Tahawolat
المتحدات البشرية بدلاً من الجيوش

استباقاً للحروب الأسرائيلية على جنوب لبنان وضع احد الطلاب اللبنانيين دراسة تحدد معالم المنطقة وطبيعة الحروب التي يمكن أن تواجهها وطريقة مواجهتها مقترحاً وسائل وأساليب حديثة وعصرية وتنسجم مع واقع المنطقة وفي مجتمع يعاني من المشاكل البنيوية والأقتصادية والإجتماعية

في قراءة إستباقية لحروب إسرائيل على جنوب لبنان
المجتمع في الجنوب ،التنظيم المدني والعمارة :شبعا نموذجاً


خريف 1971 و عند بدء الدورة الأولى لنيل شهادة الدراسات العليا في الهندسة المعمارية للسنة الجامعية 1971- 1972 في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، تقدّم أحد الطلاّب بموضوع يقترحه للتوسّع و الدفاع عن صلاحه للحصول على الشهادة. كان الموضوع جدلياً بامتياز إذ كان  يقسم اللبنانيين بقوّة، فأكثريتهم لم تكن تؤمن بلبنان القوي المحارب المدافع عن حقوقه و مصالحه بكلّ الوسائل المتاحة، بل كانت تؤمن بلبنان المسالم الكامنة قوّته بضعفه و المسلّم أمره للأمم المتحدة و حمايتها لحقوق الإنسان و لحقوق الدول. و للأسباب عينها قسم الموضوع أساتذة الدبلوم أنفسهم، ذلك أنّ الموضوع كان "شبعا، ضيعة حدودية دفاعية مقاوِمة" فاحتارت أكثرية الأساتذة و دار نقاش حاد حول الموضوع الذي لا يطرح مشكلة إعادة إعمار ما خرّبته الحرب بل أنّ الموضوع هو كيف نفكر في موضوع تنظيم المتّحدات البشرية و كيف نتعاطى مع العمارة في مجتمعٍ موجودٍ في حالة حربٍ دائمة، تستنزفه و هو غير قادر على الدفاع عن نفسه بالوسائل المعروفة، كالجيوش النظامية، المعتمَدة في كلّ دول العالم.
كانت منطلقات البحث في الموضوع هي التالية:
1-  متّحداتنا في جنوب لبنان، من مدن و قرى و دساكر، موجودة في خطر دائم، فالعدو المباشر، الصهيونيون المحتلّون فلسطين و البانون فيها دولة قوية عدائية، يعتدون علينا بسبب و بغير سبب فيقصفون و يقتلون و يهجّرون دورياً جاعلين الجنوب بأكمله في حالة لاإستقرار دائم، ينتج عنه لا إستقراراً دائماً في لبنان كله.
2-  الدولة اللبنانية مفككة بسبب بنيتها الطائفية، و ضعيفة بسبب تفككها و اتّكالها على القوانين الدولية و المنظّمات العالمية التي ابتدعتها الدول القويّة للسيطرة على الدول الضعيفة بوسائل ناعمة. و الحكم في الدولة اللبنانية تألف منذ الانتداب الفرنسي من عصابة من الأوليغارك (Oligarques) عابرة للطوائف و للمهن و للمناطق، قصيرة النظر، ليس لديها فكر استراتيجي، و لا همّ لها سوى الحفاظ على مصالحها الذاتية و تنمية هذه المصالح على حساب قوت الناس و موت المجتمع.
3-  المجتمع اللبناني حالة هجينة تتنازعه عوامل عديدة إيجابية تشدّ أواصر وحدته نذكر منها تداخل مركّباته الطائفية عضوياً، فأكثرية متّحداته تضمّ أكثرية طوائفه؛ و نذكر منها حياة مشتركة امتدّت مئات السنين وَحَّدَتْ كثيراً من العادات و التقاليد و بَنَت مصالح إقتصادية و إجتماعية مشتركة؛ و نذكر منها أيضاً ثقافة مشتركة مبنية على تراث مشترك من الأدب و الفكر و العمارة و الفنون، و نذكر أيضاً، و قد يجدر بأن يكون أوّلاً، أرضاً مشتركة ذات جغرافية متشابهة على تنوّعها، تحوي ثراوات متشابهة على ضحالتها.
