Tahawolat

منذ بداية تفتح وعيي السياسي والوطني في  السبعينات من القرن الماضي وحتى اللحظة، وأنا مندهش حتى العظم من ثرثرة العرب، وبكائهم، وعويلهم، وصراخهم، ونحيبهم، وشعاراتهم الفارغة، ولكن، كنت دائماً وتحت ضغط المؤامرات والمكائد والألاعيب السياسية الدولية، أحاول أن أجد لهم في عقلي مبررات وذرائع ومسوغات تخفف من حنقي وغضبي، أسوةً بغضب وحنق كل أبناء جيلي من حالة الضعف والوهن والهزال التي يعاني منها العرب على مستوى الحكومات والأنظمة.
لقد تآلف عقلنا وذهننا ووجداننا مع ضعف الأنظمة والحكومات أو تخاذلها في حماية شعوبها التي تذبح على مذبح التآمر الدولي المتحالف مع عروش الظلام، وانبلج في أحلك الظروف "عصر المقاومة الشعبية" التي نهضت كرد تاريخي على هذا التخاذل الرسمي المهين في حماية الأمة والدفاع عن قضاياها العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين، بما تعنيه لنا من  ظلم ومأساة انسانية فظيعة يندى لها جبين الانسانية جمعاء...
ومع انبلاج عصر المقاومة الشعبية تم دفن - والى الأبد - كل نظريات الضعف من نظرية "العين لا تقاوم المخرز" الى فلسفة "القوة في الضعف" الى غيرها من ديباجيات الاستسلام الطويلة، وأثبت شعبنا في كل دسكرة ومدينة وقرية وناحية في لبنان وفلسطين والشام والعراق أن "الشعب" قادر على صنع الزمن "الجديد"، "العزيز"، "الكريم"، "الحر" و...
وأثبت الشعب أن الانتصار ارادة وفعل، وأن التحدي قرار شجاع لا يقدم عليه الا الأعزاء الشرفاء المؤمنين بالله والوطن...
أما بعد،
حققت المقاومة في كل الساحات انتصارات وكان لها جولات أثبتت أن النصر ممكن، وأن الهزيمة ليست قدراً، وأننا قادرون بالفعل على تغيير اتجاه حركة التاريخ انطلاقاً من الحاضر وصولاً الى المستقبل الآتي.
فمن تحرير عام 2000، الى حرب تموز 2006 والرد المعاكس على العدوان، وصولاً الى حرب غزة، وكسر الحصار، كل هذه انجازات حققها انساننا على الرغم من الحصار والضغوط والمكائد التي حاك خيوطها الخارج - ومع الأسف - بعض الداخل.
خلال كل هذه الفترات التي عشتها وعاشها جيلنا، لم أكن معجباً لا بنظام عربي ولا بدولة عربية ولا بأي قائد لدولة عربية، وكنت في قرارة نفسي أحس أن الكثير من هؤلاء سبب مباشر لتعاستنا وفشلنا واخفاقنا على دروب الحرية والوحدة والتقدم.
وكنت من جيل الشباب الذي يدعو الى التغيير الحقيقي والاصلاح الجدي لكل منظومة حياتنا وصولاً الى بناء دولة حضارية تؤمن لشعبها الكرامة والطمأنينة والبحبوحة والعزة والتقدم والمنعة والإباء، لا لسبب الا لأننا نستحق الحياة، ونفهم معانيها العميقة.
كنت وما زلت مؤمناً بالاصلاح في لبنان، وفي الشام، وفي الأردن، وفي كل منطقة من مناطق الوطن الذي آمنت بضرورة توحده في يوم من الأيام، وكنت دائماً من المنادين أن المقاومة والممانعة لأي مجتمع يجب أن تقترن بخط الاصلاح لتحصينها وتعزيز صلابتها وقدرتها في حركة المواجهة الكبرى، وكنت وما زلت أدعو – كما الكثيرين – الى اصلاح النظام السياسي في بلادنا باتجاه الديموقراطية والحرية واشراك الناس في تقرير مصائرهم من خلال مشاركتهم في القرار، وكذلك وضع الآليات التي تحقق هذه الأهداف عبر قوانين انتخاب عادلة تؤمن صحة التمثيل الشعبي وتساهم في نبذ الطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والعنصرية على اختلاف تلاوينها وأشكالها وأصنافها، وهي بالمناسبة أمراض فتاكة تصيب جسم مجتمعنا وتحول دون تطوره الطبيعي كما سائر المجتمعات التي حسمت موضوع الهوية الوطنية والقومية، وحسمت ولاءها الى الأمة الواحدة، الى المجتمع الواحد، الى الوطن الواحد الذي يتسع لجميع ابنائه على حد سواء...
