Tahawolat
أيامي كلّها حمراء تشبه لون الدماء، أتراقص بين كريات الدم الحمراء بلا خوف لكن في عيني ضعف غريب أخفيه بالمساحيق، فأُكثر منها لأستطيع مواجهة عيون الرجال، أرقص بين عيونهم فيتحقق حلم الطفولة! لكن هذه المرة كل شيء مسعَّر، فآخذ على رقصاتي هذه أموالاً طائلة، وكلما أكثرت اختلاطي بالرجال يُكثرون منحي الثروات. لكن في عيني حزن عميق، حزن عمره من عمر الكون. الليل هادئ وكل الناس تهاب الليل إلا أنا! أقف وألقي جسدي على عمودٍ كهربائي على حافة الطريق مرتديةً فستاناً أسود شبه عارية وأدخن سجائري كالعادة، فأنا ابنة الليل "فتاة الليل" ولا أخافه! وكيف أخاف من أبي وحاضني؟

أنتظر سيارة أحدهم ليأخذني الى منزله لبضع ساعات، ثم آخذ ثمني، الذي أحدّده بنفسي، وأعود الى الملهى لأشرب الخمر حتى الاغماء. ويأتي نهارٌ جديد حاملاً معه الألم والخوف، أبقى وحيدة بين الجدران الأربعة أنتظر الظلام حتى أختلط فيه مع جنس الذكور مجدداً...

الحقيقة أنني كلما اقتربت وتعاملت مع قوم الذكور، اكتشفت قذاراتهم وغبائهم في الوقت عينه. فغباء الذكر يجعله يعتقد أنه المنتصر وهو في ساحة الهزيمة! أنا وحدي المنتصرة، فمن يعجبني من الرجال آخذ منه المال واللذة في آنٍ واحد، ومن لا يعجبني أعطه جسداً سلبياً وآخذ منه المال أيضاً، أو قد أرفضه، فأنا حرة ولا يستطيع أن يملكني أي رجل!

إن لعبة الدعارة لعبة غبية وقوانينها غبية وقوادوها أغبياء ورجالها أغبياء، لكنها لعبة لذيذة وممتعة، تعوّدت عليها وعلى قساوتها حتى صرت أقسى منها. أوقعهم جميعاً في شباكي، وجميعهم عاجزون عن سلبي قلبي، الكل يتمنى نظرةً مني وأنا لا أتمنى أحد. لقد استطعت أن أحقق حلم المراهقة فأصبحت في مخيلة جميع الرجال، الكل يحلم بجمالي وأنوثتي، الكل يضعف أمام حسني ورقتي، الكل يركع لي وأنا سلطانة زماني. إن اللعب مع الرجال سهلٌ وبسيطٌ ومضحكٌ جداً، فبكل بساطة وبلا أي جهد أستطيع إغواء رجلٍ و الدخول الى عالمه وجعل حياته وأمواله ملكاً لي. أضحك ساخرة من ضعفهم وجبنهم، أضحك منتقمة من أيامٍ تجاهلوني فيها، وفي الوقت عينه أقرف منهم...

مهنتنا تشبه الحياة بعد الموت، من يعيشها لا يستطيع التكلم عنها ومن لا يعيشها لا يعيها ويجهلها، هي مهنة تتطلب مواهب ذهنية وبدنيّة جمّة. أرى الرجال في الملهى على حقيقتهم، كما هم بلا أقنعة، رجالاً ينهشون أجسادنا بلا رحمة لأنهم يدفعون ثمن البضاعة، يغتصبوننا بأعينهم وبأعضائهم الذكورية، ولا نسمع منهم سوى الشتائم. نراهم على حقيقتهم وهم لا يدرون أن الشتائم موجّهة إليهم، فهم من اخترع هذه المهنة ومن يقودها ويمارسها.هم يرون حقيقتهم فينا لذا ينتقمون منا ومن أنفسهم من خلالنا! إنني أرى الواقع المنفصلة عنه منذ ولدت من خلال عيون الزبائن... كل يوم أرى رجالاً جدد حتى أصبحت أرى كلّ الرجال بوجهٍ واحد. أصبحوا بالنسبة لي مجرد جثث ضخمة تلامس جسدي، أجساداً تتحرك بلا أرواح! لا يعنوني بأي شيء. لذا أصبحت أمتهن هذه المهنة بكل موضوعية وحيادية. إنها مهنتي بل إنها حياتي كلّها، فأنا لا أصحو إلا في الليل ومهنتي لا تُمارَس إلاّ ليلاً حيث تظهر الثعالب! هناك دائماً فريسة ومعتدي، لكنّ الفريسة تنتصر دائماً على مغتصبها في النهاية، وهو معتقدٌ بسذاجة أنه المنتصر الوحيد بلا منازع.