4-  لكنّ المجتمع اللبناني الهجين هذا تتنازعه أيضاً عوامل سلبية خطيرة تفكّكه و يسعى بعضها إلى تدميره، و نذكر من هذه العوامل ما يلي: تعدّد الأديان و فهمها لنفسها نقيضاً بعضها لبعض، و هيمنتها على الحياة بأكثرية مجالاتها الاجتماعية و الثقافية و خاصةً السياسية؛ و انغلاقها على ذاتها محتكرة، كلّ لذاته، الحقيقة الكبرى الشاملة النشوء و المسار و الآخرة. و من ثمّ تعدّد الطوائف ضمن الدين الواحد، ذلك أنّ الدين؛ و مهما عظُم جبروته و جعلت منه عالميته شأناً متسامٍ عن شؤون البشر، يبقى في النهاية منظومة وضعية يُعمِل فيها الإنسان عقله و عواطفه و يحلّل و يجتهد و يرسم أنماطاً من السنُن و النواميس تختلف عن بعضها بحسب الظروف و المعطيات التاريخية و الجغرافية و الثقافية؛ و يكفي عندها اعتداد الإنسان بنفسه بامتلاك كلّ الحقيقة وحده، حتى تكثر الطوائف و تكثر المذاهب و تصبح خصومتها و عداوتها في أكثر الأحيان شأناً إنسانياً طبيعياً لم يستطع الإنسان تخطّيه بعد. و إذا انتقلنا إلى الخلاف السياسي الحاد المسيطر على الحياة العامة نجد، و دون تطوال، أنّه ينتقل بسرعة إلى عداء بسبب الأنانية المفرطة و انعدام الشعور القومي الذي يوحّد الأهداف الكبرى و يخلق قناعة بوحدة المصير و يخلق قوّة جماعية كبرى تعود في ظلها الخلافات في وجهات النظر لتأخذ مكانها الطبيعي و حجمها النسبي في الحياة العامة. و إذا ما استعدنا حقيقة هيمنة الدين و الطائفة على آليات هذه الحياة العامة، نجد كيف أنّ المخطىء و المجرم المنتمي حكماً إلى طائفة ما يستحيل مساءلته و محاكمته إذا ما تسلّح بانتمائه الطائفي و انتصرت له طائفته و اعتبرت محاكمته تَجَنٍّ على الطائفة بأكملها... هذا ما يحدث في لبنان دائماً عندما تكون الجريمة كبيرة تطال الوطن و الناس و الأمّة. و قد لا يكون هنالك حلّ لهذه المعضلة في بلد كبلدنا إلاّ بالقناعة الشاملة عند كلّ مكوّنات شعبنا بأنّنا "كلّنا مسلمون؛ منّا من أسلم لله بالإنجيل و منّا من أسلم لله بالقرآن و منّا من أسلم له بالحكمة " فنحسم بذلك خلافنا على السماء و ننتقل لمواجهة تحدّيات وجودنا على الأرض : إنّ مواجهة هذه التحدّيات يصبح أهيناً، فإعمال العقل في هذه المجالات كفيل بالتغلب على جميع الصعوبات.
لكلّ ذلك، و لأسباب عديدة أخرى متفاوتة الأهمية لا مجال لذكرها الآن، انطلق الطالب المذكور بتحدّيه النظري للواقع القائم، معتبراً أنّ العبور إلى "مجتمع جديد" بحاجة إلى نظريات في كافة شؤون الحياة و على رأسها الأمن و الدفاع؛ و بما أنّ مسألة مزارع شبعا و احتلال الكيان الصهيوني لها و عدم تمكّن الأهالي من الوصول إليها و استعمالها، كانت أصبحت في واجهة الأحداث، و بما أنّ قسماً كبيراً من جنوب لبنان، أي شمال فلسطين كان قد أصبح "أرض فتح/ فتح لاند" بتخلٍ واضح من الدولة اللبنانية عن القيام بواجباتها بالدفاع عن جنوب أرض الوطن و أهله، فلقد شكّلت هذه الحالة الإطار المناسب لطرح المشكلة الأساسية، ألا و هي كيفية الدفاع عن أنفسنا في ظلّ جميع هذه المعطيات و التي تختصر تحت عنوان أنّنا أمام "حرب وجود لا حرب حدود"، و أنّنا لا نملك دولة تدافع عنّا و أنّه علينا أن نتدبّر أنفسنا بأنفسنا.
