Tahawolat
 بعد اختمار العناقيد عادت الأطياب إلينا عبر الأثير برسائل توهم انها آخر الرسائل وقد ظهرت بخطوط تكمل ثورة تحدّيها باحتراف جديد ابتكرته ولم تعرفه طباعة الكتب من قبل. فهي لم تنقل خطوطها كما هي، فحسب بل ابتكرت لها صياغة شبيهة بالصياغة المسرحية للشعر التي هي من ابتكاراتها ايضاً.
"آخر رسائلي"، بغلافه الأنيق لا تظهر تجاعيده على أوراقه الصفراء، فداخله يحمل وجهاً جديداً للتمرد بعنفوان المرأة المعذبة الصامدة بكبريائها. هذه هي نسرين كتلة نار يلفها الصقيع فتنسج من وحشتها وشاحاً يغطي عريها وترتدي ذاتها معطفاً يختفي العدم في دفئه.
وتمردها الجديد لا تحدُّه علامات في الارض ولا في الفضاء، لأنه تمرّد بالمطلق موزّع في مطارح حميمة وفي الصمت، وفي الظل الهارب في العراء.
أفكار مشبعة بالرموز ندر طرحها في ديوان شاعرة من الطليقات الواعدات. فرموزها تنساب في صفائها كقطرات شلال يهويك رذاذه وينعشك حتى اثناء هبوب عاصفة. وهي حريصة كل الحرص على ان تأتي عباراتها سليمة فلا تقول تحممت بدموعكَ، بل قالت استحممت على الرغم من أنف نعيمة في دفاعه عن جبران. حتى الكلمة العربية المبتكرة التي لا تتناغم مع الوقع المسرحي الموسيقي الفضفاض فإنها تهملها لتلجأ الى الأفضل منها وقعاً فتكتب:
(هل حاولتُ يوماً ترداد هذه الكلمات). فالترداد وجدته أطرب وقعاً على اذنها من الترديد الذي حرصت أن تبقيه بين قوسين، لأنه فصيح سليم ايضاً. وعندما تبحث في الأنا مع الربيع الحزين المجروح وأزهار تنبت في الخريف وفي انقلاب المقاييس والأعراف وتمجيد الخالق لكل ما هو معطى وممنوح ومع الأزهار البرية والوديان والسواقي. تثير انتباه القارئ بشطب الوديان المحكية بعد أن ترفع فوقها كلمة ( الأودية) بالفصحى قبل أن تكمل معزوفتها وتقول:
إنه الحب. الحب قولبها وجعلها امرأة. هكذا تشد القارئ بغريب المفاجآت وهي توشّح كتابها بأقفاص تأسر فيها الكلمات كأنها تخاف أن تفلت منها. وتوشّيها بالعلامات وبرسوم تبحث عن ملامح غريبة ضائعة بين مدادها ووريقاتها الصفراء: ملامح أكلها الصدأ / وفي العراء هائمٌ يبحث عن كفن.. / لأن شبح الموت لن يغيب ولن يوقف دورانه.
نسرين التي تبدو أكثر عنفاً في ديوانها "زمن العناقيد"  نجدها تسرّب نقمتها  في "رسائلها" بردّات فعل توهم بضعف الأنثى واستجدائها واحياناً بالبكاء الصامت والنحيب. فالتجاعيد. تجاعيد الزمن هي :
 دموع امرأة / مختبئة وراء وجهها الشاحب / تجرُّ ايامها / تتكلَّم موتها / تمشي مثواها الأخير /
تلملم انوثتها كل صباح / توضّب رجولته... / تكويها سترة... / تحضرها قهوة...
هذا الإيهام، وإن خدّرته سهام الحب، نجده يصمد بالهرب مع العاصفة حتى ابعد الحدود:
تركض الأرض / تهرب / ترقص ثم تسجد لبهاء سكينة عينيكَ / أحبُّكَ حجارة عتيقة / من عصر الفينيق / تحملُ عتقها /... نطق قلمي حروفاً خرساء../ ــ درب الهرب خرساء ..
وهل نسأل كيف سرّبت الشاعرة رسالتها الى الرجل الشرقي "المتربع على عرش الأنانية والتسلط" وكيف تعاقبه بتشويه صورته في المرآة المهشمة وتقمّصه بصراخ "امرأة معذبة" محرّمٌ عليها أن تحرق الألم في داخلها والألم إذ يستجيب لصراخه في ارتداد مريب. يتطاير اشلاءً ويعلو دخانه ليصل "الى قمّة الكون". فأنت ايتها الأنثى المعذبة" ممنوع ان تثور فيك كل النساء النائمات.. اخفضي صوتك ِ/ ستوقظين عنترة... / وكل رجل شرقي {عتعيت} متربِّع على عرش الأنانية والتسلط / اخفضي صوتك يا امرأة عربيّة / وابكي جنسك على فراشك "بِصَمْتْ". واذا زرعت بذاراً في رحمك عليك أن تموتي "بهدوء" كي تحييه لأنك لست مثله جديرة بالحياة.
وفي وداع عذابها تجد مركبها الامين في حزن عينيه يحملها بلا أشرعة الى بلاد لم تُكتشف بعد.
رسائل تجاعيدها زئبقية اللون والملمس. والكتاب بدفتيه يأخذك في سرابية الفضاء ومطبّاته. والحزن وحده وبوجوهه المتعددة يشكّل اللحمة والسدى لكتابها لأنه يشبك بين رسومه وشاراته وتعرجاته وتنوع عباراته وتشطيباته  (شطائبه). انه لون جديد قلب الطاولة على اصول الكتابة والطباعة لشاعرة أتقنت لغتها وعرفت أسرار لعبتها فسخّرت لها مخزوناً ثقافياً صقلته وطوّرته بتجاربها وبممارسة مهاراتها على خشبة المسرح. ثمّ خطت خطواتها بجرأة وتحدٍّ واستفزاز بالكتابة والرسم وكل فنٍّ من الفنون الجميلة تطاله يدها. ومع التمرد وحكايتها مع تأنيث الكلمات والعبارات فحدث ولا حرج. فبعد هبوب رياح الخمسين وهي جالسة على كرسي فارغ في المقهى / وحيدةً أتتْ ووحيدةً تمضي / لأنها تحولت الى لقمة سائغة ابتلعتها الاساطير. هي ذاتها. شجرة الزيتون الأصيلة. الفرس العربية الأصيلة. الجمع المؤنث السالم. هذا الجمع العظيم بأية طينة جُبل؟ وبأي يد عظيمة جُمع؟
ومهما تجنّى هذا الجمع على الذكورة. فإن الحبّ. وحده الحبّ. مؤهلٌ أن يجعلها امرأة.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net