Tahawolat
في صباح يوم السبت الندي ودعنا أبي، كان الحزن يسري في العروق والدمع جامداً على النوافذ والبيوت والصمت قاسياً كالجليد، غادرنا عائداً إلى التاريخ محملاً بالتعب والهموم حيث يطارد خيط الشعاع وتتشابك المساحات التي يختالها الضجيج النصف هنا والنصف الآخر هناك وما بينهما سوى جسر لحنين مدماكه قصيدة حل وترحال في أن واحد وبينهما موعد مع الموت. في وجهه الموت يتموج كالقمح الاصفر وفي ملامحه يتصبب تاريخ جامع وفي أخر موعد معه لم أجروء النظر إلى عينيه خفت أن ألمح فيها طعم التاريخ المنتهك في فلسطين والعراق. لم يمهله الموت حتى يكمل مشاريعه ولم يترك السيف والحصان ولم يترجل، كافح وناضل وانتقل من ميدان الحياة إلى ميدان الموت ولم يتهادن ولم يستسلم. كان يجيد فن المشاركة ويعرف كيف ينتفض من تحت الرماد مثل طائر الفينيق ويتقن فن الغناء وطرق الحرب والهجوم وكان صاحب خصال. يبتعد عن طرق العبث في الظلام.. يحب الحياة.. ويعرف أين يقف قدماه ويكره دهاليز الأقبية والدروب والأزقة الضيقة يحب التطواف.. يراقب العابرين على الطريق.. مرة يسير معهم ومرة يخالفهم السير. دائماً معذب الذاكرة يوقظ في القلوب الجراح الغافلة ولا يجيد فن المجاملة ولا ألاساليب المواربة كان يراقب عن قرب كيف صارت المدن متاحف وكيف أصبحت الخيل سلاحف. كان يعلم أن العالم في زمن العولمة يوشك أن يدرك نهايته ولكنه جعل من الحب مطرقة تقوم بتكسير بحر الجليد فينا فكسر بذلك قاعدة اليومي والواقعي على نحو مفاجئ وكان قنبلة مقذوفة في وجه الهاربين والخائفين والواهمين وجعل من الأمل فعل بقاء وخلود وتحاليل على الموت والمرض. لم تخنقه الرهبة لكنه تكلم كثيراً عن سيفه الضائع وكيف ابتلع الصرخات الموجعة والليل المرخي على الأبواب المقفلة.. هكذا وهكذا... جابه ريح الموت عارياً وعرف مرارة الكلمة وعطش الباحث عن الماء، كالسمك المذعور تدور وتدور في بحيرة يجف منها الماء. كاللغة لم تعد معولاً على الزرع بل صارت لحفر القبور أو نبشها في معنى أن الزمان أقحل وموسم الحصاد كسد ومع كل هذا وذاك فكل مدينة تشرق شمسها التي تشرق في غياب الآخرين والبعث يزهر مع اشتعال الروح وإلا يباس فجفاف وأرض يباس وموت زاحف. إنه الحياة كينبوع قصص وروايات وحكايات وذكريات وتجارب ومشاكسات وقصص موت كمصدر قلق وشغف وإختراع حيث نرى الحب في الحياة والحياة في المرض والمرض في الموت والموت في الحب.. في لوحات بانورامية مغلقة بين المادي والوجداني.. تعبق بحضور ساخر قاسي مثير للجدال يلقي الضوء على ظلال الطبيعة الإنسانية التي تتزاوج بين الحب والكراهية وبين الدراما والكوميديا السوداء والمرارة والأمل. كان أقوى من الوجع والألم كمن يعزف لحن الصمت على ربابة خرساء وناي لا يصفر وكمان ينأى عن أوتاره .. كان متوقظاً من هذا الصحو الأخرس ولا يكف عن البكاء.. إلا أن جاء يوم يموت ببرده العابر. حياته مترعة بالاماني وبألف نشيد، تعبر سريعة كأن الأيام لحظات.. سلك الدروب.. كل الدروب وسافر إلى المدن البعيدة يحمل على كتفيه صخرة "سيزيف" وقلق "جلجامش" يقف في حيرة تتكرر هنا وهناك ينظر اللون الأخضر ويكون الأحمر هو الثابت واستقبله الزمن بمسافات يزرع هنا ويحصد هناك وفي أحيان يرشينا بوردة بيضاء، في محاولة للقول بأن الحياة لا تزال مستمرة وأن الموت سيفشل حتماً أمام الإصرار وأن الأحلام لم تتحقق وكل ما عاشه لم يكن إلا قبض ريح ومشياً في الفراغ. لم يحمل الرايات البيضاء ويمضي مستسلماً لوهم الحياة ولم يكن في يوم من الأيام أسطوانة تدور وتدور لا بل كان الرجل الأحمر الذي لم يهدأ إلا ليقفز من جديد. ولم يكن ذاك الرجل الذي ترك أوراقه ومضى عندما شعر بالاحباط والخيبة والوهن... ضلل العمر كله محاولاً انتقاص اللحظات السعيدة ولكنه لم يفلح إلا في حالات قليلة لأن الزمن اختلفت فيه الأصوات ولم تعد فيه مساحات للاحلام بل للألم. قاوم الكآبة والسآم والمعنى حتى لا تفقد الكلمة سحرها أو سرها، كالمحبط أو العاشق الذي يبطل السحر الذي يربط بينه وبين من يحب فيجد نفسه في الفراغ والوحشة والعتمة. حالته تشبه حالة الساعة الرملية التي كلما نبض الرمل في جانب منها قلبت على الجانب الاخر لتستعيد حيويتها وديمومتها من جديد وهذا ما جعله في تطور مستمر. يخاف على نفسه من الملل والرتابة لذلك بقي قريب من العقل والقلب. هكذا والسرطان يخترق جسده كالمذبحة وكليته المعطوبة. "أراد والدي أن يفاجئ الموت بدلاً من أن يفاجئه الأخير بانفجار "القنبلة الموقوتة" التي كانت عبارة عن كليته المعطوبة وجسده المشرب بالسرطان. كان مستعداً كعادته، وتركنا نحن وراءه كي "نربي الأمل". أعرف يا أبي أننا لم نفترق. لكننا لن نلتقي أَبداً... نعم... نسينا تلفت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا. هذا ما نعرفه يا أبي ولذا فأنا أردد دوماً: "إنك مت مبكراً عما يجب أو إني كبرت أكثر مما يجب".

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net