·  المعطى الأوّل في هذه النظرية هو أنّ لبنان كله في حالة حرب ممّا يقتضي أن يكون الجنوب بأكمله ساحة قتال مباشر، و المنطقة بين بيروت و صيدا و كلّ البقاع الغربي ساحة قتال مداور، و بيروت و ما تبقى من لبنان ساحة دعم دائم.
·  المعطى الثاني هو أنّ القتال الأساسي على أرض المعركة هو من مهمّة الأهالي سكّان المتّحدات، فهو قتال شعبي يقوم السكّان المدرّبين بفعله، فيحوّلون المنطقة بأكملها إلى ساحة قتال يضطرّ العدو إلى الدفع بأعداد كبيرة من مشاته للتمكن من السيطرة على الأرض و بذلك يضطرّ إلى الالتحام المباشر ممّا يعطّل إمكاناته التكنولوجية المتحكّمة بأرض المعركة عن بُعد، و يعطّل حكماً تفوّقه القتالي: إنّه أسلوب المقاومة.
·  المعطى الثالث هو أنّ الحياة العامة يجب أن تبقى طبيعية في كافة المناطق المُشار إليها و خاصة في الجنوب ساحة القتال المباشر. و ذلك يقتضي بيئة مبنية طبيعية و بيئة مدينية طبيعية. سنة 1972 كانت أكثر متّحداتنا في الجنوب لا تزال جميلة، فهي متجمّعة على بعضها و غالباً تحتلّ قمم الهضاب و التلال. و لم يكن الباطون البشع الأبله يومها، أي سنة البحث، قد غزا ريفنا، و أمّا الباطون الجميل فكان شبه مجهول هناك و كان يحاول دبدباته الأولى في العاصمة و في بعض المصايف و المدن الصغيرة. البيئة الطبيعية إذن و البيئة المبنية المنظّمة هما الشرط الأوّل و الحاضنة الأساسية لكلّ حياة طبيعية في مجرياتها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية و بالتالي الردعية. إذن نحن في مفهوم يتناقض كلياً مع مفهوم الكيبوتز، فالموضوع هو تحويل متّحداتنا نفسها من خلال تعديلات نوعية و إضافات ملائمة إلى متّحدات طبيعية الحياة أيّام السلم و جاهزة للدفاع عن نفسها أيّام الحرب.
·  المعطى الرابع يعرفه المضطلعون و العارفون بالموضوع، و قد أكّده أحد ضبّاط المقاومة الفلسطينية يومها، و هو أنّ الجيش اللبناني، و رغم التفوّق الكاسح للجيش الإسرائيلي، يستطيع أداء دور كبير و مؤثّر في أيّ حرب قادمة في حال تحوّلت قواعد القتال باتّجاه اعتماد قواعد قتال المقاومة الشعبية؛ ذلك أنّ باستطاعته إعاقة و حتى وقف تقدّم أرتال المدرّعات عند أعناق المحاور الجبلية المضطرّ إلى سلوكها، و بذلك يكون قد أجبر العدو إلى الدفع بمشاته إلى أرض المعركة، و هذا هو المطلوب.
بعد هذا العرض المختصر للمشهد العام ينطرح السؤال حول الموضوع بشقين : الأوّل يتناول ما يجب عمله و صنعه و تعديله و إضافته حتى تتلاءم متّحداتنا مع مجمل التحدّيات المطروحة و تصبح جاهزة لرفع التحدّي الوجودي الذي يواجهنا، و الثاني يتناول كيفية تأسيس متّحد ريفي جديد في منطقة الصراع يؤمّن الشروط اللازمة لحياة طبيعية سليمة جاهزة للدفاع عن نفسها في ظروف النزاع و في ظروف الحرب. لقد اختار الباحث الإجابة على السؤال الثاني الذي يمكنه من عرض أوسع لمشاكل التنظيم و الترتيب و العمارة في مكان تقتصر معطياته على ما تفرضه الطبيعة. و لقد انطلق من قاعدة ذهبية اعتمدها الأقدمون و أهملها الحديثون و المعاصرون و هي القاعدة التي تضع حدّاً لحجم المتّحد، فلا يمتدّ و ينتشر غرائزياً بناءً على حاجات الأفراد و رغباتهم، بل يمتدّ و ينتشر عقلياً و بحكمة بناءً على نواميس الطبيعة و علم الاجتماع و مصلحة الأمّة؛ و عليه فإذا أصبحت تلبية حاجات النموّ السكاني في المتّحد و حوله مضرّةً بنوعية الحياة و بمزاياها و بتوازنها المادي و النفسي لجأ القيّمون على الموضوع إلى استحداث متّحدات جديدة قد تكون جارةً للأولى و قد تبتعد عنها جغرافياً حسب نواميس المدى الحيوي الذهبية أيضاً في أيّ مكان و لأيّ زمان.
