Tahawolat

 
  غداة انتخاب امين المعلوف في الاكاديمية الفرنسية، استاء الكثيرون من الاحساس بالمرارة الذي ابداه الموسيقي المبدع الياس الرحباني، تعبيرا عن حسده من المجد الكبير الذي وصل اليه الكاتب امين المعلوف في مسيرته الادبية، بينما كان الرحباني قد فضّل في شبابه العودة الى الوطن واختاره مكانا للعيش وللعمل، وهو الاخ الاصغر للعائلة الرحبانية المبدعة، ذات القيمة الفنية الكبرى والحجم الذي لا يقاس في الابداع والتي مهرت القرن ببصمات اعمالها العملاقة والتي ملات الكون بشهرتها. فهل للملحن العتيد ان يبادل، غير اسف، العمود الثامن لبعلبك والشهرة العالمية لعالم ثقافي اصبح اسطورة بحدّ ذاته، مقابل السيف والبزّة تحت قبة الاكاديمية؟ ورغم كل الاسباب التي دفعت الياس الرحباني الى اعتماد موقف سلبي كهذا، يبقى واجباً عليه التزام بعض التحفّظات على تلميحاته التي لا تضارع، والتي يسوّقها مراراً وتكراراً حول اهل "الرحبانية" الكبرى، والذين ما زالوا متمسكين الى الساعة وبشجاعة قل نظيرها بالخيط المعلق بطائرة الورق التي تخرق عباب الفضاء بألوانها، متماهية مع الشمس بتموجاتها وانعكاساتها التي لا عدّ لها والتي ترتفع أعلى بكثير وأبعد بأشواط من قمة البرج الافيلي المنتصب في باريس.
 
لماذا أمين المعلوف وليس اي كاتب فرنسي ببساطة؟
  بالتأكيد، ان اللائحة طويلة باسماء المرشحين الفرنسيي الاصل للانتساب الى الاكاديمية الفرنسية والذين ينتمون الى الاوساط الادبية والثقافية. اوّلاً، هذا الاختيار يدلّ بوضوح على ان الاكاديمية العتيدة، وبتقاطع مع فرونكوفونية بالأحرى متعالية، ما برحت محافظة على اسس شمولية، عالمية جعلت فيكتور هوغو يقول: "لن تبقي فرنسية، بل ستصبحين انسانية؛ لن تبقي امّة فقط، بل ستصبحين حضورا عالميا دائما"؛ ثانيا، ان الاكاديمية تتمتع بدون ادنى شك باستقلالية في اتخاذ قراراتها وسلطة تامة لا يوجد مثيلها في الوسط الثقافي، هذا الاخير، الذي يرزح تحت نير فئة ممهورة بالخبث، ما فتئت تغذّي الادعاءات الاخطر ازاء كل كاتب يناهض سياسة الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، وخاصة ضد من يشكك بالمحرقة ضد اليهود، ضاربة بعرض الحائط كل حياد او كل رأي حرّ مغاير ومتمايز عن ادعاءتهم. ان درجة الاحتقار والاستكبار التي برزت حيال نعوم شومسكي، خلال زيارته الاخيرة الى باريس، وهو اللغوي الاميركي ذو الشهرة العالية، تعبّر كفاية عن تسلّط بعض السلاطين وغيرهم من المؤسسات الاعلامية التي برزت أكثر تزمّتاً ورجعية حتى من مضطهدي وحارقي الفكر في العصور الوسطى الاوروبية.
  ان نعوم شومسكي، الروائي الكبير، والمعروف بتهشيمه لصورة الهيمنة الاميريكية ورفضه للمثقفين الخاضعين للرأي الخاطئ، قد اعلن "قاتل الذاكرة" من قبل فيدال ـ ناكي عام 1987، لانه كان قد قدم لكتاب يعالج مسألة المراجعة التاريخية النافية، كتبه فوريسون. ومنذ هذه الجريمة، ما فتئ المضللون الموضوعون في خدمة التزوير التاريخي، يجيّشون انفسهم من اجل اغراق متواصل للاعمال التي ينتجها هذا الكاتب الموضوعي، ذو الفكر الحرّ، بما فيه كتابه "القواعد المنتجة" رغم كونه كتابا لغويا صرفا. لنتذكر، في الماضي، نصيحة "ليون الافريقي"، الرحالة الكبير، لابنه ان "لا يلين أبداً تحت تأثير التعددية! مسلم، مسيحي او يهودي، عليهم اما ان يقبلوك كما انت او يفقدوك. وحيثما كنت، سوف يوجد من يريد ان ينقّب حتى في جلدك وصلاتك. لا تتردد أبداً في المضي ابعد من كل الحدود واجتياز كل البلدان وكل المعتقدات". 
