Tahawolat
الفقر وموقف الشّريعة منه  يشهد الكثير من المجتمعات والدّول اليوم، تحدّيات اقتصاديّة صعبة، تؤدّي إلى انتشار ظاهرة الفقر بين الأفراد والشّعوب، حيث باتت هذه التحدّيات تشكّل الهاجس الأكبر لهذه الشعوب والدّول. وقد وقع الاختلاف في تعريفات فقهاء عامّة المسلمين لحدود الفقر، فمنهم من رأى أنّ الفقير هو من له أدنى شيء، أي دون "نصاب"، فالفقير عند الحنفيّة هو من يملك أقلّ من نصاب الزّكاة، أو قدر نصاب، ولكنّه مال ثابت لا يستثمر أو ينمو، وهو مع ذلك معدّ لضروريّات الإنسان وما لا بدّ منه، أي أنّه ليس فائضاً عن الضّروريّات.
وآخرون قالوا إنّ الفقير هو من لا مال له، ولا كسب له أصلاً... فإن لم يملك إلا شيئاً يسيراً بالنّسبة إلى حاجته، بأن كان يحتاج كلّ يوم إلى عشرة دراهم، وهو يملك درهمين أو ثلاثة كلّ يوم، فهو فقير، لأنّ هذا القدر لا يقع موقعاً من الكفاية، وهو رأي الشّافعي.
فيما ذهبت المالكيّة إلى أنّ الفقير هو الّذي يملك الشّيء اليسير الّذي لا يكفيه لمعيشته، ورأى الحنابلة أنّ الفقير هو الّذي لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته... فالفقر هو عدم تحقيق حدّ الكفاية، أو عدم القدرة على الوصول إلى حدّ أدنى من مستوى المعيشة.
ويقول فقهاء الإماميّة في تحديدهم لعنوان الفقير الشّرعي، إنّه الّذي لا يملك قوت سنته، إمّا فعلاً أو قوّة، والمراد بالقوّة القابليّة، فمن يملك صنعةً أو حرفةً وما أشبه، يستطيع من خلالها تحصيل معاشه، فهو غنيّ شرعاً، وإن لم يكن يملك فعلاً المال في يده. وهناك المسكين الّذي هو أشدّ فقراً من الفقير، كأن لا يملك قوت يومه حتّى، فهذا التّعبير، أي الفقير والمسكين، إن اجتمعا افترقا، وإن افترقا اجتمعا (إن اجتمعا في الكلام افترقا في المعنى، وإن عُبّر بكلّ كلمة لوحدها كان معناهما واحداً.)   والفقير يستحقّ مال الزكاة والخمس شرعاً والكفّارات ونذورات الفقراء، وبعضها يمكن إعطاؤها له مباشرةً من قبل المكلّف، وبعضها الآخر يكون بنظر الحاكم الشرعيّ أو إجازته، والإسلام اعتنى بسدّ حاجات الفقراء في تشريعاته بشكل أساسيّ، وقد ورد في الحديث: "إنّ الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، ولو علم أنّه لا يكفيهم لزادهم"، لذلك "ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني"، وجوع الفقراء يُسأل عنه أغنياء الأمّة الميسورون.
فالمراد بالفقير، كما يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): من لا يملك مؤونة سنته المناسبة له ولعياله، بنحوٍ لا تكون موجودة كلّها دفعة واحدة لجميع السنة، ولا هي موجودة بالتدرّج من خلال راتب يوميّ أو شهريّ.[[فقه الشّريعة، ص:533.]]   والفقراء هم الّذين لا يجدون الفرصة الذاتية للعيش الكريم، فيضطرّهم ذلك إلى الاقتراض أو سؤال النّاس الآخرين ].[من وحي القرآن، ص:143.]