إنّ الموقع الحالي لبلدة شبعا يتمتّع بمزايا و لديه عيوب. فإذا كان من مزاياه الإتاحة للبيوت التراصف متتاليةً بتوازٍ على المنحدر الشرقي للجبيل الذي يحمل البلدة فيحميها شتاءً من جهة الغرب و ينشرها من جهة الشرق أمام الشمس من الصبح و حتى منتصف بعد الظهر، فإنّ حرمان البلدة من الهواء المنعش الآتي صيفاً من الاتّجاه الغربي الجنوبي، الغالب على طول شاطىء المتوسّط الشرقي، يعدّ عيباً، خاصةً إذا أضفنا إلى ذلك حرمان البلدة أيضاً من غروب الشمس على أفق واسع مطرَّز بالهضاب المتمايلة بدلال و المنحدرة غرباً نحو البحر. و إذا كان اصطفاف الأبنية على طول الشوارع المتوازية بحسب انحدار أرض الموقع من الغرب إلى الشرق هو من طبيعة التركز على المنحدرات، فإنّ اتّجاه هذا التركز من الجنوب إلى الشمال حسب اتّجاه الوادي الذي تحتلّ البلدة منحدره الغربي يحمل عيبين؛ الأوّل طبيعي دائم يتمثّل بانفتاح الوادي أمام الرياح الشمالية الباردة و المؤذية شتاءً، فالبلدة تقع على ارتفاع ألف و خمسماية متراً عن سطح البحر؛ و الثاني جَدَلي آنيّ يتمثّل بانفتاح الوادي جنوباً أمام الرصد الإسرائيلي المباشر من الجبال الجنوبية المحتلّة حيث المعابر نحو مزارع البلدة و حيث أملاك سكانها و جزء كبير من مصادر إقتصادها. أنّ الناظر إلى البلدة من تلك التلال و المعابر يراها بأكملها تمتدّ أمامه و تنساب شمالاً منفلشةً أمام القنّاص المتحكم بأقلّ حركة تحدث في أحياء البلدة بسلاحه المتوسّط حيناً و بسلاحه الثقيل حيناً آخر؛ تقع البلدة إذن تحت نظر العدو و تحت مرمى كافة أسلحته التقليدية ممّا يخلق لها حالة من التوتّر الدائم الكافي لشلّ الحركة فيها و تعطيل الحياة اليومية.
أنّ الموقف المبدئي من موضوع الموقع هو الاحتفاظ به حيث هو، فالأمكنة المختارة لمواقع قرانا و بلداتنا منذ تواريخ قد تقصر إلى قرن أو أقلّ أو تطول إلى ألفيةٍ أو أكثر، أثبتت الأيّام صلاحها و غالباً جودتها. فلا حاجة إلى تغييرها، بل يجب التمسّك بها فهي تحتضن بجغرافياتها المتنوِّعة فرادة شخصياتها المنحوتة من حياة ناسها فيها؛ و هي شخصيات تنمو مع الزمن و تتغيّر من خلال أصحابها باثقة عليهم هذه الصفات الخاصة المكانية الصابغة بلطافة تلك الصفات العامة المتولِّدة من جغرافية مكان و سكان المدى الحيوي للأمّة. لكن خروجاً عن هذه القاعدة قد يطرأ في بعض الأماكن بسبب عطل في الموقع لم يكن ظاهراً أو مؤثراً عند التأسيس و تمّ تخطّيه لأسباب عديدة، فأتت تطوّرات لاحقة أدّت إلى ضرورة إعادة النظر. و مهما يكن من أمر الجدال حول صوابية اختيار موقع آخر لتركز المتّحد الجديد فإنّ الأهمية الفعلية للمقترح تكمن ببنيته النظرية الصالحة بشكل عام لكافة الأمكنة التي نضطرّ فيها لاختيار موقع جديد لمتّحد موجود أو إنشاء متّحد جديد لضرورات النموّ السكاني و لحاجة الانتشار.
