98
وبما أن جلّ ثقافتنا وأدواتها عبارة عن معلومات لغوية لا أكثر، وتنتمي من حيث الفعل والتأثير، إلى مجالات المشافهة، حيث يصبح التفاهم بديلاً عن التصوّر، فتفقد بذلك المصطلحات معناها ودورها، لمصلحة الشعار الذي يقدم وجهاً عنصرياً إلغائياً، يمكن تبريره بادعاء "الفتنة"، أو امتداحه بداعي عدم التفريط، أو المباهاة به بداعي اعتداء الآخر الاستشراقي "على الغالب"، فتنتفي الحدود بين المصطلحات التي انوجدت تكثيفاً لتجارب معرفية، تحتاج إلى عقل من مستواها كي يستطيع تفعيلها ونسجها في مبنىً معرفي ذي جدوى، لمّا يزل يسمى المجتمع الذي ينظر إليه من قبلنا، عن طريق اللغة (وهي على أية حال خصوصية كبرى!) كاشتقاق لغوي تبسيطي، على أنه تجمّع من البشر، أو حيث يتجمّع البشر، موجودون قيد الصدفة التناسلية في مكان ما يُسمّى لغوياً وطن، محملين لفظة مجتمع اللغوية ما لا تحمله، ولا تستطيع حمله أو تحمّله لفظة (المجتمع) بمعناها التقني الوجودي المعاكس للفناء، مستعينين بذلك بمجموعة ألفاظ (أيضاً ألفاظ) تتنكر بمقاربات ترجماتية كدليل على وجود مجتمع من دون الالتفات إلى المكان والمكانة المفهومية المتوفرة، هل هي الحيّز الشفاهي؟ أم الحيّز المعرفي الثقافي، فالموضعان متشابهان في ثقافة المشافهة.
لا نقصد هنا ألفاظاً مثل دولة ودستور وقانون وحكومة وإلخ فقط. فهي وغيرها الكثير لم تتجاوز معرفياً لغة التفاهم (وليس لغة التصوّر على أية حال) بدلالة الماضي كمثال على احتواء اللغة على ألفاظ كهذه تثبت أسبقية وهمية وافتخارية في آنٍ معاً، وجود هياكل كهذه (مؤسسات/ مفاهيم) في ممارسات مذكورة في كتب التاريخ، حيث تتم مطابقة الوجود الشفاهي على الوجود المعرفي وكأنهما شيء واحد، ومع أن المسألة لفظوية برمّتها إلا أنه تم سحب هذه الألفاظ وتطبيقها على الحاضر بكل ثقة مضلّلة بالنفس كدليل على امتلاك ثقافة مجتمعية خصوصية كانت دوماً جاهزة للتفعيل، كما نجحنا في تفعيلها في الماضي على الرغم من فضح الرشدية والخلدونية لادعاء كهذا، فنطبق كلمة دولة (مثالاً) على الأمويين والعباسيين والفاطميين على قدم المساواة بينها وبين الفرنسية أو الدنماركية، فجميعهم "دول" بشهادة اللغة، ولنا الفضل أو الفخر بالأسبقية! فقد سبقنا العالمين (طبعاً مع تجاهل حمورابي) في إنشاء ديوان البريد وديوان العسس، كمؤسسات "دولة" قبل وجود فرنسا نفسها، وهكذا يتحوّل المصطلح كمنتوج بحثي، إلى بضاعة جاهزة (شعار) عبر اللغة، واللغة في هذا المقام تمثّل ذهنية ثقافية، فتقوم بطلب المساواة بين نشط وقاعد، أو بين قوي وضعيف، أو بين ناجح وفاشل، وتبرر طلب هذه المساواة تارة بحقوق الإنسان، المصطلح الأكثر حزناً على مصيره بين ظهرانينا، وتارة أخرى بشرف أسبقية الوجود الوهمية لممارسة هذا المصطلح في الماضي! وعلى العالم تكريمنا إمّا بالأخذ بتجربتنا، أو أنّ عليه مساواتنا به بالرغم عدم امتلاكنا للأهليّة المؤهلة لذلك، وفي الحالين سوف نصل إلى خطاب عنصري، سنبرره لفظيّاً، بالبادئ أظلم!
