Tahawolat
لم تمت الإيديولوجيا حتى تُولد مِن جديد. تلك أبرز البديهيات التي يمكن أن تواجه الدلالة التي ينطوي عليها عنوان هذه المقالة. لكننا آثرنا هذا العنوان بعد ما مرّ وقتٌ صار فيه الكلام على هذا المفهوم أدنى إلى منقصة فكرية. فحين غزت موجة النهايات فضاء الفكر العالمي قبل نحو عقدين من الزمن كانت الإيديولوجيا أول الضحايا. سوى أن الجدل بشأنها ما فتئ حتى عاد إلى حيويته القصوى، مع دخول العالم ولا سيما عالمنا العربي والإسلامي طوراً متجدِّداً من احتدام الهويات والعصبيات والأفكار. لذا يصير كلام على عودة هذه الكلمة "المذمومة"، ولكن المكتظة بالسحر، كلاماً في أمر اليوم.
والذي حَمَلنِي على طرق هذا الباب أنني تذكرت قولاً للفيلسوف الفرنسي ريمون أرون، يطابق في حدِّه الأقصى صورة العالم في محنته الحاضرة. يقول أرون: تكاد صيغة "الإيديولوجيا هي فكرة عدوي" أن تكون أقلَّ تعريفات الإيديولوجية سوءاً...
لقد اخترت وأنا أتهيَّأ لمقاربة الأيديولوجيا، ألاَّ أبدأ من سؤال غالباً ما يرفع منسوب الضجر قبل كل قراءة.. والسؤال هو: ما معنى الأيديولوجيا؟
حين يتناهى الى السامع سؤالٌ من هذا النوع يأخذه تفكيره على الفور إلى مساحة من الأجوبة، تكتظ بما لا حصر له من التعريفات والأوصاف. ثم لا يفتأ هذا السامع حتى يتنبَّه الى أن ما سمعه هو أدنى إلى سؤال بديهي يتغيَّا جواباً صار بديهياً أيضاً مع الوقت. وساعتئذٍ لن يجد نفسه في حاجة إلى التعرُّف عما هو معروف. فما هو معروفٌ معاشٌ، وكلُ معاشٍ معقولٌ ومدركٌ، وإن تباينت رُتَبُ تعقُّله وإدراكه بين حال وحال.
كيف لنا أن نغادر إشكاليات المفهوم الذي ارتبط بالإنسان ارتباط الإسم بالشخص، أو تعلُّق الماهيات بوجوداتها.
لو أنَّ لنا أن نأتي بتمرين لفظي يدلّ على مفعول الكلمات في الناس وفي الأشياء، لأَتَينا بالأيديولوجيا ولَكَانَ لنا بها مثل عزَّ نظيره في عالم المفاهيم. لكن لسنا على اليقين من أننا بإزاء الأيديولوجيا أمام مفهوم اعتيادي. فلئن كان كل مفهوم على ما نعلم هو وعي بالقوة لا يغادر حصنه الذهبي إلاَّ بإرادة تحيله إلى مهمة في الواقع، فالأيديولوجيا هي الوعي والإرادة في آن. وهي الفكرة ومجال استعمالها وتجسُّدها معاً. لا يفترقان ولا يتباينان، ولا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يتأخر. فالمفهوم من منطقة الأيديولوجيا هو المهمة وأفكارها. هو الممارسة وخطابها. تنشأ الكلمات من حقل الأفعال ثم لينمو هذا الحقل ويزدهر بفعل تلك الكلمات. المسألة هي إذن، مسألة الفاعل الذي هو الإنسان، فإنه هو الذي يحفر في الحقل بواسطة الكلمات، ثم ليعود الى الحقل فيسدِّده ويوعِّيه ويرشده، أو ليضيف ويعدِّل من لغة الفاعل. وذلك في رحلة لا تنتهي إلاَّ بانتهاء أفاعيل كل قضية من القضايا.
وإذا كانت خصيصة المفهوم، كما في الشائع، تكمن في ما يستدعي ظنيَّة الدلالة عليه، الأمر الذي يوجب الاختلاف والتباين وتكثُّر الرؤى في شأنه. فالأيديولوجيا لا تُرى إلاَّ في كونها استظهاراً سارياً على ثنائية الظن واليقين. ذلك بأن الإيديولوجيا فكرة وحدث في آن. فإذا كانت الفكرة مبعثاً للظن، فالحدث بما هو وجود عياني ومتشخص هو مبعث لليقين. فكيف إذا كان الحدث والفكرة متحدين في مجال واحد. والأيديولوجيا إذاً، فكرة حادثة، وبصفة كونها كذلك، فإنها تثير الأفكار كلما طال أمد اشتغال الفاعلين في حقولها.
