Tahawolat
منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، اوصت مراكز الدراسات الغربية خاصة الاميركية منها، بضرورة اعتماد اساليب جديدة لتحقيق استكمال السيطرة على روسيا ودول الشرق ونفطهما وخزين الغاز الهائل الموجود في تلك المناطق من العالم. الدراسات أجمعت على ضرورة إلغاء ذاكرة الشعوب، لفصلها عن تاريخها وحضارتها وثقافتها وتقاليدها، فشعوب بلا ذاكرة هي شعوب تفقد حسها الوطني وانتماءها لقضاياها التي تُستبدل، حسب التوصيات، بتفاهات مُغرية تحرف انتباه هذه الشعوب عن قضاياها المصيرية وإشغالها بشعارات طنّانة مثل الحرية والديمقراطية، وتوظيف حراكها بما يخدم المصالح الغربية.
جون كيري والليبراليون الجُدد أوصوا باحتواء الاسلاميين واستقطابهم كقوة موجودة لديها طموح بالسلطة، تصلُح لان تكون رافعة المشروع الاميركي الذي يسعى لتثبيت نفوذه العالمي، وتمرير مشروع الشرق الاوسط الجديد، القائم على تطوير اتفاقية سايكس ـ بيكو بإحداث المزيد من التفتيت والتجزئة واعتماد انشاء دويلات طائفية ومذهبية تسير على الايقاع الاميركي – الاسرائيلي، يكون لتركيا دور وحصة فيها من خلال تنصيب العدالة والتنمية كراعٍ ومسوّق لهذه النظرية التي اعتُمِدَت فيها سياسة الفوضى الخلاقة المُوصى بها من قِبل وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كونداليسا رايس.
وقائع الاحداث على الساحتين العربية والاسلامية أعادت الى الذاكرة المخاض الاوروبي وصراعاته وحروبه الدامية التي استمرت عشرات السنوات، الى ان استطاع الاوروبيون تكوين دولتهم السياسية الحديثة على انقاض الدولة القديمة الخاضعة لنفوذ رجال الدين وسلطة الكنيسة. تجاوز الاوروبيون المُقدّس بتجاوزهم الماضي الذي شكّل عائقاً امام تطور المُجتمعات وابقائها خارج سياق التقدٌّم التاريخي، وبسقوط الكنيسة كسلطة إلهية ـ دنيوية تستمد سلطاتها من الله، والتي مارست اعتى انواع الظلم والديكتاتورية والتعسف لتحافظ على مكاسبها المادية المُتمثلة بالغنى والثروات الهائلة التي جنتها من لقمة الفقراء ومُصادرة املاكهم واراضيهم تعسفاً. استطاع الاصلاحيون بناء الدولة الحديثة القائمة على العدالة والحرية والمواطنية في ظل القوانين الوضعية التي اتاحها العقل المدني كمُتحول يتطور بتطور الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية والسياسية ـ القومية.
بقي العرب في حالة ركود حضاري رغم بعض الانجازات الطفيفة التي حدثت في زمنٍ سُمي عصر النهضة، والتي لم تستطع ان تؤسس دولة سياسية متينة تمتلك مواصفات الاستمرار والتجدُد، حيثُ شهد العصر العباسي تراخيا في مركزية الدولة قابله تنامٍ وشبه استقلالية في الاطراف نشأ عنها منازع استقلالية انفصالية هددت بسقوط النفوذ العربي كقوة حضارية محورية بفعل استمرار القيم التي استمرت في ثقافة البداوة رغم معايير الاسلام الناشئة والتي كان من المُفترض ان تُحدِث نقلة نوعية في تطوير المفاهيم بما يتلاءم مع المعايير الثورية التي أطلقها الاسلام في ركود النمط الجاهلي كحالة تغييرية تطويرية تنقله من حالة البداوة الى حالة الحضارة.
في العصر الاموي الذي بسطت الدولة فيه سلطتها على الاطراف غير ان حركة التطور توازت بين نقيضين، الاصلاحات وتمثلت بانشاء نظام البريد ومد اقنية الري والطرقات وانشاء الدواوين مستفيدة من الخبرات الهائلة التي كان يتمتع بها السكان المحليون، والفساد، الذي تمثل بسوء الادارة ومزاجية الحكام والصراعات الداخلية الدموية التي اسست أفول الدولة وانتقالها الى الاندلس ومن ثُم اندحارها للاسباب عينها.