وأنا أكثر ايماناً اليوم أن الاصلاح حاجة في كل مكان وخصوصاً في عالمنا العربي التعيس من أفريقيا الى أسيا الى كل ناحية من هذا العالم العربي الفسيح الأرجاء، التعيس بحكامه ومناهج حياته المتخلفة، وأنا اليوم أكثر ايماناً أن الاصلاح مسار حتمي لا بد أن نلجه اليوم قبل الغد، وعلى هذا الأساس كنت من المتحمسين لثورات مصر وتونس وليبيا واليمن، وكنت أرى مبرراً  للحراك الشعبي في سورية في بداياته...
ولكن، كان واضحاً منذ البدء، أننا أمام أكبر عملية سرقة دولية – صهيونية – استعمارية لأحلام شعوبنا في التحرر والتقدم والتنمية والحرية، وأمام مشهد احتوائي متعدد الجوانب يرفع شعار الاصلاح ويأخذنا الى مكان آخر لا اصلاح فيه ولا من يحزنون، هكذا سرقت ثورة مصر التي تشهد عراكاً ما بعد الثورة بين تأصيل الثورة وبين مسار حرفها عن أهدافها الحقيقية، وهكذا دل لنا النموذج الليبي الذي أسقط الطاغية، ولكن، عسى أن لا يفرخ طواغيت تحكم البلاد بالحديد والنار وبنظريات القرون الوسطى، وهكذا اليمن الذي تلاشى حراكه الى نزاعات قبلية عشائرية لا تحمل رؤى وأفكار اصلاح...
أما في سورية - وهذه المفارقة - بدا مكشوفاً  أن افتعال "الحراك" عبر التجييش الاعلامي والسياسي والديبلوماسي له أهداف خفية ولكنها واضحة لنا، تتمثل في ضرب وحدة المجتمع، واسقاط الدولة الوحيدة التي وعلى الرغم  من نقاط الضعف والثغرات في الممارسة والسلوك التي تعتريها، وعلى الرغم من الفساد وغيرها من الأشياء ولكنها -  وهذه شهادة للتاريخ -  الدولة الوحيدة التي رفعت لواء المقاومة للمشروع الصهيوني وشكلت مظلة حماية لكل حركات المقاومة من فلسطين الى لبنان الى العراق، وما هو مطلوب اليوم وتحت عنوان الاصلاح هو اسقاط مباشر لهذه الرمزية المقاومة والرافضة لهذا النموذج الذي يمثل وحدة المجتمع وتنوعه الثقافي والديني الحضاري.
لذا، لحظة سمعت بقرار تعليق عضوية "الجمهورية العربية السورية" في الجامعة العربية، شعرت وبعفوية  بالاشمئزاز من حالة الاستلاب العربي والخضوع المهين لمشيئة الأميركي، اذ أن لا شغل يشغل حكام العرب الا سورية التي – بالطبع - يعز علينا أن نخسر فيها دماء عزيزة طاهرة، ولكن، كان واضحاً أن المبادرة العربية الأخيرة لم تكن بقصد ايجاد حلول للمأساة السورية، وانما تحقيق مقاصد أخرى وأغراض أخرى، بعيدة كل البعد عن الحرص على مصلحة الشعب السوري، كان واضحاً تعليب القرارات وتوظيفها في خدمة المشروع الأميركي – الصهيوني – الغربي الذي يهدف الى اسقاط سورية الصمود والمقاومة والممانعة...
وما هو غير مفهوم، أن تأتي الدعوة للاصلاح من حكام ملوك وأمراء وسلاطين تسلطوا على شعوبهم، وقمعوا أنفاسهم، أي من حكام لا ديموقراطية في اماراتهم وممالكهم ولا من يحزنون، لا تداول سلطة، لا انتخابات، ولا حرية تعبير، ولا أحزاب ولا جمعيات، فقط طيف الحاكم وطبقة المتعيشين في جنبات القصور وزواياها، وبعض تجار الهيكل، والكثير من الحاشية، حاشية البلاط...
في الختام، حمى الله سورية المقاومة، سورية العروبة الحقيقية، سورية الصمود والعزة والكرامة، وكلمة للمثقفين الحقيقيين في بلادنا أن يتنبهوا لخطورة أن يصبح "الاصلاح" مركباً يقوده المستعمِر الخارجي (بكسر الميم) والمِستعبد (الداخلي) بكسر الميم أيضاً، ذلك أن التاريخ لن يرحم... 

آراء القراء

1
28 - 1 - 2013
How neat! Is it rlealy this simple? You make it look easy.

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net