Tahawolat

مات منصور عازار فترمّلت الثقافة، وتيتّم الكتّاب والمؤلفون والباحثون.


منصور عازار والثقاقة توآمان لا ينفصلان. فهي منه وهو منها ولها. كانت الثقافة له حسباً ونسباً، ديناً ودنيا. اندفع بكل ما أُوتي، وبكل ما أُعطي، وبكل ما وهب في سبيل إعلاء شأنها.


وعلى الرغم من انشغال منصور عازار بأعماله المالية والتجارية وعلاقاته العقائدية والسياسية، فقد أفنى قسطاً وافراً من حياته ومن ماله لتبقى هذه الثقافة حيّة في كل كاتب وباحث ومفكر يبثها إلى الآخرين، فتولد في كل إنسان.


لقد جالس منصور عازار أساطين الفكر والرأي والعلم في الوطن والاغتراب، ليبقى القبس الثقافي نيراً في عالم عربي يغطي أغلب حكامه وأنظمته وأفراده الجهل والتخلّف.


لقد عرف منصور عازار أن الجهل يورث الجهل، وأن رايات الوطنية والانعتاق لا تقوم إلا على كاهل المثقفين وأهل الفكر والعلم، الذين هم قدوة الأمة فوهب بدون حساب، ووهب بدون تقدير.


كان إيمانه المجرّد بأمته إيمان ذلك الصوفي بربه: إني أعبدك لذاتك فلا تبعد عني بهاء نورك الأسمى". وكانت محبته لوطنه طاقات والتزامات وأبعاداً تمتد إلى حدود اللانهاية، لا حصر فيها ولا حدود.


هذا ما فقهه منصور عازار، فاجتهد أن يزيل الحدود والسدود بين أبناء الوطن الواحد. والأمة الواحدة، بعمله الدؤوب وتركيزه على أساس ما يجمعها بعضها إلى بعض أكثر مما يفصلها عن بعض.


فآمن بأن البعد جفاء، والجهل رديف العداء، والمرء عدو ما جهل، فالإنسان الحر هو الذي يستطيع أن يرحل إلى عمق الحضارة ومبادئها الإنسانية. وهو ابن العقيدة التي قال مؤسسها:"إن لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرّة فحرّيات الأمم عارعليك".


هذه العقيدة التي ترنو أبداً إلى الثورة الفكرية والاجتماعية السياسية والعقائدية، فتغير مفاهيم النظام القديم كله لتستبدل به نظاماً جديداً، يقوم على احترام إنسانية الفرد وحريته، لأنه كان يعتبرها دفّة الخلاص والنجاة من الغرق والفناء، وأفضل سلاح للإنسان ضد نفسه في أزمات مصيره الحاضر.


نعم هكذا كان منصور عازار، وهكذا آمن، ولهذا عمل في جموحه الثقافي والفكري، وفي جموحه العقائدي، لصهر هذه الفلسفة، التي آمن بها في ناحيتها الثورية والبناءة ليس إلا.


كان منصور عازر شمولياً في إنسانيته، وهذا الشمول الإنساني كان ينبع أولاً من داخله الذاتي، وثانياً من عقيدته التي آمن بها. كيف لا وقد بذل مؤسسها حياته في سبيلها ما يذكرنا بقول بولس الرسول: "الله أحد والوسيط بين الله والناس واحد. يسوع المسيح من حيث هو الإنسان،، بذل نفسه فداء لجميع الناس".


عاش منصور عازار علمانياً مؤمناً برّبه ودينه ووطنه وأمته، وآمن أن الأيان المؤمنة بالله، لا بل كل الأديان، مدعوة إلى التعاون بين بعضها البعض، فالدين هو العلاقة بين العابد والمعبود، والإنسانية هي علاقة محبة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وما الذي يغير ذلك. مذكراً بقول الرئيس الأميركي الرابع توماس جيفرسون:"ماذا يغيرني إذا قال جاري أن أؤمن بالله، والثاني قال أنا أؤمن بإلهي، والثالث قال أنا لا أؤمن. فلا هذا يسرق جيبي ولا ذاك يكسر ساقي، أعطه الحرية ويكون مؤمناً أكثر منك ومنّي".


هذا هو منصور عازار، من "مكتب الدراسات العلمية" إلى مجلة "المنبر" إلى مجلة "تحولات"، كان بحد ذاته المنبر والرئة التي تنفس منها العديد من الكتّاب والمفكرين والباحثين، كان "الثابت والمتحول" (بالإذن من أدونيس).


لم أنسى هذا الرجل الثمانيني والتسعيني، وقد منعه الأطباء عن الجهد والتعب، عندما كان ينزل السلم من بيته وقد حوله إلى ندوة علمية إلى قاعة محاضرات ليقدم الحضور والمؤلفين والكتّاب، وكأنه يعيش فرح الأبد، ثم يعود ليصعد هذا السلم ويستضيف الجميع في دارته، وإلى مائدته، وينظر إلى كل واحد منهم، كما ينظر المحب إلى محبيه مذكراً بقول القديس اغوسطينوس في اعترافاته:"لا تستسلمي  يا نفس إلى الأباطيل التي تصمّ أذن قلبك! ارجعي! إنك تجدين راحة تامة حيث لا يعرف الحبيب هجراً من قبل حبيبه إلا إذا تخلى هو عنه".




آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net