوّر، لا لنغرق في العكس والانعكاس، ولا للنكوص في الاستعادة والاسترجاع، وكل منهما وهمٌ معرفي مريض يعطل التطلع الفاعل الى المستقبل.
مجلة "تحولات" هي في قلب هذه الصيرورة تماماً: مجهرٌ كاشف، لا مرآة عاكسة فقط، وربما هذا ما ميزها منذ نحو أربعين عاماً. ولا شك في أنّ للخلفية السياسية والفكرية النهضوية لدى القيمين عليها، دوراً أساسياً، - بل قد يكون الدور الأول- في هذا المنحى. وقد يقول قائل: إنها مجلة نخبوية، ليست كثيرة التداول شعبياً، وهذا لعمري قولٌ فيه من الخطل بقدر ما فيه من الخطأ، فمتى كانت المجلات أو الكتب التي تحمل هموم الأرض، والوطن، والشعب، والحرية، والتحرر، والعدالة والوحدة والتراث والتاريخ والمستقبل – متى كانت – تقوم على كثرة التداول العددي، فهل هي مجلة أزياء، أو تسلية، أو بلاي بوي؟
يغيب عن بال مثل هؤلاء القائلين أن سهل القمح الذي يموج بملايين السنابل أصله بذرة واحدة، وأن الثورات النهضوية في حياة الشعوب أساسها فكرة، في عبرة في سياق التاريخ للتداول العددي، بل للتفاعل النوعي، فالثورة الفرنسية كانت بداياتها العملية بضع منشورات محدودة التداول، استندت طبعاً الى كتب وأفكار تركت آثارها في النخب المتحركة ثم تحولت الى مسار شعبي جارف، ولو لم يكن ذلك حقيقة بالفعل لما كنا نتذكر جان جاك روسو الذي بدأ فعله التحديثي والتغييري بمنشور وزع منه في البدايات أربعاً وعشرين نسخة كتبها بخط يده، ولم يأبه لمسألة التداول العددي، فالفكرة – أي فكرة – تشبه الضوء، تنطلق من نقطة واحدة، وتنتشر، وتضيء في أمكنة وأزمنة لا نستطيع أن نتصورها كلها عند الانطلاق.
"تحولات" في هذه الأنظومة من المعاني / الاشارات التي سبقت أرادت ونجحت أن تكون اسماً على مسمى، ترصد، تكشف، تنير، تساهم في رسم الطريق وإن تكن مزروعة أشواكاً جارحة، وتشترك دائماً في تصويب اتجاه البوصلة.
همُّ "تحولات" هو أن ننهض. أن نخرج من المستنقع، أن نغسل وجوهنا وننظفها من وحول الركود، وأن نثق بأنفسنا، وبإرادتنا، فنتحرك معرفياً وعملياً نحو الحرية والكرامة، والاستقلال القومي والتفاعل الانساني.
ولأن تحولات تحمل هذه الهموم، صمدت كل هذه المدة الطويلة بالرغم من المصاعب الشقية في بلاد ما زالت فيها الكلمة الحرة الواعية معرّضة في أي لحظة لإطلاق النار عليها من وطاويط الليل، أو لتعليقها على أعواد مشانق الانتهازيين في وضح النهار.
لم تأبه "تحولات" لمسألة الانتشار العددي التي أشرنا اليها آنفاً، فهي تملك القناعة بأن النوع هو الأصل، وبأن الكمّ لا يحمي النوع بالضرورة، بل قد يقلبه الى مهزلة في بعض الأحيان، كما لديها القناعة بأن الفكرة تنطلق وتعيش بين الناس بتأنِّ، وتنمو ببطء لكي تثمر في الأجيال القادمة، مثل شجرة الزيتون تماماً، تمهل كي تثمر لكنها تعمّر طويلاً.
عبر السنوات التي مرت بـ"تحولات" تحلّق حولها مئات المثقفين والكتّاب من اتجاهات متنوعة، تلاقوا جميعاً عند هاجس النهوض، وتقاطعوا عند سؤال كبير: لماذا لم ننهض؟ ولماذا لم تكمل أمتنا الطريق نحو التقدم العلمي والسياسي، بالرغم من إسهاماتها الحضارية القديمة؟ ولماذا أصيبت بما يمكن تسميته مع عبد الله العروي بالقطيعة الابستمولوجية؟...الأسئلة كثيرة، لا مجال الآن للخوض فيها، ولكنّ "تحولات" استوعبت كل هذا التنوع من الآراء والكتّاب، وفتحت صفحاتها أمام الأقلام الجادة، فأسهم فيها القومي، والماركسي، والليبرالي وغيرهم، فكانت بالفعل منبراً ديمقراطياً قادراً على العطاء والتطور.
هنيئاً لـ"تحولات" هذا الصمود على مدى أربعة عقود. ستبقى ثقتنا فيها كبيرة، وسنبقى نُسهمُ في صفحاتها من أجل غد نهضوي جديد، نناضل من أجله، كي تستعيد أمتنا دورها وموقعها الحضاريين.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net