Tahawolat

شرف لي ان أقدم محمد بعلبكي وهو من الكبار في تاريخنا الفكري والصحافي والأدبي والثقافي والسالك من نعمة الفكر والوجود الى نعمة الممارسة. وهو من الوجوه التي تعزز الأمل، وأصعب انتصار للأنسان هو انتصاره على الأمل لأجل الأخرين والمجتمع والحياة.


بي خجل التلميذ أمام معلمه. وبي وجل العابر اذ يفاجؤه سطوع الضوء


يستحق محمد البعلبكي التكريم يأتيه من مؤسسة سعاده للثقافة ومن جهات كثيرة. منذ 1982 حتى بداية هذه السنة هو نقيب الصحافة بالاجماع والجدارة والاستحقاق والشورى والديمقراطية والتوافق، وبلا منازع . وهو اليوم يغذ السير في تسعينياته غير آبه ( أطال الله عمره) . فالعمر بالنهاية تتويج لعطاءات وانجازات، والقيمة لا تأتي من عد السنين بل تُبنى في الممارسة وفي المسار. كان الحارس في الصحافة يسهر على النور، والفارس في الميدان يصارع التنين. وبه الضوء الذي ينير الدرب ويعبره الذين في العتمة، وبه نخوة المفكر الصاعد الى شمسه وظلاله والى رحابة شخصيته كونه البالغ في عطائه والغني في ميراثه.


الأستاذ محمد النقيب أب للكل، وصديق للجميع، في شمول ولطافة ومؤانسة ورجل صاحب رؤية خلابة وقنطرة عالية تدخلها بالحب وتخرج بالرضى. وتظفر غالباً بالطرفة المليحة او القول  الفخم او الموقف الوقفة. ظاهرة محمد البعلبكي  جامعة. انسان مرجل. رمز من الرموز النهضوية التنويرية التي تجمع وتبني وتوحد وتحُترم في هذا البلد. عم صباحاً إذن يا حضرة النقيب حتى يأزف النهار. وسلام هي لياليك حتى مطلع الفجر.


منذ بدايته طالباً في كلية المقاصد الاسلامية والكلية الشرعية توطد لديه حس مناقبي رفيع لبث يرافقه كالظل او كالطيف. غرف من الاسلام معرفة عقلانية ولغوية وإنسانية عميقة مكنته من الفصاحة ورجاحة النظر في الاشياء ونبذ التفرقة.


علّم في الجامعة الاميركية في بيروت وتتلمذ على يديه بطريركاً (اعناطيوس هزيم) وصحافياً رائداً (غسان تويني) ومفكراً ثاقباً ( منح الصلح) وحقوقياً متنوراً ( بهيج طباره).وكلما التقاهم تذكر الزرع الطيب، وكلما التقوه تذكروا الزارع – الاستاذ القدوة.


يتذكر البعلبكي مساره في الصحافة مثلما يتذكر مساره في العمل الحزبي. يتذكر ان دولة الرئيس سامي الصلح عرض عليه منصب سفير في مقهى الغلاييني في الروشة لكنه رفض حباً ووفاءً وعشقاً لصاحبة الجلالة الصحافة. وانطلق من "الديار" الى "الصياد" الى " كل شيء" الى "صدى لبنان" والتي جمع فيها الى جانبه الاقلام والاتجاهات التي لا  تجمع مثل سعيد تقي الدين وأمين نخلة وصلاح لبكي، وغيرهم.


ولا يزال يفاخر حتى اليوم انه كان يناقش انطون سعاده في أفكاره قبل دفع مقالاته الى الطبع في " كل شيء"وبعدها.ولا يزال يتذكر تلك اللحظات الأثيرة ذهب العمر.