 إنّ الموقع الجديد المقترَح لشبعا الجديدة هو المقلب الآخر للجبيل الذي يحمل شبعا القديمة؛ أنّه المقلب الغربي لهذا الجبيل حيث تنحدر الأرض غرباً بحدّةٍ أقلّ ممّا هي عليه في المقلب الشرقي، و حيث المساحة تنبسط مثل كفّ اليد ملامسةً الطريق العام عند أوّل منعطف قوي يسبق الوصول إلى البلدة الحالية. و قد يكون من المناسب تسمية الموقع الجديد "جديدة شبعا" لمحاذاته شبعا الموجودة و اعتباره الامتداد الطبيعي في الزمان و المكان للكائن الطبيعي الحيّ الأوّل. يتميّز الموقع الجديد بانفتاحه التام على الأفق الغربي من أوّل شماله إلى آخر جنوبه، و هو ذو انحدار أخفّ من انحدار الموقع القديم، و يشكّل خط القمّة فيه الممتدّ من الشرق إلى الغرب مروراً بالجنوب خطّ دفاع طبيعي في مواجهة العدو، فتبدو البلدة و كأنّها محتمية في حضن كفٍّ يدير ظهره لمصدر القلق؛ و إذا كان التعرّض لريح الشمال لا زال موجوداً فإنّ هذا الريح لم يعد يصفر من خلال وادٍ يشكّل مضيقاً تتضاعف فيه قوّة الريح المؤذية؛ و إذا أضفنا إلى كلّ ذلك تشكّل طبيعة الأرض من الصخر الذي تتخلّله فجوات من التراب، و هي طبيعة ملائمة للبناء و للتشجير حوله، أصبح عندنا موقعاً جيّداً يصلح للاستيطان، عنده إمكانيات العودة إلى بيئة خضراء رطبة بعد البنيان و لا يحتلّ أرضاً زراعية تشكّل عندنا، و بسبب ندرتها، ثروة نادرة حرام التفريط بها.
يشكّل اختيار الموقع للمتّحد الجديد المرحلة الأولى من عملية الاستيطان، و عندها ينطرح السؤال الثاني المتعلق بكيفية التركّز فيه و توزيع الحيِّزات حسب الوظائف و تحديد أمكنة السكن و العمل و الترفيه و غير ذلك من الحاجات العامة كالإدارة و العبادة و التجمّع و غيرها؛ و فيما يلي تبيان مختصر لهذه العملية :
1-  اللوحة الأولى تبيّن أنّ المنشآت تجانب الطريق العام الذي يصل البلدات ببعضها، فلا تعرقل حياة البلدة الداخلية حركة المرور فيما بين البلدات، و تتحرّك هذه الحياة حول شبكة الطرق و الساحات العامة الخاصة بالبلدة و التي تهيكل بنيتها كما تهيكل الأضلاع أوراق الشجر. يتمّ الدخول إلى مركز البلدة من خلال موزِّع صغير مثلّث الأضلاع يؤمّن انسياب المرور دون عرقلة. و يحيط بمركز البلدة شارع دائري يحصر ضمنه المنشآت العامة كالبلدية و مكتب الشرطة و المركز الثقافي الاجتماعي و الجمنازيوم و المستوصف المعزّز و الحمّامات العامة و المعابد و المحالّ التجارية. و تحيط بهذه المنشآت حديقة عامة يحتلّ قسماً منها بحيرة اصطناعية تؤكّد تقليداً قديماً في أكثرية بلدات الجنوب حيث البركة المتعدِّدة الوظائف تحتلّ وسط البلدة. تشكّل البحيرة رمزاً مهمّاً للحياة التي بحاجة إلى الدفء كما و للرطوبة، و إذا ما اعتمدنا زرع الأشجار الباسقة الكبيرة الحجم و الارتفاع بدل الشجيرات التي تغزو المساحات الضئيلة المخصَّصة لذلك في مدننا و قرانا، نستعيد الحيّز العام المظلّل المنعش الذي كان عندنا في الماضي بدل الحيِّزات العامة الصحراوية المنتشرة اليوم في كلّ متّحداتنا. في متَّحداتنا اليوم يتراءى للمراقب أنّ الناس نسوا أنّنا في بلد الشمس الطاغية خلال ثلثي السنة و أنّ الثلث الثالث لا تغيب عنه الشمس إلاّ قليلاً. أنّ جوّاً منعشاً و مريحاً كما يؤمّنه الترتيب المذكور في المقترَح يخلق جوّاً من الإلفة و من التفاعل و من الزخم يعيد للأمكنة العامة وظيفتها الأساسية ألا و هي التلاقي و الحوار و التفاهم...