وبعد سقوط الامبراطورية العثمانية، لم يتمكن الشريف حسين ولا ابنه الملك فيصل من تحقيق وحدة سوريا الكبرى بسبب خديعة البريطانيين والفرنسيين لهم وباءت كل محاولاتهم وثوراتهم بالفشل، رغم صدقها من الذين خاضوها وقدموا الشهداء والدماء، حيث ان مفاعيل اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور شكلا المشروع الجديد الذي بدأت تنتظم بنتائجه المنطقة، والذي لا زال يحكم واقعنا السياسي ـ الاقتصادي والثقافي حتى اليوم، وقد أرسى الواقع التقسيمي الجديد نمطاً سياسياً جديداً في الجغرافيا والمصالح والتناقضات ونشأت خصوصيات ومصالح الدول والجماعات كنتيجة طبيعية لاتفاقية سايكس ـ بيكو ووعد بلفور، ولاحقا شكّلت اسرائيل قضية عربية غير مُكتملة، لتباين وجهات النظر والمصالح التي قادت الافرقاء العرب الى حصد المزيد من الخسائر والخيبات، وسقطت المشاريع القومية الوحدوية على وقع الدعاوى الاسلامية التي لا زالت تعمل على استبدال القومية العربية بمشروعها الاسلامي الهادف الى اقامة الامارة المرتبطة والتابعة الى الغرب ومشروعه الشرق اوسطي الجديد الذي يُمكّن اميركا من اطباق قبضتها على موارد المنطقة النفطية خاصة الغاز والوقود الحيوي، وبالوقت نفسه تكون قد عزلت النفوذ الروسي وأزاحت قبضة بوتين عن شركة غاز بروم مُحطمة مشروع الصعود الروسي الذي يسعى الى استعادة نفوذه كشريك في القرار الدولي باسقاط الاحادية القطبية خاصة بعد ان ظهرت الصين ومجموعة البريكس كمنافس حقيقي وجدي لاميركا.
أطلق الاعلام الغربي على الحراك العربي الطارئ تسمية الربيع العربي، وكانت مسألتا الحرية والديمقراطية واسقاط الانظمة التي هي بطبيعة تكوينها ونشوئها تُشكل الذراع الاستعماري لقمع الشعوب العربية وتجهيلها، واللافت ان هذا الحراك أتى بعد ان دُمِرت العراق بمشاركة عربية، وتقلص اسم فلسطين الذي بقي محفوظاً في ملفات المُبادرة العربية للسلام، وهكذا سقط الحكم في تونس ومصر لمصلحة الاخوان المسلمين، وكشف تدخل الناتو في تدمير ليبيا ان الحراك العربي هو أبعد بكثير من مسائل الحرية والديمقراطية انما هو سيناريو مكتوب ومُعدّ بإتقان اميركي اسرائيلي.
كان المشروع الاميركي يحقق تقدما ونجاحات باهرة، واردوغان يتهيأ ليستعيد دور السلطان سليم، حتى ظهرت العقدة السورية كواقع جيو ـ استراتيجي أعاق تقدم المُعادلات والخطط والمشاريع واعاد خلط الاوراق المحلية والاقليمية والدولية. فما هي طبيعة العقدة السورية التي لا زالت حتى الآن تتحكم بادارة الصراع الدائر في المنطقة، وتوزع الازمات على تركيا ومصر ولبنان والاردن ودول الخليج، بالاضافة الى المأزقين الاميركي والاسرائيلي، وما هو السرّ الكامن وراء ان تكون نتائج الصراع في سوريا تُحدد موازين القوى العالمية وتُحدد النظام العالمي الجديد. بعد حرب 1973 ادرك حافظ الاسد ان العرب هم الذين يكشفون ظهر العرب في الصراع العربي الاسرائيلي وأن عليه بعد مدريد ان يُعيد صياغة تحالفاته الاستراتيجة من خلال تعميق علاقاته بموسكو والتحالف مع ايران، وقد أثبتت الاحداث والوقائع صلابة واستراتيجية هذه العلاقات، ومن ناحية اخرى دخلت سوريا الضوء بعد العام 2001 وتبدل السياسات الاميركية في المنطقة بعد استكمالها انضاج مشروع نابوكو، حيث بدأ الصراع الحقيقي بين مشروعين يتنازعان النفوذ على الغاز، خاصة بعد ان أنشأ فلاديمير بوتين شركة غاز بروم، بعد أن أنجزت اميركا مهمتها في افغانستان الهادفة الى قطع طريق الصين ـ خط