  غربيون بقدر ما هم شرقيون، اكان ليون، او حسن الوزّان، او عمر الخيّام او امين معلوف، والرافضون من صميم افئدتهم كل انتماء الى "هويات قاتلة" (1998) و"دون مغازلة أي حقيقة" (سمرقند 1988)، قد اعربوا دائما عن رؤية عالمية جامعة، صلبة على الزمن، خيّرة للانسانية بقدر ما هي معمّرة للمدن الحرة وواعدة بمستقبل افضل.
  ان امين المعلوف قد انتخب بالتأكيد بفضل اعتداله وحياده المنزّهين عن كل انواع المهادنة. وأيضاً، تعقيباً على الانتخاب القديم العهد نسبيا للكاتبة هيلين كرير - دونكوس، المتخصصة بروسيا القيصرية والسوفياتية، جاء انتخاب المعلوف مدعوماً بفضل ارادته التي لا تضعف وتصميمه على وضع بالمواجهة، وبوعي بلغ درجة الشفافية، غرب يتربّع على اصراره على عدم مراجعة الذات وعدم تحمل النتائج وشرق متحجّر في الجمود، بهدف احداث "صحوة تخوّل الحفاظ على الشعوب الموضوعة ازاء اجسامها المدافعة، في خضمّ التاريخ". ففي كتابه "الافرنجة  في نظر العرب" (1983)، يأخذ المعلوف، وهو الصحافي القديم والقلق على الناحية الاخلاقية والمناقبية لمهنته، على عاتقه مهمة نقل كتابات المؤرخين العرب، الى العالم الغربي، ومن بينهم ابن الاثير، والقلقشندي وغيرهما لا يقلّون عنهما اهمية. وهذه فكرة جريئة وذات طابع معارضة ومواجهة، بحسب تحليل ادوارد سعيد. فعل ارادي فكري يكسر القسوة التي تفرضها رواية كتبت باسلوب ازالة الفائض. اخيرا، كتاب تهديم صور الفكر والخطابة بهدف التقدم نحو وضوح اكبر.
  اما النتيجة، فكانت انه، تباعا، نُزّهت الملحمة عن طابعها الخرافي وانزلت عن عرشها تلك الاسطورة المقزّمة بشكل استغلالي للاشياء، والمؤلّفة من المغامرات والاحلام والاوهام والاعمال السحرية والخارقة كمثل الاندهاش المفرط ورقة مشاعر فردريك الثاني الذي جاء يُنعم اذنيه بصوت المؤذنين وكذلك العشق الممنوع لاليونورا الاكيتنية مع احد السكان المحليين (راجع دوفورك). عليه، من بين التواريخ المذكورة لهذه الحقبة، تلك المراحل ذات الابعاد القوية والتي اسقطت عليها معاني السحر والشعوذة من قبل عدد من الباحثين، مثلاً أكلة لحوم البشر المخزي الذي صاحبت دعايته الحملة الافرنجية الاولى، زمن احتلال المعرة سنة 1099، والذي بالنسبة للمعلوف "قد احدث حفرا عميقة الزمها قرون عديدة لم تكفِ لردمها". ان طقوس اكل لحوم البشر المروّعة الملازمة للافرنجة الاول، "هذه الجيوش المؤثرة في النفس التي غذّتها روحانية اساسية" (بحسب دوفورك) ومن بينهم "طابور الاصوليين المعلنين عن استعدادهم لنهش لحم القادة العرب" (المعلوف)، تُفسّر على انها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتعطيل قوة العدو من قبل الباحث الكبير في العلوم الاجتماعية لفي شتراوس، فالهدف من اكل لحوم البشر والرغبة بامتصاص الآخر هو امتلاك قدراته المنتجة، بحسب رؤية الباحث دولوز، وهو اشارة نفسية -تحليلية ممهّدة لرأسمالية متوحّشة ومنفصمة الشخصية والتي ترمي الى تفريغ الجسد والأعضاء بهدف تمزيق الاحلاف وصلات القرابة والاستيلاء على الارض (بحسب تعليق لفي ـ شتراوس، 1972). وفي "شجرة الكلام"، يظهر محمد ديب اكثر وضوحاً: "ان المستعمرين غيّروا الجزائريين الى ابناء لا احد، الى مواليد مهلوسين خاضعين وإلى أخصياء مصابين بداء العصاب".
