Tahawolat
 
عندما بدأتُ بقراءة رواية "مُنايَ" في صفحاتها الأولى لفتني قول المؤلف فايز غازي "إذا ارتأتِ الأقدار شيئاً فلا بد منه". كدتُ أتوقف لمعارضتي سلطان قدر. فلماذا أضيّع وقتي في تكريس وهم تسلّط القدر، يعبدُه شعبنا وهماً اخترعه خلفاؤه وسلاطينه ورؤساؤه، كقدرٍ مقيم، فصدّقه الضعفاء حتى ألّهوه وأبطلوا فعل العقل والإرادة منتظرين كعكاً مبلولاً في زوارق البوسفور؟
تحاملتُ حتى أنجزت، وقراءتي الأولى لـ"مُنايَ" هي واجب مهني لكوني مدققاً ناقداً لمنشورات دار أبعاد قبل صدورها. حمدتُ العاقبة، على قول أجاويد الموحدين، ففيها عِبرة غنية للمطّلع، ولشبابنا خاصة الذين تريد الرأسمالية الغربية الفاجرة إفراغَهم من معاني قيمنا لتجعلَهم طبولاً جوفَاء وصنوجاً ترنّ. يلاقيها في المقلب الآخر للتجهيل نسقٌ ديني تهافتت اوهامُه حتى فَرُغَ السائدُ منه من معنى التوحيد الذي أسسته سوريا للعالم؛ فها هي يُستسقى دمها مجدداً فداءً لأجله، إسحاقَ جديداً، ربما حتى يأذن الله بكبش بديل.
أقتصرُ هنا على أفق فلسفي فكري طرقته "مُنايَ"، فما قد أقوله في مضمون الرواية الآن قلته في المقدمة التي كتبتُها بدافع الحب، للحب اولاً بوصفه الكنهَ الأروع للحياة البشرية السويّة، وبدافع التسامي بالحب ترفعاً عن بدوية عربية مادية تسافلت بنا انحطاطاً حتى باتت اعمارنا أعمارَ ذات دوران حول مضارب القبيلة. آن لنا اليوم ان ننفض هذه البداوة وأن نتذوّق الروح التي غطتها الرمال طويلاً في بلادنا فنقرأ زينون، أحيقار، لوقيان، سقراط، فيلون، ديك الجن الحمصي، المعري، إخوان الصفا... وتتابعاً إلى رواية "مُنايَ"... نهجَ فكر صديق، سيرورةَ أدبٍ صديقٍ يبني مجدَ الإنسان وكرامته ودينَه الحق، هو خطُّ فكرنا، نُسغُ روحِنا المحيي الذي لن يُطمَى برملٍ غريب ولن يزول.
أولُ قصة حب دوّنَتْها يدٌ بشرية كانت على طينِ سومر جنوبي العراق هي لبيرم وتسبين، قبل سبعة آلاف عام، وهما اول عاشقين بشريين تأرّخ حبُّهما وفداؤهما، نقلها شاعر روماني بعد ثلاثة آلاف عام من حصولها.
هكذا لم يأت بطلا "مُنايَ" في القرن الحادي والعشرين بجديدٍ، إن أحبّا. الجديد المستهجَن في "مُنايَ" هو غرابة الأعراف التي يحكمها إلهُ تمر نسجدُ له إذا اقتضت مصالحُنا، نأكله عندما تجوع بطونُنا، نستغفرُه عندما نشبعُ ونشتمُه عند انجرافِ الغضب. هذه الأعرافُ التي لم تحاكِ قلبَي بيرم وتسبين قبل الاستلاب العربي. حاشا "ألـ.." أن يكون إله تمرٍ. و"ألـ.." هو أول اصطلاح لمفهوم قوة النظام الكوني الحقة.. أما لفظة الله فهي إضافة عربية غير موفقة. استبدال الأصل الميثولوجي بكبير أصنام العرب ليؤمن البدوي ويصدّق. وما آمنَ قطّ. بقيتْ قلوبُ الأعراب غليظة على الإيمان، حسب حديث شريف. بيرم وتسبين جرفهما الحبُ فانخرطا بروحَيهما الجميلتين حتى كانا شهيدَي حب. بطلا "مُناي" توّهما صراعاً بين قلبٍ لاهفٍ وعقل بارد. وأفضلُ ما يأتيه هو عبادةُ السلف الصالح، وكلُ السلفِ كان صالحاً لعصره لكنه غيرُ صالح قط لعصرنا. فقبِل بطلاها نحرَ قلبيهما لأجل تجربتي نفاق تحت يافطة زواج تقبله العائلة والطائفة. لكنّ حكمة الحياة شاءت أن تلقّن البطل أمثولة مروءة لمصلحة قدسية الأنثى وقوة شعورها بأن كمَنَ لها حادثُ سيرٍ أدّى إلى شللها فاستفاق الحبُّ متأخراً متكاسلاً نادماً.