سئمت الرجال فكلّهم من صنفٍ واحد، كلّما أقترب منهم أستسخف الفتيات اللواتي يركضن وراء رجل أو وراء حب أو نزوة، وأفهم حقيقة علميّة وحيدة هي أن الرجال لا يعرفون الحب مثلنا!

نسيت ذاتي وعشت حياة الليل بلا خوف، عشت لأنتقم. أنتقم بنظراتي وبفسادي في الأرض التي أكرهها. أصبحت طائحة بكلّ القيود والأعراف والقوانين. لقد جاهرت بأنوثتي التي شوهوها في الماضي وجعلوها محطّمة من جذورها، غير واثقة بقدراتها، تقرف من نفسها الى حدّ الإنتحار.

أمّا اليوم فانا أعيش أنوثتي المتفجّرة، أمارسها بميوعة واضحة، فأعيش كل لحظة للنهاية. قبل أن أركب بسيارة أحدهم أسأل عن ثمن جسدي ولا أقبل إلاّ بالثمن الغالي، فجسدي ملكي وأملاكي غالية جداً. قد أركب سيارة فيها أربعة رجال وكلّهم يضاجعونني ولا أُكسَر ولا أضعف، فأنا أقوى منهم وجسدي يتحمّل ما لا يحمله البشر، فهو قد تعود على الصبر والتحمل.

حياتي هي حياة ليلٍ وسهرٍ ودخانٍ، وتمتع بملذات الدنيا، حياة مليئة بالإنتقام، بعدما كانت تمرّ ملذّات الدنيا من أمام عيوني دون أن أستطيع الوصول إليها. عُدت موجودة بعد أن سحق البشر وجودي وأصبحت غير مرئية. حياتي بلا هدف بلا خوف بلا تفكير، أعيش اللحظة بلا حساب.

أصبحت مبذّرة بشكل هستيري، كل يوم أرتدي فستاناً جديداً وكل يوم أضع باروكة جديدة بشتى الألوان، فأعيش حياة الرخاء والترف، ربما لأُداري حزناً كامناً في أعماقي. أردت أن أعيش الحياة بشراهة، ربما لأنتقم من أيام سحقتني، من أيامٍ لم أكن فيها كائناً من الكائنات حيث كنت أقل من أي شيء في هذه الأرض، أو ربما لأقول لذاتي السابقة الحالمة: "أنتِ الآن تعيشين الحياة كما أردتِ بلا حساب وبلا خوف". كنت في السابق أعيش بلا وجود، كنت كالأموات، لا لم أكن مثلهم، فالأموات لهم وجود وذكرى. كنت أتمنى العيش كباقي الكائنات الحية، تمنيت أن أحِب وأُحَب، أن أَكره وأُكره، أن أغضب أتشاجر أتألم، أن أفرح أرقص أمرح، أن أُستَغَل جنسياً، أن أعجِب أحدهم، أن ينتقم مني أحدهم، أن أنتقم من أحدهم، أن أعيش بكلّ معاني الحياة... كنت أنثى باهتة "أنثى القبو"، مدفونة، لا تصرخ، لا تتكلم، ولا تقول "لا" لمن سخر منها وقال عنها "وهماً" أو "انحرافاً". أمّا اليوم فلم أعد جنينا في رحم أنوثتي! فأيام الماضي لم أنسها ولن أسمح لنفسي بنسيانها، إنها أيام قاسية لم أكن فيها سوى جنين لا يستطيع أن يخرج من الرحم ليجابه البشر الى أن نضجت وكبر الحقد في قلبي حتى انفجر.