هل يعني هذا تعذُّر التوصيف أو بلوغ معنى محدد للمفهوم؟
نقول: إن كل صفة تكتسبها الإيديولوجيا تتأتى من فعلها. ولا تتحصَّل الكلمات المؤسِّسة لأي خطاب إلاَّ بفعل التبادل بين النَّسق والفعل. بين البنية والحدث. بين خصوصيات الحيِّز الاجتماعي والفاعلين فيه. إن الكلمات على - ما يبين جماعة الهيرمينوطيقا المعاصرة - تعدُّ جزءاً من البنية بوصفها قيمة اختلافية، وهي بهذا المعنى ليست سوى افتراض دلالي، كما تُعدُّ جزءاً من الفعل ومن الحدث. وبهذا فإن آنيتها الدلالية تكون معاصرة لآنية العبارة المقدرة للتلاشي.
تتميَّز الأيديولوجيا في كونها متعددة الصفات كفاعلها، أي الإنسان المتحيِّز. كأن يُقال مثلاً هذا قول ايديولوجي وذاك قول إيديولوجي، لكن لكل من القولين موقع مختلف ومراد مخلتف. ولقد كان من أبرز إنجازات كارل مانهايم أنه أدرك هذه المشكلة فراح يوسع مفهوم الإيديولوجيا إلى النقطة التي أصبح معها يضم الشخص نفسه الذي ينادي بهذا المفهوم ويحمله الى نطاق الاحتدام نفسه. بمعنى أن المفهوم صار هو الشخص الذي يمارس عملية الفهم. أي ذاك الذي يختبر فكره وشعوره وشغفه بالأمر، إلى الحد الذي يمتلئ بكلماته ويقول: أنا هو الإيديولوجي أنا هي الأيديولوجيا. سوف يدحض مانهايم بقوة وجهة النظر القائلة بوجود متفرِّج مطلق، شخص غير متورط في اللعبة الاجتماعية، ويعتبرها ضرباً من المستحيل. فأن نصِف شيئاً بأنه أيديولوجي، ليس أبداً أننا نصدر حكماً نظرياً مجرداً، بل إن وصفاً كهذا ينطوي على معاينة اختبارية، لممارسة معينة، أو لرأي يتحرك في الواقع تقدمه لنا هذه الممارسة. فكل منظور يتم التعبير عنه من زاوية الناظر هو فعلٌ أيديولوجي بشكل ما. ويذهب جيرار ماندل ((Gerard Mendel في تفسيره لرأي مانهايم، الى أن الشخص الأيديولوجي متعدد. ذلك أن كل إنسان هو في الوقت عينه استيهام وإدراك. إنه حالة مركبة من ثنائيات متعاكسة متباينة في آن، لاعقلانية وعقلانية، لاوعي ووعي. حياة على أرضية من الموت. ذاتية جذرية وضرورة موضوعية، حب للذات وارتماء في أحضان الموضوع، فطرية واكتساب، مصير وتشكُّل، وكذلك استلاب وحرية.
والأيديولوجيا هي كذلك، متعددة كأحوال فاعليها. لذلك يمكن القول إن فلسفتها تقوم على حضور يجمع بين البساطة والتركيب. وبين التناقض والتكامل. وهي متعالية متفرِّجة لكنها متعيِّنة ومتحيِّزة في الآن نفسه. مع هذا، لا يمكن الحكم عليها في منطقة المتفرِّج المتعالي من دون أن تُرى صورتها في المتعيَّن السياسي والاجتماعي. ثمة إذاً، وصل لا ينفك بين المتعالي الذي هو المفهوم، والمتحيِّز الذي هو محل الاختبار للحركة والتجربة. ربما هذا هو الشيء الذي حمل كثيرين من المفسِّرين إلى نفي الشائعة القائلة بوجود مفهوم بسيط بالإطلاق. ومدَّعى هؤلاء، أن كل مفهوم يملك مكوِّنات معينة ويكون محدداً بها.
