Tahawolat
الحياة سرّ وحَكَمُ أي عمل للإنسان، وهي منطلقُه وغايته، أكان هذا العمل فكرياً ذهنياً أم تنفيذياً. وحيث تنعدم الحياة في هذا العمل ولا يخدمها، كان عملاً باطلاً، بل كان عملاً شططاً، والشطط شيطنة عن صراط مستقيم هو الحياة نفسها.
هكذا اعتبر المجتمع المتقدم الإعدام، كعقوبة، هو مصادرة على المطلوب، إذ إنه في الوقت الذي يهدف اعتبار الحياة قيمة عليا يهدرها هو أيضاً، فيتساوى القاضي مع الجاني القاتل، إذا كلاهما يقتل، فيكون كل منهما آلة موت ضد الحياة ومعناها.
حسمت المسيحية الحقة، المسيحية السورية المشرقية انتماءها للحياة، فكانت الحب، كانت انتماء لخط الحب، خط الفكر السوري، فكر الحياة وخبز الحياة المتسامية عطاء ونبلاً. فلم تر الموت نفسه إلا قناعاً هشاً ووقتياً للحياة، قميصاً ملوناً تلبسه في مناسبة ما، لم تره إلا شكلاً من أشكالها البديعة المدهشة، فتقدس الموت طريقاً إلى الحياة المبدعة الدائمة.
كما ان المعلم الكوني من بلادنا، يسوع من الناصرة في فلسطين الشهيدة، انتمى للحياة فنطق بقوتها، بجلالة الروح وقيمتها، واعتبر ان كل ما لا يخدم الروح لا يقوى على البقاء، هو مجرد طبل أجوف يضج ما يلبث ان يختفي وتبقى موسيقاها الخالدة تعزفها ألحان البرية بهدوء جليل. وفي رفض يسوع الفلسطيني المشرقي العنف والقوة المدمرة الغاشمة، قوة السلطة والاستقواء بالعبودية المتكاثرة بالضعفاء، عَضَدَ ضعفاء قوة الجسد والمكانة ليقووا على أقوياء السياسة وجبابرة السلطة، ليكبروا بسلطان أرواحهم على حيتان المال السياسي السلطاني، فينتصروا بهم وفيهم، أو ينتصروا على تسلطهم بوجه شعوبهم، مرة واحدة وإلى الأبد. فكيف لعبد نمت روحه وأشرق عليه نور الوعي المسيحي السوري ألا يتحرر، وكيف لحرّ بالمسيحية المنيرة، مسيحيتنا نحن "أعرفوا الحق والحق يحرركم"، يُستعبَد ثانية ويتواطأ على الحق المحرر مع طغاة أرضيين ضد أبيه السماوي؟
هكذا علّم يسوع الناصري، قيمة الحياة شهادة دائمة في سبيل جلالتها التي لا تزول بالتمرس بلا انقطاع، فلا تكون إلا هي ذاتها، جوهرها المشع في اخلاقنا وأعمالنا، في سلوكنا وأقوالنا، في نهاراتنا وليالينا، في جهرنا وسكوتنا، في كموننا وإعلاننا، سيرة حياة إنسان مجتمع لا تنغلق على قوقعة الفرد وفيها بل تتكامل في حضور المجتمع والإنسانية المغتنية بالروح.
لم ير يسوع العمر سنوات مديدة متراكمة طبقات شيخوخة ليصبح همّاً يجر هيكله المتداعي تمسكاً بالعيش، بل رآه فسحة إشعاع زمني لتكريس قدوة عمل إنساني ترفض عبودية العيش المستمر لتنتصر الحياة. ورأى الموت واجباً وطريقاً إلى فصح لا مفر منه لتجسيد ولادة القيامة، ألماً يتقدم فرح التكون. وفيه كل انتصار الحضور وجلاء المعنى وقوة الحق.