أنا اليوم أعيش وأحس بكياني رغم استغلال الذكور لجسدي، فمهما سخروا مني ، هم بحاجة الى شيءٍ مني، على الأقل الى جسدي الذي رفضوه في الماضي. لم أعد أتطلع الى الوراء سوى لأرى نفسي السابقة قائلة لها: "لا تقلقي سأنتقم لك". لن أرحم أحداً من الرجال، فلم يرحمني أحدٌ في السابق. سأعيش بلا قلب، ولكن أين هو القلب الحنون الذي سينشلني من هذا الليل لينجدني ويعيد لي إنسانيتي وكياني؟ أبحث عنه بين عيون الزبائن بلا جدوى! وهل للشياطين أن تصبح ملائكة؟ وهل لرجلٍ أن يحميني من الذكور؟

في السابق كنت سجينة، حبيسة جسدٍ آخر، جسدٍ ليس لي، جسدٍ أكرهه لأنّه يشبه أجساد الرجال... لكنّ بذور الأنوثة في داخلي قاومت حتى تحوّل جسدي. وكنت سجينة ما هو أكبر من الجسد، فكنت سجينة الخوف والوهم! ولدت فتاة مشلولة ناقصة، بأنوثة باهتة غير مرئية، واليوم أصبحت فتاةً كاملة وهذا هو الأهم...

وفي يوم مرَّت من أمامي سيارة رجلٍ كباقي الرجال، ولكن في عيونه كلامٌ كثير قد يغير حياتي رأساً على عقب. ذهبت معه الى قصره، الى مملكته.منزلٌ من طابقين لم أر مثيله من قبل. أما هو فسحره لا يقاوَم. إنه رجل الأحلام، لم أرَ بوسامته، تعابيره رجولية قاسية، تعابير رجل مكافح ومثقف، كما أحب أن يكون حبيبي حلمي، حلم الطفولة والمراهقة. في عينيه حنان مستقيم لا يلين، فيه نفحة ذكورية ونظرة جدية، إنه رجلٌ بكل معنى الكلمة. سحرني، أثار شهوتي بعضلاته المفتولة وبضخامته وطوله وعرضه، والأهم بعقله! نعم لقد حرّك رغبتي بعقله، فهو الرجل الأوحد الذي حرك مشاعري ورغباتي بعد ذلك القرار بالإنتقام. لقد أعجبني! أنا أعشق الرجال الأقوياء الأذكياء حاملين القضية والفكر، أضعف أمام الرجل الذي لا يخاف، وأذهب مسرعة لأنتمي الى عالمه. الحنان في عينيه يذكّرني بأحاسيس قديمة لطالما قتلتها في نفسي، لذا حاولت ألاّ أضعف وقلت له مسرعة: "هيا بنا الى غرفة النوم ليس عندي وقت". فشدّني من يدي بقوة قائلاً: "ماذا تريدين؟ أن نصبح حيوانات على الفراش؟ لم تفعلين بجسدك هكذا؟". ضحكت ضحكة سخرية قائلة له: "وان لم تكن حيواناً مثلهم لم أتيت بي الى هنا؟". قال بغضب: "أنتِ لستِ هكذا. لم تؤذين نفسك بهذه الطريقة؟". قلت له: "ما شأنك بي أتركني بحالي". وخرجت من منزله خائفة مرعوبة وكأنه يريد أن يوقظ فيّ مشاعر قديمة جميلة كنت قد نسيتها منذ زمن طويل... لحق بي وصفعني على وجهي ليوقظني ثانيةً. كم هو رجلٌ غريب! ارتفع صوتي بنبرة حادة وقلت له: "لن تنال مني. لن تعيدني الى براءتي وضعفي. لن توقظني! إذهب ودعني وشأني. لن أقول لك كالفتيات الأخريات بأنني دخلت هذه المهنة لظروف مادية قاهرة أو لأن والدي في المستشفى وضحيت من أجله، فأنا لا أعرف معنى التضحية، لا أعرف سوى الكره، وأتيت هنا لأنسى التضحية، أتيت هنا باختياري وبإرادتي. أنا هكذا ولن أتغير. لن تستطيع أن تغير فيّ أي شيء، ولن تجعلني أستقيم. أنا فتاة منحرفة وأعشق عالم الإنحراف. لا تحاول ثانيةً الدخول الى حياتي، لقد أخطأت في العنوان!". فقال: "لم أُخطىء فعينيك تقول شيئاً آخر". قلت: "عيناي كاذبتان كعيون الأفاعي، لا تصدقهما ثانيةً. إذهب والعب دور البطل مع فتاةٍ ساذجة ولكن ليس معي! تحاول أن تمثل دور الرجل البطل المنقذ وأنت مثلهم وحشٌ كاسر. الى أين تريد أخذي؟ الى حياة الغاب التي تسميها صدق؟ إنها مجرد لعبة كذبٍ ونفاق. لن أذهب! إن أعجبتك حياتهم إذهب وحدك وعِش معهم وشاهِد كيف يعيشون، فهم مَن في الوحل والخطايا ولست أنا. إذهب وانظر الى حياة البشر فحياتي لا تشبهها، إفهم ذلك!". وذهبت مسرعة فقال: "وأنا أريد أن احييكِ!". دمعت عيناي وكأنني سمعت كلمة أردت سماعها قبل ولادتي، في زمن آخر غير زمني، ولكن الحياة علمتني ألّا أصدق لغة الرجال، فلم أستدر وعدت الى عالم الليل. وفي إحدى الليالي، وأنا أرقص، إلتقت عيني بعيني ذلك الرجل الغريب. بعد انتهائي من استعراضي الذي حاولت من خلاله إفهامه طبيعتي وطبيعة حياتي مع الرجال والليل، أخذني بالقوة قائلاً لي: "أريد أن أحميكِ". قلت له: "ولكن أنا فتاة ليل، وفتاة الليل لا يحميها أحد. إنني فتاةً غير محترمة فاسدة. أُتركني!". قال: "سأعوضك". قلت له بحسرة: «لن تستطيع، ولو جمعت كل قوتك لن تستطيع! لقد تأخرت كثيراً!". ودخلت الى الصالة وجلست مع الزبائن. كان يتردد كل يوم الي، كنت أريد أن أركض وأختبئ بين ذراعيه، ولكن خفت أن يكون حلماً كاذباً. وماذا لو عرف أنني كنت سابقاً في رحلة تحوّلٍ مع جسدٍ ذكوري. وفي يوم قلت له: "وماذا لو عرفت أنني..."، فأوقفني قائلاً: "عرفت، والذنب ليس ذنبك.إنك امرأةٌ كاملة. إنها إرادة الحياة. لقد أحببتك". كان لوقع كلامه عليّ سحرٌ غريب. لم أكن أصدق ما أسمع... كيف أتى اليوم الذي يحبني فيه رجل ويعطيني قيمة ويحس بكياني بهذا الشكل الغريب ويرى أنوثتي بوضوح؟ إنّه بالتأكيد حلمٌ كاذب، لن يأتي ذلك الرجل إنه حلم بعيد، حلم الطفولة حلم الماضي والحاضر والمستقبل، حلم حياتي!

