Tahawolat
لم أكنْ قد قرأتُ للشاعر من قبل ،عندما أمسكت بالديوان , وللوهلة الأولى ،ظنَنْتُ ،أنّه يتناولُ جسَدَ المرأةِ...
ولكن عندما قرأته ، وتمعّنتُ في كلماته ومعانيها ،اتضح لي أنّ الجسدَ ، ليس سوى وسيلةٍ من وسائلِ التعبير ، يدركُ الشاعر بواسطته ما هو أبعد من الجنس .والمرأة عنده لغزٌ من الألغاز، يوظّفها للدلالة على كل ما يحمل معنى الأنوثة ، فهي بالنسبة إليه : القضية ، والهويةُ، الذاكرةُ، والأرض ،و السماء ..فلا عجب إذن أن يَسِمَ الشاعر عمله الإبداعي باسمها ...ولا أنكر أن هذا الديوان قد مسّني في الصميم ، فأحسست أنه يخاطبني أنا من دون جميع النساء.مسّني وأحدث فيَّ تلك القشعريرة التي تجعل النفس تحلق وتسمو إلى عالم ما ورائي لا
  أبواق الخطابات الرنّانة ،كما عن الجنس الرخيص الذي يسعىيدركه إلا القلَّة. .وهو نوعٌ من الشعر يبتعد عن المباشرة ، وعن الى الإباحية وإثارة الغرائز ..وتتعانق فيه لوحتان تختصران نظرة الشاعر الخاصة إلى الله ،كما إلى الوطن ،والمرأة والحبِّ.. في هذا الديوان ،يمخر «نعيم «عُباب الفضاء ،ويجوب الارض والسماء،مفتشاً عن الحضور والغياب محاولاً كشف مخبوءاتٍ الذات الأنسانية ، وما تكتنزه منذ الأزل في عوالمها الداخلية ، فيلج بذلك عالم الأدب من بابٍ لم يسبقه إليه إلا قلّة ..ويرتكز »لأن جسدها « على المعرفة والعرفان ،والمعرفة بالنسبة إليه ،تنبجس من داخل النفس العارفة ،ومهعا يتحرر العقل وتصبح الحركة بلا
قيود ، ويصبح الجسد هو القضيّة ،وتصبح القضية فكراً ،وتغدو القصيدة خارج أي نمط لغوي يكبّل الشاعر أو يسجنه في إطار محددٍ ، وتصبح لغة الجسد إيماءاتٍ ورموزاً...ولا تخفى على القارىء نزعة الخوف عند شاعرنا ،الخوف من الغد ومن الرحيل،فهو لا يرى أخر في الدرب سوى الغياب ، وتتجلى تلك النزعة في
معظم القصائد ،فيبدو الديوان وكأنه قالب تسكب فيه عواطف الشاعر الحبيسة المسكونة بهذه الهواجس ،وتبدومعانيه مبطّنةً ومستترةً بستائر غير مرئيّةٍ ،كلما كشفت عنها ستراً انكشف لك سراً من أسرارها .. يقول ص 26 )نم يا صديقي الضجر ، لقد انهيت معك مدّة الإعتقال ، الله ينتظر قامتي ويشيّع رسمي على أعوانه ،كي يتمّ الأغتيال (ويقول ص 23 : )سمّ ما شئت موتك، بين حضن عصفورٍ أو بين فجرٍ يرسمك ، الغراب ينده الغزلان ، أن يحملوك ، فاختر موتك أوشاهد مقتلك ،بين أن تموت جباناً أو تقتل كالملوك ..(ويغوص تلحوق في أغوار ذاته السحيقة ،ليبحث عن جوهر الحقيقة ،وليحبك عالماً من الرؤيا العميقةللحياة وما
بعدها ، متعاطياً الفلسفة الوجودية ، التي يبحث من خلالها عن نفسه وعن ذاته وعن علاقته بمن حوله ، فتندفع الأنا الشعرية لتبحر في أرجاء الديوان ، وترشح من بين سطوره ، ما يفتح الباب على ثلة من الأسئلة المتشابكة التي لا حصر لها . ويشدَّنا الشاعر إليه في رحلة البحث هذه ، فتصيبنا شظايا تلاطم تلاطم