يتذكر حين طلب منه "سعاده" بحسب كلمات البعلبكي ان يضع رده في العدد التالي قرب مقالته. والمستوى كالأفق نرقى اليه، يقول. تلك المقالات الشهيرة التي بدأت ب "العروبة افلست يا سادة" و "الانعزالية  اللبنانية افلست"، وغيرها. كانت تلك الايام فاتحة لمعنى جديد، لدور السياسة في بلادنا لنقلة كبيرة في حياته. انتقل من حزب النداء القومي الذي اقطابه كبار مثل كاظم الصلح وتقي الدين الصلح ومحمد شقير الى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اسسه نهضوي تنويري اصلاحي كبير اسمه انطون سعاده جعل من الفكر سياسة ومن المناقب سياسة ومن احلام بلاده سياسة ومن النهضة سياسة . واجتاز قنطرة الشك الى اليقين، وأقسم اليمين في حضرة  الزعيم في لقاءه الاخير معه في الشام، وفي الهزيع الاخير من ايام سعاده. يستذكر البعلبكي انه كان من آخر الذين التقوه قبل ان يسلم نفسه الى السلطات. ماذا قال له الزعيم وماذا حفظ عنه البعلبكي . انها ذكرياتي مع سعاده،  يقول : والذكريات هنا روابط الفكر والروح واضطرام الحنين والأمل.  عندما أعدم الزعيم وضع محمد البعلبكي صورة بيت الزعيم في الصفحة الاولى وكتب " وضع الاساس وارتفعت القوائم". شارك البعلبكي في الانقلاب القومي الشهير ليل 61-62 وكان بامكانه الهرب والنجاة ولكنه المسؤول الامين لا يتناقض مع نفسه ولا يخون الامانة . وكان له في المحاكم وقفات ومحطات ومطالعات مشهودة. وسُجن حتى العام 1967  أي سبع سنوات وستة أشهر. واثر ذلك لبثت علاقته بالحزب متوترة وبالفكر راسخة وتزداد رسوخاً، وبباعث النهضة املاً لا يغيب.


في شخصية محمد البعلبكي يلتقي الصحافي بالمعلم بالحزبي الملتزم قضايا المجتمع والشأن العام  بالراعي المسؤول عن الصحافة ودورها في لبنان. وعلى حد وصف الشاعر شوقي أبي شقرا له "هو جزء من الكلمة في لبنان ولطالما قالها هنا وهناك صعوداً الى الحقيقة والى الكشف عن أنها أساس لديه ولدى كل الطليعيين وهو جزء من الوطن ، من رسالتنا الى العالم بدءاً من المعالم الحقيقية أمثاله وكأنه في زورق دائم السفر كي ينشل الواقع من الغرق" . يحده شغف كبير بالمعرفة لا يأتي منه الا بمسرة عابرة او فائدة عظيمة او أمر جلل .كثير هو محمد البعلبكي ومتشعب، ولا يخيب آمال سائليه. يحتفظ في درج مكتبه ببحثين واحد عن الحرية في القرآن، وآخر عن مفتاح النهضة في القرآن الكريم. وما أحوجنا الى الحرية والعقلانية والنهضة في الاسلام اليوم .ويحتفظ أيضاً بإشرطة مسجلة لساعات من الذكريات أعطاها كمقابلات لأذاعة صوت الوطن. متى تصبح هذه الذكريات الغنية والنادرة كتاباً ؟ ربما، حين يأتي الوقت الذي يهبها فيه كل الوقت. ولعله بدأ. كلما زرته آثرك بحبه وآزرك بادبه. عنه نقلت وسمعت هذا البيت :


ان نفترق نسباً يؤلف بيننا                                             أدب أقمناه مقام الوالد

اما ما يصح فيه حقاً فهو : حالات الزمان عليك شتى              وحالك واحد في كل حال


عندما توفيت زوجته ماغي نصر جلس في الكنيسة يتقبل التعازي برفيقة العمر، وهو المسلم القومي العلماني يصلي على النبي ويلعن ما يفرق الانسان عن الانسان والحياة عن أبنائها . روحه لم تزل يانعة وهو اليوم في قرة عين السحر ملكاً متوجاً. يعرف ان الصحافة هي مرآة الأمة ومقياس نهضتها بحسب سعاده وعلى هدي هذا القول مشى. ويعرف ان الصحافة أوعية التاريخ وسر الأدب وفهارس الأزمنة، وهو يؤثر كل ذلك ويلازمه. وهو فيما يسعى اليه أقرب ما يكون الى ما أسماه الدكتور منير خوري زميله في سجن القلعة " القدوة الايحائية".


ان تلتقي محمد البعلبكي فكأنك تستريح قرب النبع او تستظل شجرة باسقة مخضوضرة من أشجار المعرفة في بلادنا. ريادة نادرة في زمن التهافت. شاهد كبير على قرن مضطرب من الدهر. قطعة أثيرة من حياة الايام . جوهرة حقيقية في زمن البهتان والابتذال.  لك التحية اليوم وغداً وكل يوم. وأشرح هواك ولا تسأل ما فعلت بك الاشواق فكلنا عشاق . وسلام لك وسلام عليك. وما علينا سوى فرح المكتفين.


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net