الإيديولوجيا ظاهرة فلسفية
تمكث الإيديولوجيا كمفهوم على مقربة من هذه المقاربة الفلسفية. ذلك انها من أكثر المفاهيم التي تنتجها الفلسفة، جمعاً بين البساطة والتركيب. فمن ناحية كونها مفهوماً بسيطاً ليس للأيديولوجيا مصداق مادي موضوعي بعينه. فالمفهوم البسيط ينطوي على استعدادات كثيرة لتوليد مصاديق واقعية لا حصر لها. وأما من ناحية كونه تركيباً فلأنه يحمل من الصفات والمعاني ما يجعله حاوياً لوقائع وظواهر تبدو حال ظهورها متباينة ومتفاوتة ومتناقضة بصورة مذهلة.
لذلك لا تُعرف ماهية الأيديولوجيا الا بالتثنية. أي بالمقابلة بين شيئين وأكثر. أي باتحاد الكلمات والأفعال إما على شكل تصور في الذهن، فتصبح وجوداً بالقوة، لا تفتأ الإرادة أن تتدخل لتنقله بشغف حميم إلى وجود بالفعل. وإما على نحو التمثيل لوجودات واقعية تحمل على التفكُّر بأمرها.
ولأن الأيديولوجيا بسيطة لا تُدرَك إلاَّ بالتركيب، فهي عالم صلاتٍ وعلاقات. وإذن، فهي بهذا المعنى مولود من هذا العالم ولا تقوم إلاَّ به. أي عبر تفاعل الأجزاء الحية لذلك العالم. بما يمكن القول إن ثمة شَبَهاً فلسفياً بين الأيديولوجيا والعلاقة. إذ تبعاً لقاعدة البساطة والتركيب يبدو المفهومان وكأنهما يستويان على نصاب واحد. فالعلاقة لا تحدث إلاَّ بين حدَّين وأكثر. وإن لم توجد الحدود فلا وجود لشيء اسمه العلاقة. ان العلاقة - على ما تنظر الفلسفة - من أوهن مقولات الفكر بل إنها الأكثر زوالاً وتبدلاً. ومع ذلك فهي موجودة مع كونها غير قائمة بذاتها. بها تظهر الأشياء متحدة من دون أن تختلط، ومتميزة من دون أن تتفكك. وبها تنتظم الأشياء، وتتألف فكرة الكون. إنها تقتضي الوحدة والكثرة في آن. هي واحدة، وكثيرة بحكم خصيصة الإلفة التي حظيت بها بين البساطة والتركيب. على صعيد الفكر تربط (العلاقة) بين مواضيع فكرية مختلفة وتجمعها في إدراك عقلي واحد، تارة بسببية، وأخرى بتشابه أو تضاد، وثالثة بقرب أو بعد. وعلى صعيد الواقع فإنها تجمع بين أقسام كيان، أو بين كائنات كاملة محافظة عليها في تعددها. وإذ يستحيل تقديم توصيف محدد للعلاقة حيث لا وجود مستقلاً لها، فهي كالماهية من وجه ما، لا موجودة ولا معدومة إلاَّ إذا عرض عليها الوجود لتكون به ويكون بها. لذلك سيقول عنها أرسطو، إنها واحدة من المقولات العشر، وهو عَرَضٌ يظهر في الكائن بمثابة اتجاه. إنها صوب آخر، تطلُّع، ميلٌ، مرجعٌ، ويقتضي دائماً لظهوره وجود كائنين متقابلين على الأقل. صاحب العلاقة وقطبها الآخر، ثم الاتصال بينهما.
لو قُيِّض لنا أن نرى الى الأيديولوجيا بما هي كينونة فلسفية لاخترنا لها  هذا التعريف: إنها علم بممارسة الأفكار. أو – بتوضيح أوسع قليلاً - هي العلم بجدلية ارتباط الأفكار المحدِثة للأشياء، بالأشياءِ المحدِثة للأفكار. أما مجال عملها فيمكث على خط العلاقة الذي يصل الفكرة بالحدث. والحادث بالفكرة التي يعيد صنعها في نشأة أخرى. أما خط العلاقة ذاك، فيشتد إو  يرتخي، ينقبض أو ينبسط، تبعاً لحركة جوهرية تتفاعل فيها الإرادة المنتِجة للفكرة بإرادة الموضوع الذي تقصده تلك الفكرة لتغيِّره. فيتحصَّل من ذلك خروج الظاهرة الأيديولوجية إلى ميدان الحركة والصراع.