تبيّن اللوحة الأولى أيضاً شبكة الطرق التي تنطلق كلّها من الشارع الدائري و من الشارع الأساسي الصاعد باتّجاه المنطقة العليا بانحدار لا يتجاوز العشرين بالمائة، فتسلكه السيّارات بسهولة و تتفرّع منه الشوارع التي تغذّي الأحياء الثمانية التي تشكّل كامل المتّحد. تنساب هذه الشوارع متوازيةً مع الأرض فليس فيها سوى انحدار خفيف و تتقاطع معها شبكة أخرى من الطرق و المعابر تتقاطع هي الأخرى مع انحدار الأرض و هي بغالبها أدراج منحدرة تختصر المسافات و تصل الأحياء ببعضها من خلال "آدوميّات" يسلكها المشاة فقط. تمرّ طرقات السيّارات الثانوية ذات الانحدارات الخفيفة في ساحات الأحياء، و هي ساحات فرعية صغيرة الحجم تعطي لكلّ حيٍّ حيِّزه العام حيث سبيل الماء و السنديانة الباسقة و المقاعد المتحلّقة حول الساحة حيث التجمّعات الصغيرة في المسايا حول فنجان قهوة أو كوب شاي و حيث يطيب السهر في الليالي المقمرة. و تكمل طريق الحيّ مسارها لتصل إلى القمم الصغيرة التي تشكّل نوعاً من الحاجز الطبيعي حول المتّحد حيث أبراج المراقبة التي تسلّط عيونها و آذانها صوب الأرض المحتلّة.
و تبيّن اللوحة الأولى أيضاً اتّصال الطريق الأساسي المنطلق من مركز المتّحد، و الذي يشكّل العامود الفقري للشبكة، مع الطريق العام عند أقصى شرق المتّحد، و هو اتّصال يغذّي منطقة الصناعة الخفيفة المركّزة قرب زرائب الماشية و قرب حاويات العلف و قرب مستودعات المنتجات الزراعية التي تشكّل المادة الخام لتلك الصناعات الخفيفة و قرب مرائب الجرّارات و الناقلات و أدوات الإنتاج على أنواعها. و دون أن يغرب عن بالنا أنّ حجم هذه المنشآت هو متناسق مع حجم البلدة و أنّ هذا الإنتاج يشكّل الرديف الذاتي العائلي المتواضع للفلاحين من السكان، نشير إلى أنّ المكان مجهَّز ببحيرة إصطناعية متوسّطة الحجم تحيط بها غابة من الأشجار، تخدم هذه الأعمال مضيفةً إلى المكان روعة الحياة الحيوانية الطبيعية إذ تصبح محجّاً للطيور البرّية كما و موئلاً للطيور الأليفة.
2-  اللوحة الثانية تبيّن، برسم مبسّط، شبكة الطرقات الأساسية الصالحة للسيّارات و مركز المتّحد و منشآته و بحيرته و ساحات الأحياء و فكرة عن انتشار الحارات حولها و منطقة التصنيع الزراعي الخفيف و بحيرته و نهايات الطرقات مع مراصدها و المربّع الذي سيتمّ درسه و اقتراحه كنموذج لما ستكون عليه ساحات الأحياء و كيفية التجمّع حولها.
