Tahawolat
الدين منتجاً للفكر وللاستفادة من الإنجازات الحضارية والثقافية
لا غرابة في أن حظيت دراسة "العقائد في المسيحية والإسلام" باهتمام كبير من الدارسين والباحثين، بالنظر إلى طبيعة هذه العقائد وحاجتها الذاتية لمن يذود عنها، فكانت بداية النزعة التاريخية والاستعراضية لعلم اللاهوت وعلم الكلام، ولكن الأهم السياق التاريخي والثقافي الذي حضنهما، وترك بصماته على حركتهما، فلا يمكن فهمهما دون الرجوع إلى الينابيع الأصيلة لمناخهما الفلسفي والاجتماعي والثقافي.

ونرى في مسيرتهما الارتباط الوثيق بين الأدبيات الدينية - الثقافية لهما، كانعكاس واضح على تأكيد الهوية الذاتية لهما، وانطلاقاً من خلفية الذود والدفاع عن حقانية العقائد التي يتغذيان منها. ومن المعروف، بغضّ النظر عن الظروف التي مرّ بها هذان العلمان، أن الدوافع في التعبير عن محتوياتهما الفكرية لها أثر بارز في فهم ووعي أبعادهما، وانعكاس هذا الوعي في طرح وتقديم المحتوى العقائدي، لأنه يجعل في المدافع عنهما غير متحرر بالقدر الكافي إلا بالقدر الذي يرى أنه حقق نصراً على الآخر في عملية دفاعٍ مستميت يحشد لها ما تيسّر من أدوات.

فعلم الكلام الإسلامي نشأ من القرآن واتصل اتصالاً حيوياً به، ثم عاد والتقى بالفلسفة والمنطق، فوجد ما يعينه في طريقه. بينما اللاهوت المسيحي بدأ واختمر في أحضان البيئة الإغريقية الرومانية التي اهتمت بدايةً بالفلسفة والفكر والسائد آنذاك، وانطلقت لمواجهة العقائد الجديدة التي غزاها الإسلام في فتوحاته، فالصياغة الفكرية المنظمة مطلوبة في عملية الدفاع لتثبيت الهوية من جهة، والصمود أمام المناقشة في وجه التيارات الأخرى، بيْد أن اللاهوت المسيحي وإن استند للفلسفة الإشراقية، فإن وظيفته كما يرى القديس توما الإكويني (2225 – 1274م) لم تكن محض دفاعية بقدر ما هي وظيفة إشراقية تتعلق بالمقدسات، هذه الوظيفة التأويلية للنص المقدّس تفرض تأويلاً عصرياً له، فكان المنهج الباطني التأويلي.

فعلم اللاهوت - علم المسائل الدينية - أضحى المنقذ الذي منه تدرك معرفة الله في ذاته المتعلق بقراءة حيّة للتاريخ الباطني الذي يقوم على الدلالات الروحية للوقائع والأحداث التي يحكيها الكتاب المقدس، وتؤكدها اجتهادات آباء الكنيسة والتي جدّدت في بعض جوانبها الرؤية للكون، فالمسيحية لم تكن في بداياتها تأملية محضة، بل مجهودات تجمع بين التأمل الروحي والأفكار المادية السائدة، التي كانت في جانب منها تشكل ردّة فعل على إهمال المشاغل السياسية والحياتية للناس من قِبَل طلاب الفلسفة المهتمين باكتشاف القواعد العامة للسلوك البشري، وتوجيه الضمائر.

من هنا نفهم أن "توما الإكويني" أثبت علم اللاهوت المسيحي في حكمه النهائي في عملية إصلاح بين العلم والحكمة، تهدف في غاياتها النهائية إلى خلاص الإنسان ونجاته، وبعيداً عما قيل ويُقال بأن علم الكلام الإسلامي في غاياته النهائية لا يتعلق بالنجاة الأبدية، بل غايته وظيفية بمعنى ردّ الشبهات عن العقائد الإسلامية، إلا أنه في المحصلة يصل إلى ذات النتيجة بشكل غير مباشر، فعندما يدافع عما يعتبره عقائد حقّة، فبذلك يحاول بنظره تحصين الإنسان من الوقوع في شبهات العقيدة والتي تحوّله في بعض الأحيان إلى كافر يستحق العذاب، وكما يحاول إثبات العقائد لحاملها وتوكيد مفاهيمها في نفسه، كالذات الإلهية والحشر والآخرة والرسل.

وبعيداً عن التعريفات والعرض التاريخي لعلم المسائل الدينية- اللاهوت المسيحي- واللاهوت الرسمي أو "الفلسفة المدرسية في الإسلام" كما يقول "هنري كوربان"، يبقى البحث المطلوب أكثر عن الخلفية الثقافية والاجتماعية والفكرية، وتحديد خطوطها العامة ومدى أثرها في تشكّل هذين العلمَيْن في المسيحية والإسلام، كنوع من أنواع المكاشفة والمصالحة مع تاريخهما ليأخذ حجمه وحيّزه الطبيعي معرفياً.

وليس هذا نهاية المطاف، إذ ليس المطلوب اليوم التحليل والعرض والتاريخ فقط رغم أهميته التي يجب أن تطال البحث الجدي من المختصين بالكشف عن مدى أثره اليوم على المستوى الفكري والثقافي، خصوصاً مع بروز مستجدات وأحداث وقضايا فكرية معاصرة وملحّة، تفرض على أصحاب العقيدة أن يجددوا أدوات هذين العلمين خدمةً لأصالة وروحية العقائد في تطورها وسيرها الطبيعي مع ذاتها والتاريخ، لا أن يكون هناك عملية غربة وانفصال عن التراث الكلامي، فقط استحضاره في مناسبات خاصة تزيده غربةً وعزلة، بينما المطلوب حقاً في عالمنا اليوم المليء بالأزمات والتحديات والعصبيات الدينية المقيتة، أن نستفيد من الإنجازات الحضارية والثقافية المعاصرة لنجعل من العقائد متحررة تخرج من قمقم الكتب المحفوظة لممارسة دورها الرائد في خلاص الإنسان ونجاته في دنياه قبل آخرته.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net