والحب، يا بطلَي "منايَ"، من معراج ضوئه:
نارُ الشبيبة في الشباب شبيبةٌ/ وَيْلاهُ من شُبَّانِها أن ينطفُوا (نيقولاوس الصائغ – الكامل)
وعذرتُ نفسي في هواكِ لأنّني/ أوردتُها في الحبِّ أعذبَ مَنهَلِ (ابراهيم اليازجي – الكامل)
لقد جُلَّ هذا الحبُّ حتى كأنَّه/ سرابٌ تراءَى لامعاً لِعَيانِ (ابراهيم الرّياحي – الطويل)
هذه لُمَعُ حبِّ كما لمعتْ لبطلَي "منايَ" حيناً..
الحب لا يُسيَّس، ولا يُديَّن، ولا يُطيَّف... لأنه شأنُ نفس أو روح، وبما هو هكذا أجلُّ بكثيرٍ من الأديان والساسة والطوائف، هو ما يَقشِرُ كلسَ روحِكَ/أو روحِكِ وصدأَها لتستفيقَ طفولةَ براءةٍ وعفويةَ ضوء.. أنَّى لكلّ الركام الوهمي من سياسات وفلسفات وأديان وسراب آلهة واعتقادات أن تأتي بهذا من دون حبّ..
الفكرُ السياسي والديني الطائفي الحاكمُ نظامَ حياتنا الفوضوية هو فكرُ انفصامٍ اجتماعيٍّ يعمّق الانشطار الذاتي العام لمجتمعنا في سجلات نفوسِنا المهترئة، يقدّس الذات الخصوصية، ويشيطن الآخر لتشريع سفك دمه وتحليله؛ يقدس ذات القائد المفروض بمعادلة أكثرية او باتفاقات تسوية دولية إقليمية. دائماً الخارجُ وحتى الآن يُسمّي رؤساءنا.. وما دِمنا عبيداً في الخارج يُصْنَعُوْن، فقط لتكريس فقداننا إرادتنا وقدرتنا على إدارة حياتنا وتخطيطها والاعتياد على الانقياد للأكثر جهلاً وبداوةً في هذا العالم، بداوةً دينية وسياسية وبداوة تكنولوجية روحية.
للشفاء من الانفصام الديني والسياسي لا سبيل سوى الحكمة، والحكمة فعل العقل العام يجلوه تفاعل زمني طويل لمجتمع قائد ومؤسس للحضارة، كمجتمعنا، ومنه بِشارةُ خلاصٍ إلى بشرية عرجاءَ وعمياءَ لولا قلةٍ فدائية، تضيء برسالةِ كشفِها الموسومةِ بالحقائقِ سرمديةَ انتصارِ الحقّ العقلِ على الباطلِ الظُّلمة. حقِ النظامِ على التخريب الفوضى. هي مواجهة عقل نبي لمسوخٍ دهماءَ لم تنته. هذا بعضُ تأسيسنا الفلسفي للدين، الذي يدمّره اليوم إرهاب دموي باسمه. هي قلة رآها الفادي المسيح، ونحن في بَرَكة صوم وفصح، وهو أحد نماذج فدائنا لإتمام رسالتنا حضارياً وعالمياً في هذا الوجود، دأبُها وجودٌ مشعّ بالحب.
مثلاً ظلّ النظامُ السياسي والطائفي اللبناني يرفض ما يُسمى الزواجُ المدني ويعطّل تنظيمَ حقوق المتزوجين باسم التحريم زوراً، حتى كشفت الهيئة العليا لاستشارات وزارة العدل تنظيم القانون اللبناني المستند للأسف على قرارات المفوض الفرنسي خلال الانتداب، حقوق المتزوجين من طوائف عدة متباينة، والدين لا يتضمّن قط منعاً لزواج من طوائفَ عدة او اديانٍ عدة، لأنه واحد عند الإله الواحد، وهو أسبق على الطوائف وطغاتها. وهذا ما أكدته الدراسة القيمة للدكتور الباحث طلال الحسيني الصادرة الشهر الماضي عن دار الساقي.
مَن يغيّر، إذاً؟ الشبابُ، وحدَهم يُغيّرون. الشبابُ، في أرواحهم وعقولهم وإرادتهم، وهم سدى أي مستقبل.
أيّها الشباب المؤمن بالعقل النبي المواجه للضد الضال تعالَوا لنغيّر، وننقذَ الآن ما تبقى لنا من وطن، من شتات وطن وشعب قبل زوالهما!
وأنتم بالضبط مَن خاطبكم فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة على مدى العصور، المعرّي:
إن الشبيبة نار إن أردت بها/ أمراً فبادرها إن الدهر مطفئها (المعري – البسيط).
رواية "مُنايَ" قِنديلٌ في مدى الضوء وسِراجٌ في عتمة انحطاط لولا شموعُنا التي تُوقَدُ أرواحاً ودماءً وقلوبَ حب.
الصورة: الزميل هاني الحلبي متحدثاً
 
* كلمة ألقاها الزميل هاني الحلبي في حفل توقيع رواية "مناي" لفايز غازي في راشيا الوادي في 5 نيسان وصدرت عن دار أبعاد هذا العام.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net