3-  اللوحة الثالثة تبيّن قلب الحيّ المُشار إليه في اللوحة الثانية بالمربّع الداكن. يمرّ الشارع العام ذو الانحدار الخفيف في ساحة الحيّ تاركاً القسم الأكبر منها في الجهة العليا حيث سبيل الماء و بعض المدرّجات المحيطة به و المشرفة على القسم الأسفل بحيث تبقى إمكانية تحويل المكان إلى مسرح شعبي متاحة لأكثر من مناسبة بينها إحتفال بعرسٍ أو احتفاءً بولادة أو تكريماً بنجاح أو إحياءً لتقاليد شعبية محلية أو عائلية. يتفرّع من الساحة دروب منها المنحدر و منها المتدرِّج تغذّي الحارات المركّبة أيضاً بتدرّج يتطابق و يستفيد من انحدار الأرض. تنساب الطرقات الفرعية و الأدراج حول الحارات بحيث تؤمّن الوصول إلى مكوِّناتها من كافة الجهات، و هي مسارات مكوّنة من طبيعة الأرض و مُحاطة باخضرار كثيف يتدرّج من المساحات المعشوشبة إلى الأشجار الكبيرة الباسقة التي تؤمّن الظلّ في جميع الاتّجاهات فيصبح السير في البلدة من متعات الحياة فيها. ويشكّل تلاصق البيوت المتعدِّدة الأشكال في تركيب الحارات كما و يشكّل تركّز الحارات المتنوِّع و المتلائم مع طبيعة الأرض و تضاريسها، خروجاً قوياً عن الرتابة التي تطبع المجمّعات السكنية المستحدثة. فالمنظورات المتغيِّرة باستمرار و حجم  الفراغات المتعدِّد و تنوّع المجالات و المسارات يخلق جوّاً من الجدّة و من البهجة المقرونة بإندهاش فرح. في هذه الحيِّزات لكلّ زاوية خاصيتها و لكلّ منعطف مكتشفاته المتمثلة بأحجام الأبنية و تضاريسها و الكتل الخضراء و ألوانها المتعدِّدة و ألاعيب الظلال على الواجهات و ظلال الأبنية و الأشجار على الأرض و فيما بينها. لكنّ اكتشاف أسرار هذه المسارات المتعدِّدة يبقى حكراً على أبناء البلدة وحدهم و على قلّة من زائريها الدائمين من أقارب و أصدقاء، لأنّ الوضع يتغيّر كلياً عندما يحاول الغرباء اقتحام المكان، إذ يتحوّل عندئذ إلى متاهة تسهّل على المدافعين، و هم أهل المكان، الدفاع عنه بوجه محتلين أعداء يتحوّلون، بسبب تعقد المكان، إلى صيد سهل في مصيدة أعدَّت لهم سلفاً. إنّ بلدة كهذه تستطيع الصمود و الانتصار في حرب شوارع على عدد من الأعداء مماثل لعدد المدافعين عنها... و تبيّن اللوحة الثالثة أيضاً مداخل الملاجىء المُشار إليها بالمربّعات الصغيرة و التي تتواجد في أحواش الحارات و تؤدّي كلّها إلى ملاجىء جماعية كبيرة مطمورة على أعماق مناسبة كما سيظهر في اللوحة الخامسة؛ و تتحوّل هذه المخابىء عند الالتحام المباشر إلى كمائن تتيح للمدافعين الانقضاض على المهاجمين من كافة الاتّجاهات.
4-  اللوحة الرابعة تبيّن نفس منطقة اللوحة الثالثة مرئية من الجو، و القصد منها تبيان اختلاط حدود البناء مع حدود الجنائن المحيطة عندما تكسو الخضرة كامل المساحات، ذلك أنّ أسطح البيوت و المباني مترّبة و مزروعة و هي بذلك تؤمّن عازلاً جيّداً لداخل المباني و منظراً جميلاً و محيِّراً من الجو؛ و قد لا يستطيع التمتّع به سوى ساكني المناطق العليا في البلدة، و المتواجدين على قمم الجبال المحيطة و من الأمكنة البعيدة المشرفة. أنّه بلا شك منظر طبيعي جميل ينحشر في الطبيعة بتآلف محكَم و بتناغم تام. و تظهر أيضاً في هذه اللوحة الدوالي التي تظلّل الشرفات أمام مجالس البيوت، ذلك أنّ الدالية (العريشة) تشكّل غطاءً ملائماً للشرفات في الأرياف، فهي مكتسية بالأوراق و العنب من منتصف الربيع حتى منتصف الخريف، فتؤدّي بذلك وظيفة التظليل من الشمس و وظيفة إنتاج أحد أطيب الفواكه، و هي معرّاة في النصف الآخر من السنة و خاصةً في فصل الشتاء حيث تلعب أشعّة الشمس دوراً بارزاً في تدفئة البيوت، فتدخل إليها و تؤدّي واجبها.