الحرير القديم وتطويق موسكو في جورجيا وروسيا البيضاء واوكرانيا، في العام 2005 استكملت اميركا تقدمها بإخراج الجيش السوري من لبنان اثر اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وخاضت مع اسرائيل في الـ 2006 حرباً ضارية ضد المقاومة الاسلامية ـ حزب الله بهدف تدميره، وعندما اخفقت تحولت في العام 2007 الى خطوة اكثر جرأة حيث عقدت اتفاقاً مع اسرائيل ودول عربية يقضي بتدمير سوريا كخطوة تتيح التقدم بمشروعها النفطي، وجاء الرد الروسي ـ السوري سريعاً حيث تمّ في العام نفسه إنجاز تفاهم استراتيجي بين فلاديمير بوتين وبشار الاسد وبالتنسيق مع الصين وايران ومحاولة لاستقطاب تركيا، اعلن بشار الاسد من خلاله مشروع البحار الخمسة كرد عملي وميداني على مشروع نابوكو، فاعتبرت اميركا انها امام تهديد جدي لمصالحها، فتحركت في السودان وعملت على تقسيمه لتطويق شركة غاز بروم هناك خاصة في استثمارات الوقود الحيوي، وافتعلت حرب غزة لتحرير الغاز المصري من الضغط الايراني، ولاحقاً دمّرت ليبيا بهدف إخراج النفوذين الصيني والروسي حيث وصل عدد الشركات المُستثمرة العائدة لهما الى ستة آلاف شركة، وذلك حتى تتمكن من السيطرة على الشمال الافريقي، واستمرت المواجهات في المعارك الديبلوماسية ولعب سلاح الفيتو دوراً هاماً في صد الهجومات التقليدية التي تشنها اميركا بواسطة المؤسسات الدولية، في هذا السياق، تجدر الاشارة، الى ان قوة سوريا الذاتية، دولة وجيشاً، وصلابة بنيانها القومي العقائدي كمشروع صلب لنواة دولة سياسية لعبت دوراً في تقوية الموقف الروسي في المفاوضات ولا زالت.
حرب المئة عام بدأت منذ 2001 بتدبير ماسوني وبتنفيذ اميركي اسرائيلي، هذه الحرب بين الشرق والغرب لا يُمكن التنبؤ بنتائجها حتى الآن، المرحلة الحالية، بعد سقوط هيلاري كلينتون وصعود نجم جون كيري صاحب نظرية توظيف الاخوان المسلمين لمصلحة اميركا في مشروع الشرق الاوسط الجديد، وهو ايضاً صاحب نظرية الحوار مع ايران وسوريا، السؤال، هل سندخل مرحلة مفاوضات طويلة الامد طرفاها كيري ـ لافروف، وهل سينجحان، وكلاهما خبير بالشأن السوري ـ والمشرقي، قد يكون الانتظار هو الحقيقة الوحيدة التي يمكن ان يقتنع بها افرقاء النزاع، وما هي تأثيرات وعواقب الصراع الوهابي ـ الاخواني، ومن الذي سيستفيد من هذا الصراع، وماذا سيكون مصير تركيا ودول الخليج في مرحلة المفاوضات والتسويات، وماذا سيكون مصير الاخوان في مصر بعد الاستفتاء على الدستور، وكيف ستخرج إسرائيل من مأزقها الوجودي، اسئلة كثيرة ستبقى بلا جواب الى ان تتبلور معالم المفاوضات التي ستبدأ في العام 2013، بين اميركا واسرائيل من جهة ومجموعة البريكس من جهة ثانية، وما تجب الاشارة اليه ان كل هذه الاحداث تجري في ظل سقوط النفوذ العربي وتقاسم ايران وتركيا واسرائيل النفوذ على مستوى المنطقة، فهل سيستطيع بشار الاسد تقديم ورقة اضافية يضعها في يد لافروف، من شأنها ان تُعيد التوازن المفقود في الصراع التاريخي بين اسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى، وهل بدأت تنضج بناء على الوقائع مسألة تكامل المصالح والغايات والاهداف، خاصة سوريا والعراق اللذين يشكلان رافعة تستقطب الاردن وفلسطين ولبنان، ام ان ذلك سيكون خاضعاً ايضاً لنتائج المفاوضات، وفي اسوأ الاحوال اذا ما نشبت حرب عالمية على رقعة اقليمية ونتائجها ستحدد مصير المنطقة؟

  
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net