علّم تلاميذه، وكل تلاميذه تقاطروا إليه من مدن سوريا وأريافها، منهم بسطاء عامة أنقياء قلوب، او جبابرة سلطة وطغيان استشعروا تفاهة ما هم فيه يعمهون من زيف حياتهم وقشور اوهامها، كبولس الطرسوسي من ادنه المحتلة من تركيا اليوم، الذي أرسل لتشديد الحملة على المسيحيين في دمشق، فاهتدى إلى قوة السماح وهو في طريقه لأداء مهمة إمبراطور روما، فأمام إمبراطور الروح تضاءل جبروت أمبرطور روما في نفس بولس، وادرك مبلغ الهلاك في عين نفسه، وفي عين التاريخ وفي عين البشرية الحقة، إذ يظلم أنقياء الروح بالحق في دمشق، فانقلب على سيده الجبار مرة واحدة وإلى الأبد، غير عابئ بما يصيب جسده النضر من آلام وما قد يواجه من حتف محيق، هو وأسرته، ففضل أن يحيا شهيداً على ان يموت جباراً طاغياً.
كذلك بطرس، القديس الصخرة، القديس الأساس لكل كنيسة تنطق بشهادة المسيح في العالم، الذي أنكر يسوع مرات ثلاثاً، لما اشتد إيمانه واستطاب العذاب بالحق، استهان الصلب مقلوباً رأساً على عقب، في أحد ميادين روما، إن كان في صلبه مرتبة قداسة، وتقرباً من جدارة معلم خالد وسموه، لم يقبل ذل التراجع عن حقيقته لقاء تعداد الأيام في ظل جور الحكام. فانقضى الحكام وبقي الحق الإمام سيد الأنام على الدوام. على صلابة بطرس الناكر ومن ثم المنتصر على ضعفه الفردي بقوة الإيمان بالمسيح وبقيمة عظمى للحياة تتعدى الحساب الرقمي المعتاد، إلى معنى جليل لا تكسبها إياه إلا شهادة الإيمان والحرية بالحق.
كم يجدر بنا، اليوم، في زمن الشهادة، حيث يتجبر حيتان مال على جحافل موظفين، فيبخلون عليهم وعلى أسرهم الصابرة بحقوق طبيعية، ليبتزوهم بفرض ضرائب باهضة او الخضوع في سكوت العبيد، ويبخل طغاة السياسة المتواطئون على شعبنا وأرضه وحريته وأجياله والحكام الظلال في سطوة التفكك الداخلي الوطني والتسلط الدولي في خطة ممنهجة لم تضعف ولم تهن يوماً، لإفنائنا، إفقاراً وفتنة، خطفاً وقتلاً، تشويهاً وتعمية، ذبحاً وهدماً، وهم كلما زاد الضغط ازدادوا جهالة وعمى، وكلما احتجنا نبيلاً يقود ازدادوا سفالة وانحناء، حتى نكاد نتوهم السيادة في من يصادرها بالاحتلال والجدران العازلة في وطن المسيح، احتلال يدعم الإرهاب علينا ويؤويه.
والخطة الدولية المستشرية، بدءاً من صلب المسيح وتلاميذه القديسين، إلى اليوم، مروراً بغزو المشرق مئتي عام بوهم توراتي هو العودة إلى أرض الميعاد بزج ملوك أوروبا ضد دولة إسلامية متهالكة تحت عنف سلجوقي مملوكي، حتى اغتصاب فلسطين وتدمير محيطها المشرقي بالحرب والفتنة المذهبية وخطف رهبان المسيح وراهبات الأديرة، ما زالت هي هي، تعتمد على يهود الداخل، الحقيرين في ماديتهم، الذليلين امام عظمة الباطل العدو.
ما زال عزاء الحق اهله أن يؤمنوا بفصحه، أنهم شهداؤه ليدحرج صخر القبر فيطلق مجد امة ظنها أعداؤها انها صلبت ولا قيامة لها بعد الصلب والتقسيم يوماً... لكنها تقوم بالفصح، فصح وعيها وفصح وحدتها، امة حرة ترفض القبر لعقود وقرون مكاناً لها تحت الشمس.
يا شعبي هوذا فصحك. قُم، مرة واحدة وإلى الأبد.
اعرف الحق والحق يحررك.. لتكون الحسم.. فالسلام.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net