5-  اللوحة الخامسة تبيّن، و من خلال مقطع عرْضيّ باتّجاه الانحدار، اصطفاف المباني و تدرّجها و الاستفادة من الانحدار لجعل التلاصق مفيداً و جميلاً و غير مضرٍّ بخصوصية الحياة العائلية. يبيّن هذا المقطع مدخل أحد الملاجىء و موقعه داخل حوش إحدى الحارات و عمق هذا الموقع و اتّصاله المطمور مع ملجأ آخر في حال دمِّر المدخل بالقصف. تتّصل الملاجىء كلّها ببعضها مخافة تعرّض مداخلها للتدمير نتيجة القصف المدفعي أو خلافه؛ و هي مجهَّزة حسب الأصول، ذلك أنّها تشكّل الملجأ الآمن للسكان غير المؤهّلين للقتال من نساء و أطفال و شيوخ. يبيّن الرسم أيضاً كيف يشكّل سطح بيتٍ ما، مترّب و مزروع، الشرفة المظلّلة بالدالية للبيت الذي يعلوه منسوباً دون أن يكون فوقه؛ و يبيّن أيضاً موقع طمر خزّان المازوت و وسيلة تغذيته و مسار وصول المحروقات إلى الحارة التي يغذّيها، ذلك أنّ خزّان حارةٍ ما يقع تحت مساحةٍ عامة ترتفع عن موقع الحارة ما يكفي لإيصال المازوت إليها بواسطة الجاذبية، ذلك أنّ الاستغناء عن الوسائل الآلية في هذه الوظائف هو القاعدة السليمة الأساسية كون هذا الاستغناء يحرِّرنا من التبعية للآلة خاصةً في الظروف الصعبة. إنّ الواجهات الظاهرة خلف الأبنية المقطوعة هي مطابقة لمسطّح المنطقة التي عرضناها في اللوحتين الثالثة و الرابعة، و هي تعبّر فعلاً عن واقع الحال المرسوم و تعطي بالتالي فكرةً عن مظهر الحارات و عن التداخل و الترابط المتناغم فيما بين المساحات و الآحجام.
6-  اللوحة السادسة، و من خلال مقطع طولي يمرّ في وسط الطريق و في قلب ساحة الحيّ الذي بينّاه في اللوحتين الثالثة و الرابعة، تبيّن واجهة هذا الحي كما يراها مَن يستعمل هذا المسار. و هي مطابقة فعلاً لتسلسل الحارات فوق الطريق، و بالتالي فهي أيضاً تعطي فكرةً عن التداخل و الترابط المتناغم المُشار إليه سابقاً.
تشكّل اللوحات من السابعة حتى الحادية و العشرين توسّعاً في مقترحات مسطّح الحارات و البيوت التي تؤلفها كما و لمقاطعها و واجهاتها، و تقترح مواداً للبناء و كيفية بنيانها؛ كما و أنّها تقترح تنظيماً للغرف و توزيع الوظائف داخلها و كيفية التدفئة شتاءً بوسيلة متعدِّدة الوظائف تؤمّن الطهو أيضاً و المياه الساخنة. كلّ ذلك بهدف الاستفادة القصوى من معطيات المواد و بأقلّ تكلفة ممكنة و بهدف تأمين أكبر قدرٍ من الراحة انطلاقاً من قاعدة الـ "Optimalisation" الذهبية في كلّ مكان و زمان.

أواخر حزيران سنة 1972 نجح ذلك الطالب بإقناع اللجنة التحكيمية بصوابية طرحه و نال شهادته و هو يتذكّر أمامكم الآن تلك الفترة الخصبة من تاريخنا المعاصر و يهنّىء نفسه و اللبنانيين خصوصاً و العرب عموماً و الأمم الحرّة في العالم بشكل أعمّ بهذه المقاومة الفريدة التي ردّت لنا اعتبارنا أمام أنفسنا أوّلاً و أمام العالم تالياً و عدنا بفضلها من صنّاع وجودنا و من صنّاع التاريخ.

      جبيل في 13 تمّوز 2012
    المعمار اميل العكرا، رئيس هيئة المعماريين العرب 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net