Tahawolat
كما تسير الأفياء بخفّة يسير قلمه. محمّلاً بشبابيك تطلّ على حقلٍ مليءٍ بنورٍ ورؤيا، ينبعث من سنابله قمح الأمل، وأرغفة المشاوير، تسير معاً إلى قمرٍ وضعه قنديلاً لعتمتنا "أنطون سعاده"، مكسّرًا حواجز الرعشة بين اللّيل والصبح، وموحّدًا بينهما، ليغدوا أكثر قوّة. يعبران الزواريب المليئة بالأعداء واللّصوص... إنّه القمر المعلّق في سماء اللّيل... قلْتُ إنّه "أنطون سعاده".
في رواية "88" لمنير الحايك، سرد شفّاف مدعومٌ بحوارٍ هادئٍ يقترب من اللّغة العاميّة أحيانًا، وبوصفٍ لوصّافٍ ماهر، وفي ذلك، نستدلّ على براعة الكاتب في تحريك الأحداث وصبغها باللّون المحلّي، وتركها تتصاعد إلى ذروة التأزّم، مع عرض للحلول، ولكن من دون الوصول إليها ... فبقي الحلّ صوريًّا في الرواية.
يكثر في الرواية الرواة، من "فؤاد - إلى طوني - فسامي -  فأحمد - فعدنان" ولكن محور الأحداث هو "فؤاد" المقعد والمصاب بشلل في يده اليمنى بعد عمليّة قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي ضدّ حاجزٍ إسرائيلي. "فؤاد" المؤمن بقضيته حتّى الاستشهاد، أكثر ما يؤلمه هو المقايضات التي تحصل على ظهر من قدّموا حياتهم في سبيل قضيّةٍ "ولكنّني أسأل نفسي اليوم، كيف لم نكن على علمٍ بأنّنا بعد سنتَيْن فقط، سنقوم بإلقاء البنادق عن الأكتاف، وستتمّ مقايضة ما أنجزناه بمراكز نيابية ووزارية ومناطقية!". (ص 19)
هوسُ الانعتاقِ منَ الفكرِ مَنْ سببُه: الفقر أم الدين؟!
في الرواية مَنْ يترك الحريّة المنبثقة من الهواء ليلتحق بالتعصّب. من اليسار إلى اليمين "كعدنان"، الذي هجر القومية ليلتحق بكهوف العصبيّات والتزمّت، فصار سلفيًّا.
لنعد إلى البطل "فؤاد" الذي يجلس في غرفة لها عمر من دون أجنحة، جسده يغمرها، وفكره طائر البجع.
 في خضمّ ذكرياته، يستعيد فؤاد مشهد النار، كأنّه العارف بما سيأتي. وتأخذ النار في النصّ دلالات عديدة. فاستنادًا إلى الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" تمثّل النار المنحصرة في الموقد، بالنسبة إلى الإنسان، المجال الأوّل والموضع الأوّل للتأمّل الشارد La rêverie  فهي ترمز إلى التحوّل والاستراحة والهناء، وهنا، تتمظهر الأبعاد السيكولوجية والأنطولوجية: "كم أُحبّ مشاهدة ألوانها تتبدّل بين الأزرق والأصفر الذهبيّ... أُحبّ أن أمسك غصنًا يابسًا، أغرزه بين الجمر لدقيقة، من ثمّ أقرّبه إليّ فيكون مشتعل الرأس، فأبقى شاردًا فيه إلى أن ينطفئ وتلمع الجمرة ثم تخبو". (ص17)
ولعلّ أهمّ قيمة وجوديّة توحي بها النار، هي تقديم النموذج الحسّي عن التغيير والتحوّل، فيعطيها التأمّل الشارد بها بُعدًا تراجيديًّا للقدر الإنساني. "غير أنّني لم أجد تفسيرًا لحبّي النار، ولرؤية الغصن اليابس يرقد رويدًا رويدًا في يدي، لا بل لأكون المقرّر والمرمّد له". (ص 17)
ونعتقد أنّ الكاتب قريب من "أحمد" المتواجد في غربته، المدمن على الدمع واستحضار الذكريات. فتتداخل القيم العلاماتيّة للبكاء، فهو تارّةً علامة لاستعادة الذكريات وتارّة أخرى علامة للفراق. "جميلة هي تلك المشاهد، جميل أن تحمل مثلها معك إلى الغربة، تستحضرها في أيّام الشدّة المفاجئة لتساعدك على البكاء الجميل. البكاء ساعة الشعور بالغربة رائع!". (ص 21)
هكذا، تتصاعد الأحداث في الرواية وتتفاعل فيما بين المتحاورين، من دون الوصول إلى الحلول. نوافذ جديدة لتأمل جديد ورؤية جديدة، انتقال هادئ من النصّ المغلق إلى النصّ المعلن. بدءًا من العمليّة ضدّ الحاجز الإسرائيلي في بلدة "إبل السقي" الجنوبية ص 51، مرورًا بحرب تموز ص 28، ووصولاً إلى الفرح العظيم بإطلاق عميد الأسرى سمير القنطار ورفات الشهداء ص 109 – 110.
لا شكّ في أنّ المقاومة حرّرت جنوب لبنان عندما أعطت ما للأرض للأرض من دمٍ ورجالٍ وحريّة.
صديقي إكرامًا له فقط، هذا الحلم الهابط إلى أحداقنا، المتسلّل إلى نعاسنا، المترجّح بين ضفتَي اليقظة والنوم... إكرامًا له فقط. دعنا نحلم مع "فؤاد" قبل أن نصبح مقعدي الحلم والرؤيا.
"ثمّ نسافر كلّ سنة إلى منطقة أو مدينة من مدن الأمّة السورية: بغداد، الكوفة، تدمر، عمان، حلب، الكويت، سيناء، الاسكندرون، الخليل، القدس إن استطعنا". (ص 49)
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net