من أكثر الألفاظ استعمالاً وتناقلاً هو لفظة الخصوصية، التي تستخدمها مروحة واسعة من أطياف العمل الأيديولوجي والسياسي، من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، ومن أقصى الحداثة الى أقصى التراثوية، فالديمقراطية (كمثال) عليها أن تكون خصوصية وتراعي (هي!!) خصوصياتنا، وأننا لم ننضج بعد للديموقراطية أو الحرية (وكلّها بالنسبة لنا مجرّد ألفاظ لا غير) لأن خصوصيتنا بحاجة إلى تفسير خصوصي للفظة الديمقراطية، التي قد يكون أحد تفسيراتها الاستبداد نفسه! (لا تستغربنّ أرجوكم)، أو أن الديمقراطية برمتها غير مقبولة من الأساس، لأن تفسير لفظتها نفسه يتعارض مع خصوصياتنا، أو يمكن الاتّكاء بشكل أكيد على أن لفظة الديمقراطية غير متوفرة في كل التراث بما يعني من خصوصية، كما أنها كلمة مستوردة الهدف من استيرادها تخريب خصوصيتنا التي تغيظ الآخر المستشرق المتعالي الذي يكرهنا غيرةً وحسداً، طبعاً يمكن التفكير إلى ما لا نهاية له من الأسئلة الجزافية الكوميدية هذه لنكتشف فرادتنا وتمايزنا بامتلاك خصوصية كهذه، لا يقدر الآخرون على تقدير شرف امتلاكها، لذلك هم يرفلون، بمجتمعات مأزومة أخلاقيّاً، بدلالة نسب الانتحار أو بأرقام المواليد غير الشرعيين، وإحصاءات تناول الكحول وإلخ إلخ من ارتجالات تحاقدية، تفيد بتقديم إشكالية وهمية، وصرف الوقت والجهد في إدارة هذه الإشكالية، مع كل ما تحتاجه من هيصة ودبكة وشعر وغناء ومانشيتات ومسلسلات وتوك شو، لحماية هذه الخصوصية من النسيان.
ولكن ما هي الخصوصية؟ ولماذا على كل شيء أن يتناسب معها؟ كشرط لاستفادتنا نحن منها!، ومع أننا لم نسأل هذا السؤال (أي سؤال الخصوصية) عندما استقدمنا الطائرة واستخدمناها، أو ذهبنا للعلاج في البلدان الآثمة والتي لا خصوصية لديها، لماذا لا نفعل هذه الخصوصية أمام دواء جديد للسرطان، أو نرفض المساعدات بشأن لقاحات شلل الأطفال، أو أجهزة إزالة البواسير من دون ألم، أو أي شيء، أي شيء، عدا مفاهيم المجتمع والدولة والحرية، وهنا تبدو خصوصيتنا الوحيدة، التي لا يمكن الوصول إلى تعريف شامل أو جزئي لها، اللهم إلا إذا اعتبرنا، القبلية، والطائفية، والفساد، والأخذ بالثأر، وجرائم الشرف، والحياء والاحتشام العام الخ، هي تجلّيات لخصوصية مشتهاة، تقابل الفشل في إيجاد خصوصية يمكن التفاهم عليها مع العالم كمكان نفترض فيه تمايزنا بهذه الخصوصية، كخصوصية الياباني مثلاً، هذه الخصوصية المشروطة بمسؤولية الإبداع والإنتاج، إذ لا تتساوى في العالم ولا حتى من حيث شرعة حقوق الإنسان خصوصيتان واحدة منتجة وأخرى قاعدة ومتسوّلة تفيض بالشكوى والنقيق.
لا يمكن تعريف الخصوصية (ولا حتى الهوية)، خارج دائرتي الإبداع والإنتاج، اللّتين تفترضان التغيّر الدائم حتى بالخروج عن المألوف التقاليدي والمعرفي، فالخصوصية تخضع للمعايرة والمقارنة من حيث جدواها وتمدّنها لا بل وتحضرها أيضاً، من قبل الآخر المنتج أو المستهلك الذي يعي نوعية الارتقاء ويساير شروطه وينسجم معها، متخليّاً ببداهة عن خصوصية لا تنفعه في تجربة الارتقاء ومقاربته، فيسعى جاهداً إلى تحويلها إلى فلكلوريات تذكارية، من دون أن يدانيه الوهم في إعادة إحيائها كمسألة جدية تساوي وجوده.