  في الواقع، ان هذا الجشع الاوروبي المتعاظم "للتحكم بالجغرافية الشرقية، بزمنها وبتاريخها (الاستشراق، ادوار سعيد)، كان بمثابة الإعلان عن ارادة الهيّمنة التي اصبحت واقعاً غير قابل للتغيير، برأي المعلوف، ابتداءً من القرن السابع عشر، رغم ان "كل الحضارات الاخرى هُمّشت، وحوّلت الى كيانات صغرى ذات ثقافة ثانوية لا بل غدت معرّضة للزوال". وابتداءً من هذا الوقت، تضافرت كل الجهود المكوّنة لهذا الغرب من اجل غاية وحيدة الا وهي "الاستيلاء على الاراضي الاجنبية وتحقير سكانها وجعلهم يسقطون الى الدرك الاسفل" (حنا اردنت، ذكره ادوار سعيد) وهذا الاخير، اي سعيد، كونه أكثر قسوة في تعابيره واكثر اهتماماً بالتفاصيل حتى اصغرها اهمية، قد اضاف عدداً كبيراً من العيوب عبّر عنها بمفردات دلالية مثيرة للاستغراب؛ ففي كتابه "ثقافة وامبريالية"، وصل الى الخلاصة ان الاستعباد، الامبراطورية وبخاصة الرواية، كمؤسسة ادبية، ساهموا جميعا بهذا الفعل الواسع من الهيمنة العالمية او "ما يسمى ادعاءً بالعالمية الحديثة لاوروبا والولايات المتحدة الاميركية ومصادرة الصمت الارادي او غير الارادي للعالم اللاأوروبي". وفي كتابه "العالم غير المنتظم" (2009)، نقرأ ان هذا الصمت المطبق بالنسبة للمعلوف، هو خطر بالمطلق، فهو لا يتضاءل ابداً ولا يعاني من اي تفتّق والأسوأ ان ما من شخص يقبله باستثناء بعض القوى التي سريعاً ما تجرّم". لا مسّ "بالبترول وآباره، وبقناة السويس، وبالقواعد العسكرية، وبامتيازاتهم...".
  صمت مذلّ ايضاً مع عالمية من التسامي المؤسساتي، خاطئ بشكل فاضح، اثر ما سوّقه "توكفيل" متهماً ديانة محمد بانها السبب الاساس للانحطاط. اما "كانط" فلا يعير قيمة الا للمسيحية، الديانة الوحيدة برأيه القابلة لتأسيس الاخلاق. من جهته، يرى "دولوز"، ان الديانة هي قطعة من الماكينة الاقتصادية، ويرى في الكاثوليكية المفروضة حقيقة لكل الديانات المنتشرة في الامبراطورية (فينسين، 1972). واخيراً وليس آخراً، ديانة مجمعية مفسدة تبشّر بلاهوت مفروض بالقوة على الشرقيين الموجودين بين كفي عفريت مستعدٍ للانقضاض عليهم والتهامهم. وثمة من يتذكر التصرف غير اللائق للبابا بيّوس العاشر الذي ركل بركبته الحبرية العظمى رأس غريغوار يوسف، بطريرك الملكيين الذي رفض التوقيع على قرارات المجمع المسكوني الفاتيكاني الاول، تحديداً على البنود المتعلقة بصدارة روما التي جُددت صياغتها على انها مثل "سلطة قانونية قائدة ومدبّرة، بتعبير آخر، مستعمرة للكنائس الاخرى وساحقة اسس ومبادئ "المعاهد الرسولية والمجمعية" المؤسسة للتقليد الشرقي ("كلهم متشيّعون"، الياس الزغبي) "في الغرب، ان الهمجية ليست صنيعة اللاتسامح والظلامية، بل هي وليدة التعجرف وانعدام الإحساس." (المعلوف).
  في النتيجة، هذا الخيار الاول في التاريخ، يبدو انه يعكس جيدا هذه المرحلة التي توسّع فيها الشرخ بين الغرب النهم والمستأسد باضطراد وبين شرق أثير الخيبة الابدية؛ بين التقدم التكنولوجي المرعب وبين "التطور الاخلاقي البطيء" (المعلوف)؛ بين الانتقاد الموجّه للتيارات الاسلامية وفقدان الذاكرة المتعمّد ازاء التاريخ حتى المعاصر منه.
  علّ وعسى هذا الكرسي الأكاديمي، الذي شغله في السابق "لفي - شتراوس" و"علمه، علم الاجتماع الخادم للاستعمار"، ان يكون شاهداً، مع صعود الوافد الوطني عليه، وشاهداً على الانقطاع المتجدد مع الافكار الموروثة والمغلوطة للغرب، نحو علم اجتماع يخدم الانسانية والعدالة. اليوم، في الاكاديمية الفرنسية، امين المعلوف يجد نفسه حاملاً لواء هذه المهمة الصعبة من اجل تصويب الامور الاساسية من اجل ان يصبح اللاعبون، ابتداءً من الساعة، "شركاء ومتساوين"، مع الامل الاخير ان "تُحمل زهرة الشرق بيد برعم الغرب" (سمرقند، المعلوف).
  "لا تعتقد ان الذي اعطاك الحياة هو قائد، القائد هو نحن؛ الذي اعطاك الحياة ليس سوى والدك". 

* مقال نشر بالفرنسية في مجلة "بالمؤنث" (au féminin) ترجمته الى العربية الدكتورة فيفيان حنا الشويري.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net