تلك الأسئلة ،التي تكشف لنا بعض جوانب الحياة ،وما فيها من حزن وقلق وسوداوية وظلام ...نسمعه ينشد في ص 72 كنت أنظر بينكما ،وجدتك عالقاً بين وجهين ، واحدٌ للصبر ، وآخرٌ لسلّم الإنتحار ،فصلّتُ ثوبي على قياس الموت ، لينتحر مني الإنتظار .. كن حراً ليشربك نخب الغياب (وكأن هذا الديوان ليس سوى توصيف مادي للذات الإنسانية ، وما يميزها ويوجِّهها لأن تكون هي نفسها ،ولكن من وجهة نظر الآخر ...ويعترف الشاعر صراحةً في ص 8 يقول : كل كتابةٍ خارج الذات ، هي كتابةٌ موهومةٌ. »متسائلاً » هل نحن ظلٌ لجسد ما يتحرك على غير طائل ؟ أم نحن حركةٌ مائعةٌ لشهوةٍ الضوء ...؟ » اما المرأة
،فهي مرصودة في ضمير الشاعر ، بكينونتها ،وسحرها وغموضها، يعترف :)هي تعلم أن جسدها قضية المعنى لدي...( وهي شغله الشاغل ،يستخدمها كوسيلة ارتقاء ، لتعرج روحه بواسطتها الى السماء ..وهنا تتجلى الإيروسية الصوفية بأبهى صورها .. وكأن الجنس عنده مطهر للرجل وللمرأة على حد سواء ....يخاطبها
قائلاً :يا سيدتي ردي إلي اكتمالي ، فأنا واقف على حدين من صراخ،حين تنفثين لهاثك ، وحين يترنح تعبي بي..()ص 95 ( .. )أني منذور لتجاعيد الروح ، وخرافة الاحزان ..(ص 96 )لمي رائحتك عني ، وانثريها على باب الموت ، ليستيقظ من أوجاعهم البسطاء ..(وص97 :)ما عدت احتمل الرغاء ، صار الكون علي ثقيلاً ولكن تلك
النظرة الى المرأة لا تع بأي حال من الأحوال عن أحوالها هي،بقدر ما تع عن أحوال الشاعر ومشاعره .يقول في ص 30 :)مع بداية الصهيل ..كان علي ان أشهد العبور الى الطوفان ..(نعم أنه الطوفان ،فهل هو طوفان الحروب التي اشتعلت في أرضنا ، ولما تنتهِ بعد ؟أم طوفان الثورات العربية ، التي فجّرت بحور الدم في
كل مكان؟.أم طوفان الخيانة والفساد ..؟وربماهو هاجس الحرية التي سرقوها منّا ،كما سرقت من الشاعر بدايته ..حتى أصبح العمر ظلاماً وغفوة..؟ نعيم تلحوق ، في آخر دواوينه ، طائر يطير في كل الآفاق ، ولا يحط في أي مكان ، رسمته الأحزان خيوط غمامٍ،فراح يتشرنق بالحبِّ والألم ،داخل قصائد حملت خطاباً احتوى على دلالاتٍ تنويرية ، وتجلياتٍ روحية ، لها ما لها من أبعادٍ فكرية وفلسفية ، فبدا كفنان أصيل ، ينحت بنية الكلمات والمعاني ليقدّم لنا الصورة التي تعبر عن جمال التشظي والتمزّق ، ستخدماً لغةً تسرد المعنى المقصود ، وتغوص بعمق على دلالاتٍ له فتنكشف جمالية المفردات ...! وكحلم مخضّب بعطر النعاسم،تدخل قصائد «لأن جسدها » أعماق قلوبنا ،دون استئذان، فتهزُّها ،وتحدث فيها تلك الومضات الخاطفة المشعّة التي تثير فينا القشعريرة والخوف ،الخوف من طغيان المادة التي ترمي
بالأنسان في آتون : الاحتراق ،والجنوح والخواء،والعتمة،والوحشة،والكوابيس... !إنه كما قرأته ،ليس شاعراً عادياً ،بل مبدعاً ،صادقاً،شفافاً،هزّته مصيبة الموت كما مصيبة الأوطان العربية المشلّعة الأوصال ، فحرّكت أحاسيسه المرهفة ،وعواطفه الإنسانية الرقيقة،فغدا :فيلسوفاً ،فكراً، ثائراً .ولا عجب في ذلك ،فقد حباهُ الله بجميل الصفات ، فتتلمذ منذ طفولته ويّفاعته على حبَّ المعرفة وحبِّ البحث والاكتشاف..أعطاك الله العافية والعمر المديد أيها المبدع الفذُّ ، وإلى لقاءٍ قريبٍ بديوانٍ جديدٍ بإذنه تعالى...__
 


 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net