بين وهم الخصوصية الذي لا يمكن تعريفها أو ملامستها كوجود ثقافي معرفي، وحقيقة ما وصل إليه العالم (العمومي) من إنجاز، هناك فراغ لا يمكن أن يملأ إلا بالعنف، وهنا تبدو الفعالية الإبداعية القصوى للخصوصية عبر اختراع أنواع غرائبية وغير مسبوقة للعنف بأشكاله وأنواعه الكثيرة، حتى يصبح الخبز اليومي للإنسان العادي الذي يشارك ويساهم في إعادة إنتاج خصوصيته، متوهماً أنّ خصوصيته من الجمال ما يؤهله أن يباهي بها الأمم.
لا نقصد هنا ألفاظاً مثل دولة ودستور وقانون وحكومة وإلخ فقط. فهي وغيرها الكثير لم تتجاوز معرفياً لغة التفاهم (وليس لغة التصوّر على أية حال) بدلالة الماضي كمثال على احتواء اللغة على ألفاظ كهذه تثبت أسبقية وهمية وافتخارية في آنٍ معاً، وجود هياكل كهذه (مؤسسات/ مفاهيم) في ممارسات مذكورة في كتب التاريخ، حيث تتم مطابقة الوجود الشفاهي على الوجود المعرفي وكأنهما شيء واحد، ومع أن المسألة لفظوية برمّتها إلا أنه تم سحب هذه الألفاظ وتطبيقها على الحاضر بكل ثقة مضلّلة بالنفس كدليل على امتلاك ثقافة مجتمعية خصوصية كانت دوماً جاهزة للتفعيل، كما نجحنا في تفعيلها في الماضي على الرغم من فضح الرشدية والخلدونية لادعاء كهذا، فنطبق كلمة دولة (مثالاً) على الأمويين والعباسيين والفاطميين على قدم المساواة بينها وبين الفرنسية أو الدنماركية، فجميعهم "دول" بشهادة اللغة، ولنا الفضل أو الفخر بالأسبقية! فقد سبقنا العالمين (طبعاً مع تجاهل حمورابي) في إنشاء ديوان البريد وديوان العسس، كمؤسسات "دولة" قبل وجود فرنسا نفسها، وهكذا يتحوّل المصطلح كمنتوج بحثي، إلى بضاعة جاهزة (شعار) عبر اللغة، واللغة في هذا المقام تمثّل ذهنية ثقافية، فتقوم بطلب المساواة بين نشط وقاعد، أو بين قوي وضعيف، أو بين ناجح وفاشل، وتبرر طلب هذه المساواة تارة بحقوق الإنسان، المصطلح الأكثر حزناً على مصيره بين ظهرانينا، وتارة أخرى بشرف أسبقية الوجود الوهمية لممارسة هذا المصطلح في الماضي! وعلى العالم تكريمنا إمّا بالأخذ بتجربتنا، أو أنّ عليه مساواتنا به بالرغم عدم امتلاكنا للأهليّة المؤهلة لذلك، وفي الحالين سوف نصل إلى خطاب عنصري، سنبرره لفظيّاً، بالبادئ أظلم!