المعنى والاستعمال
يصعب فهم معنى الأيديولوجيا بمنأى من طرائق الاستعمال التي يأخذ بها الناس وهم في غمرة الأحداث، أو حين يمضون بشغف الى كشف هوياتهم في الزمان والمكان المحددين.
كان فيتغنشتين يردد قوله الأثير: لا تسأل عن المعنى، إسأل عن الاستعمال. وهو في ذلك يسعى إلى انتزاع المعنى عن طريق الاستعمال. فإن معنى الأيديولوجيا بهذه الدالَّة يمكث في إجراءاتها الحادثة في حقول الاختبار. من خلال الاختبار تستظهر الكلمات معناها، حيث تغدو في حقل التحول الى وقائع كينونة ضاجَّة بالحركة. ففي اللحظة التي تستحيل فيها الكلمات ظاهرة في الواقع فإنها تخلع رداءها القديم وحروفها المنصرمة. ليقوم بعدئذٍ أولئك الذين تلقوها سمعاً وطاعة بإلباسها حروفاً جديدة وكلمات جديدة. فالفكرة ما إن تتمأسس حتى تفقد كلماتها تلك الحيوية اللازمة للطور الجديد الذي حلَّت فيه.
لا تهتم الأيديولوجيا بالتوصيف. فهي إن فعلت ووصَّفت المشهد فسترى نفسها وضدها في آن. لذا فهي تؤثر اجتناب الرؤية الدائرية للزمان والمكان الذي تعمل فيه، لئلا يلتبس عليها الأمر وتقع في الاضطراب. وإذا حصل ووقعت في مثل هذا المحظور فقد تستغرق في سوء الرؤية، فيلتبس الخطاب ولا تعود العمارة الأيديولوجية بقادرة على ضبط توترها الداخلي، أو صون حياضها المقدس من استباحة الخارج.
من طبائع الأيديولوجيا انحصار كلماتها داخل لغة "الما يجب" لا داخل لغة الـ«ما هو حاصل بالفعل». انها لغة‌ التوكيد على الـ"ما ينبغي أن يكون" لا على الكائن بما هو كائن. ومع ذلك فهي تسعى لتستقرئ الموجود بما هو موجود من أجل ان تصدر أحكامها. وبحكم طبيعتها الجامعة بين حكم القيمة وحكم الواقع، فإنها تستخدم العقلانية العلمية التجريبية كوسيلة لإصدار الحكم على نحو أفضل.
مثل هذه الممارسة ليست ناتجة بالضرورة من وَهَنٍ مفترض، في تعقيل ثنائية الواجب والواقع، أو من قصور ذاتي في إدراك الخارطة التفصيلية لمجالات الاختبار. فالمعرفي متضمِّن، غالباً في إواليات الممارسة، لكنه يختفي تحت ضغط الرغبة في إيصال لغة "الما يجب" إلى التحقُّق الفعلي داخل علاقات القوى. إن المعرفي (العقلاني العلمي التجريبي) هنا ينطوي انطواءً إلزامياً ضمن عمليات التخطيط المدروسة في الممارسة الأيديولوجية، فلا يفارقها البتة. ذلك أنه يتعلق بتلك الممارسة تعلقاً ذاتياً اتحادياً بوصفه جزءاً منها، ونسقاً فاعلاً في عمليات التوظيف والاستعمال. وفي سياق اشتغاله على ترسيخ منظومته الفكرية والثقافية لإبطال حجة الخصم، يقدم الفاعل الإيديولوجي العامل المعرفي العقلاني، بما هو مادة للتوظيف، على حكم القيمة المجرد عن البرهان. وذلك ضرب من «المواجهة بالحيلة» على طريق إفحام الخصم تمهيداً لتحقيق الغلبة عليه. حتى لتبدو الصورة وكأن المعرفي هنا يسبق الأيديولوجي، ولو أنه على الحقيقة، يذوي فيه، يفعل وينفعل في نطاق الممارسة. بهذا الفهم فإن أسبقية المعرفي هو أمرٌ بديهي لأنه من ذات الأيديولوجي ويتبوَّأ الرتبة الأولى في مدارجه المتعددة، اللاَّمتناهية. والمعرفي أيضاً، حاضر ومستدرك في الرتب والمدارج جميعاً، فهو سيَّال فيها من غير انقطاع. ففي كل آن يمارس الأيديولوجي لعبته تكون ممارسته معقولة. أي ممارسة محكومة بمعايير الحساب العقلي وميزان الخطأ والصواب. وكل معقول معروف من جانب العاقل، متَّحد به اتحاد الوسيلة بالغاية. ولو صدف أن حلَّ الفساد في القضية التي هي حقل الاختبار، فذلك لا يعود إلى الانفصال بين المقدمة والخاتمة، وإنما إلى سوء التقدير في الموازين، وفي طريقة جمع تركيب وتوليف وتوظيف العناصر الموصلة إلى الغاية.