أخذني بسيارته وعلى أنغام الموسيقى العالية الرومانسية طار بي في سماء العاصمة وأخذني بين أحضانه وقبّلني... لا أريد شيئاً بعد الآن. قلت له: "لم تفعل كل ذلك؟ إن كنت كاذباً قل لي الآن! لا أستطيع تحمّل الصدمات بعد. فإن كان حلماً جميلاً لا تجعلني أعيشه أكثر فقد أصدّقه بسذاجة. لِمَ تجعلني أصدق أن الحياة يمكنها أن تقدم لنا ما نتمناه؟ أمّا إذا كنت صادقا ًفأبقني في دنياك ولا توقظني من هذا الحلم الجميل الساحر، أدخلني الى عالمك واجعلني أنتمي اليه واخترق أنت عالمي، فأنت الرجل الأول والأوحد، إنك الرجل الحقيقي الوحيد على هذه الارض". وبكيت، فأخذني بين ذراعيه وغرقت بين أحضانه وكأنني مستعدة أن أعيش عمري كله حتى الموت بين ذراعي هذا الرجل الإله. قلت له: "ستضعف أمام المجتمع". قال: "لن أضعف فأنا أحب". كان يتكلم لغتي، كان وجهي الآخر، كان حبّي الوحيد ورجل حياتي كلها، ملكاً في مملكة عشقي. الى أن أتى ذلك اليوم المشؤوم الذي وقف فيه وحيداً يدافع عني أمام عائلته وبيئته. ضعف وأتى اليّ مستسلماً خاضعاً لإرادتهم، فرأيت عندها أمامي عينين غريبتين عني، لم تكن تلك العينين اللتين عرفتهما سابقاً، اللتين أقسمتا بأخذي الى عالمٍ كلّه حنان وأمان. لقد أصبح رجلاً ضعيفاً كأي رجل آخر. تأكدت عندها من حقيقة علميّة جديدة بأن "الرجال كلهم ضعفاء"! الى متى سأكمل طريقي في الظلام، رفيقة الليل وابنته؟ وهل سيأتي اليوم الذي يبصقني فيه الليل متخلياً عني هو أيضاً؟!

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net