من أكثر الألفاظ استعمالاً وتناقلاً هو لفظة الخصوصية، التي تستخدمها مروحة واسعة من أطياف العمل الأيديولوجي والسياسي، من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، ومن أقصى الحداثة الى أقصى التراثوية، فالديمقراطية (كمثال) عليها أن تكون خصوصية وتراعي (هي!!) خصوصياتنا، وأننا لم ننضج بعد للديموقراطية أو الحرية (وكلّها بالنسبة لنا مجرّد ألفاظ لا غير) لأن خصوصيتنا بحاجة إلى تفسير خصوصي للفظة الديمقراطية، التي قد يكون أحد تفسيراتها الاستبداد نفسه! (لا تستغربنّ أرجوكم)، أو أن الديمقراطية برمتها غير مقبولة من الأساس، لأن تفسير لفظتها نفسه يتعارض مع خصوصياتنا، أو يمكن الاتّكاء بشكل أكيد على أن لفظة الديمقراطية غير متوفرة في كل التراث بما يعني من خصوصية، كما أنها كلمة مستوردة الهدف من استيرادها تخريب خصوصيتنا التي تغيظ الآخر المستشرق المتعالي الذي يكرهنا غيرةً وحسداً، طبعاً يمكن التفكير إلى ما لا نهاية له من الأسئلة الجزافية الكوميدية هذه لنكتشف فرادتنا وتمايزنا بامتلاك خصوصية كهذه، لا يقدر الآخرون على تقدير شرف امتلاكها، لذلك هم يرفلون، بمجتمعات مأزومة أخلاقيّاً، بدلالة نسب الانتحار أو بأرقام المواليد غير الشرعيين، وإحصاءات تناول الكحول وإلخ إلخ من ارتجالات تحاقدية، تفيد بتقديم إشكالية وهمية، وصرف الوقت والجهد في إدارة هذه الإشكالية، مع كل ما تحتاجه من هيصة ودبكة وشعر وغناء ومانشيتات ومسلسلات وتوك شو، لحماية هذه الخصوصية من النسيان.
ولكن ما هي الخصوصية؟ ولماذا على كل شيء أن يتناسب معها؟ كشرط لاستفادتنا نحن منها!، ومع أننا لم نسأل هذا السؤال (أي سؤال الخصوصية) عندما استقدمنا الطائرة واستخدمناها، أو ذهبنا للعلاج في البلدان الآثمة والتي لا خصوصية لديها، لماذا لا نفعل هذه الخصوصية أمام دواء جديد للسرطان، أو نرفض المساعدات بشأن لقاحات شلل الأطفال، أو أجهزة إزالة البواسير من دون ألم، أو أي شيء، أي شيء، عدا مفاهيم المجتمع والدولة والحرية، وهنا تبدو خصوصيتنا الوحيدة، التي لا يمكن الوصول إلى تعريف شامل أو جزئي لها، اللهم إلا إذا اعتبرنا، القبلية، والطائفية، والفساد، والأخذ بالثأر، وجرائم الشرف، والحياء والاحتشام العام الخ، هي تجلّيات لخصوصية مشتهاة، تقابل الفشل في إيجاد خصوصية يمكن التفاهم عليها مع العالم كمكان نفترض فيه تمايزنا بهذه الخصوصية، كخصوصية الياباني مثلاً، هذه الخصوصية المشروطة بمسؤولية الإبداع والإنتاج، إذ لا تتساوى في العالم ولا حتى من حيث شرعة حقوق الإنسان خصوصيتان واحدة منتجة وأخرى قاعدة ومتسوّلة تفيض بالشكوى والنقيق.
لا يمكن تعريف الخصوصية (ولا حتى الهوية)، خارج دائرتي الإبداع والإنتاج، اللّتين تفترضان التغيّر الدائم حتى بالخروج عن المألوف التقاليدي والمعرفي، فالخصوصية تخضع للمعايرة والمقارنة من حيث جدواها وتمدّنها لا بل وتحضرها أيضاً، من قبل الآخر المنتج أو المستهلك الذي يعي نوعية الارتقاء ويساير شروطه وينسجم معها، متخليّاً ببداهة عن خصوصية لا تنفعه في تجربة الارتقاء ومقاربته، فيسعى جاهداً إلى تحويلها إلى فلكلوريات تذكارية، من دون أن يدانيه الوهم في إعادة إحيائها كمسألة جدية تساوي وجوده.
بين وهم الخصوصية الذي لا يمكن تعريفها أو ملامستها كوجود ثقافي معرفي، وحقيقة ما وصل إليه العالم (العمومي) من إنجاز، هناك فراغ لا يمكن أن يملأ إلا بالعنف، وهنا تبدو الفعالية الإبداعية القصوى للخصوصية عبر اختراع أنواع غرائبية وغير مسبوقة للعنف بأشكاله وأنواعه الكثيرة، حتى يصبح الخبز اليومي للإنسان العادي الذي يشارك ويساهم في إعادة إنتاج خصوصيته، متوهماً أنّ خصوصيته من الجمال ما يؤهله أن يباهي بها الأمم.