حين يكمل الأيديولوجي ولادته، يكون المعرفي قد تحيَّز واتخذ له المحل المناسب في تلك الولادة. لقد تحوّل المعرفي (العقلاني) الى قابلية خالصة للتوظيف. فلن يعود بمقدوره أن يتحرك إلاَّ كظلٍّ للأيديولوجي. فالعلاقة بين المتقابلين ضمن هذه الحيثية هي علاقة اتصال الجزء بالكل، والتابع  بالمتّبع، وكذلك علاقة المحتاج إلى الغني.
الصـدق والكـذب
هل نستطيع الحكم بالصدق أو الكذب على الأيديولوجيا؟
يمكن ذلك بحيثيةٍ، ما، ولا يمكن بحيثية ما، أخرى...
قبل أن تمارس الأيديولوجيا ظهوراتها لن يكون بوسعنا الحكم عليها إن كانت كاذبة أو صادقة، عقلانية أو غير عقلانية، ذكية أو حمقاء، كاشفة للحقيقة أو حاجبة لها، مزيفة للوعي أو منتجة لوعي واقعي وحقيقي. في العالم الأيديولوجي كل حكم صادر فإنما يصدر من ثنايا التحيُّز التي تضج بحيوية الفاعلين. فهؤلاء الناس هم الذين يخلعون على الأيديولوجي، والظواهر الأيديولوجية صفات الحسن والقبح، او الزيف والحقيقة، او العلم والجهل.
وسنرى في منطقة التحيُّز السياسي تحديداً كيف يُحكَمُ على الأيديولوجيا بالصدق والكذب تبعاً لفشلها ونجاحها. فعلى قاعدة الفشل والنجاح تجري الأحكام، بوصفها تقريراً إخبارياً عن قضية غادرت كونها بنية ذهنية لتحلّ في مختبر التجربة.
ليس بالضرورة حين يتقرر الحكم بالصدق مثلاً على قضية منتصرة، أن تكون نتائجها شرعية. أو أن يكون الفاعل الأيديولوجي في هذه القضية، فاضلاً أو حكيماً. المسألة هنا تدور مدار منطق القوة وميزان الغلبة. لكن على الأكيد فإن الغالب الأيديولوجي استطاع أن يوظِّف مكوِّنات المفهوم في إطار استراتيجية مواجهة من أجل الوصول إلى الهدف. ففي فضاء الأيديولوجيا توجد مراتب استعمال لا حصر لها. فقد يستطيع القوي في مرتبة كونه قوياً أن يعطي لمساحات الكذب في خطابه الأيديولوجي زخماً يجعلها أكثر قابلية للتصديق.
وهكذا فإن المسألة تتعلق بالسؤال عن كيفية توظيف الأفكار والأشياء وتيارات الحركة الاجتماعية باتجاه المصلحة. وبين البداية وبلوغ الغاية يظهر الجهاز الأيديولوجي ليحدد تلك الاستراتيجية. في هذا يمكن القول، إن معنى الأيديولوجيا سيتخذ سياقاً أكثر عمقاً، ليتشكل على المصلحة. وما سيلُ الخُطَب والأفكار والكلمات سوى المخطط المعرفي الذي سيمضي الفاعل الأيديولوجي على هُداه نحو المصلحة. سواء كانت هذه المصلحة آنية أو منظورة، أو أنها مصلحة عليا يتوقف عليها مصير مجتمع ودولة وأمة.
الأيديولوجيا بمعنى أكثر تحديداً، هي فن صناعة الأفكار المؤدية إلى المصلحة.
لذلك فكل منا ينطوي على فاعلٍ أيديولوجي وهو يختبر الحياة. او حين ينخرط في صراع من أجل الاعتراف. فلا مناص للناس من أيديولوجيا تعصمهم من التيه، كما لا مناص للناس في كل حين من أيديولوجي برٍّ أو فاجر.


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net