لقد حثّ الإسلام على تحصيل المال من خلال الطّرق الشرعيّة، كالتّجارة والفلاحة والصّناعة والحِرَف والصّيد والوظائف، وحرّم بعض الطّرق غير المشروعة في تحصيله، كالغشّ والرّشوة والرّبا، كما دعا الإسلام إلى إنفاق المال في مصارف الخير، وتحقيق العدالة والتّوازن في المجتمع دون إفراط وتفريط. ولتحقيق عبادة الإنفاق، ذمّ الإسلام البخل والإسراف، ودعا إلى الاعتدال، قال تعالى{: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً}[الإسراء: .29]
لا ينظر الدّين الإسلاميّ إلى المجتمع على أساس أنّه فئات مستقلّة اجتماعيّاً واقتصاديّاً عن بعضها البعض، وإنّما هم ـ أي النّاس ـ بفطرتهم وطبيعتهم في هذه الحياة يحتاجون إلى التعاون على قضاء حوائجهم، وتبادل المنافع بينهم، من هنا عمل الإسلام بكلّ تشريعاته الاجتماعية والاقتصادية على ضمان المعيشة الكريمة للفئات الفقيرة والمحتاجة.
ولقد اعتبر الإسلام أنّ ظاهرة الفقر مرضيّة ينبغي معالجتها، ويروى عن النبيّ(ص) قوله: "اللّهمّ إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر". في المقابل، يعتبر الإسلام أيضاً أنّ الفقر هو ابتلاء من الله تعالى لعبده المؤمن، قال تعالى: {[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ] }البقرة:155{.
والإسلام بمنظومته العقيديّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، يهدف للقضاء على الفقر، وأوّل ما سار به لتحقيق ذلك، أنّه حارب منذ بداية الدّعوة الطبقيّة الاجتماعيّة، والتّمييز بين أبناء المجتمع الواحد، وحضّ على العمل والكسب، فالعمل هو السّلاح الأمضى في محاربة الفقر، وجلب المنافع..
كما ورهّب الإسلام من الاحتيال والتسوّل، ونها عن التصدّق على غير المحتاج، وحضّ المجتمع ككلّ على البذل والإنفاق على الفقراء والمحتاجين، لأنَّ ذلك من صميم مسؤوليَّاته الأخلاقيّة والإنسانيّة، وتحقيقاً لمبدأ التّكافل الاجتماعي العام، وهذا ما يزيد المجتمع نفسه ثقةً واطمئناناً، ونتائج معنويّة طيّبة، بحيث تنتفي الأحقاد والبغضاء عندما يشعر الفقير والمحروم بأنَّ هناك من يساعده ويواسيه.
والمجتمع القويّ خيرٌ من المجتمع الفقير الضّعيف، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال:60]، وفي معرض حديث عن هذه الآية المباركة، يرى سماحة المرجع الإسلامي السيّد محمد حسين فضل الله(رض): أنّه إذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكريّة، فإنّنا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوّة من نوع آخر، مما تحتاجه الأمّة في تطوّرها العلميّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في موقعها السياسيّ بين الأمم الأخرى، لأنّ ذلك يحقّق لها الاكتفاء الذاتيّ أو التفوّق الواقعيّ، الّذي يفسح لها المجال للتحرّك بقوَّة من موقع استغنائها عن الآخرين، أو من موقع حاجة الآخرين إليها، فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضّغوط الّتي تقيّد حريّتها في الحركة، أو تفرض الضّغوط الّتي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين، وهذا ما يُلزم الأمَّة ـ بجميع أفرادها ـ أن تستنفر كلّ طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدّم في كلّ المجالات الّتي تمثّل أساس القوّة في الحياة، وأن لتتخلّص من كلّ نقاط الضّعف المفروضة عليها من الدّاخل والخارج، فذلك هو السّبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّة في حياة النّاس، في عالمٍ لا يفهم إلا بلغة القوّة، فالحقّ الّذي لا يستند إلى القوّة، لا يرتكز على أساس ثابت متين.
وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوّة يحتاج إلى الكثير من المال، فإنّ على الأمّة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات، وأن تعتبر ذلك إنفاقاً في سبيل الله، لأنّ رفع المستوى العلميّ والعسكريّ والاقتصاديّ للأمّة، هو من أفضل السّبل العمليّة الّتي تؤدّي إلى تدعيم الحقّ، وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطّويلة ضدّ الكفر والكافرين...
وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنّه سيعوّضهم عمّا أنفقوه في هذا السّبيل في الدّنيا والآخرة {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ، فتأخذوه وافياً غير منقوص وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[الأنفال: 60]، بل تجدون العدل كلّه والخير كلّه والرّحمة الواسعة الّتي تفتح لكم أبواب الحياة على آفاق الفلاح والنّجاح.] [من وحي القرآن، ج10، ص:.410]

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net