يكون الشعر هبوطاً إلى الأعماق أو ارتفاعاً إلى مطلق جديد مشتقٍّ من ذات ثرية تصبو إلى أبعد الأبعاد. في الحالة الأولى قد يكتشف المبدع عالماً نسمّيه عالم ما قبل التشكل الإنساني، حيث تحتشد الميول والنزعات المرفوضة. وفي الحالة الثانية تسمو على الشرط الإنساني، بتعالٍ على المصير، ومن ثم حنين غريب إلى عالم يسوده الطهر والنقاء.
ولعل وفيق غريزي يمثّل هاتين الحالتين مجتمعتين اجتماع الماء والنار. فما إن يغوص في الأسافل، كما فعل بودلير وسواه، حتى يرتفع إلى قمم مشرفة على وضعنا المأساوي، حين تستحيل الأرض مسلخاً في زمن الحروب، وبؤرة فساد في أويقات السلم.
وقد آلى الغريزي على نفسه أن يستقصي حالات النفس، ويستفتي دقائقها وخلجاتها، لأن النفس هي كالمختبر بالنسبة إلى الشاعر، حتى إن مباشرة العالم تنطلق منها، فتتلون الرؤية بأنواعها، الزاهية أو القاتمة، وما في الجبّة إلا الإنسان الطامح إلى التخطي. وأين هو الإنسان في عالمنا الموجوع؟ ما أصعب أن يكون المرء كائناً مفكراً، مرهفاً، وسط أعاصير جنونية تنصّب اللاعقل سيداً، والكراهية عرشاً؟!
ها هو الغريزي يصدر الأعمال الشعرية الكاملة، في مجلّدها الرابع، وهي الصادرة عن دار نلسن، مؤمناً ان الغزارة ولو تشابه بعض نتاجها، هي ما يضمّ وجْهي الحياة المتناقضين:
الوجه الصبيح والوجه القبيح، المرارة الآكلة كدودة تنخر في ثمرة ناضجة والفرح وهو ربيب الحرية الداخلية. ولأنه من المحال تناول مجلّد ينيف على ستمئة صفحة، فقد اقتضى الأمر أن نختار من هذه الصفحات المبذورة بالأشواق وأنواع الخيبات، بعض القصائد القليلة بغية تسليط الضوء على الكل المتكامل، مع الإقرار أن الجزء لا يفي المجموع حقه، كالأزهار القلائل لا تختصر ربيعاً قادماً سوف يفرش الأرض بالجمال.
ففي قصيدة "جلجلة القيامة والترائيات" (ديوان مدائن البوار)، يعود الغريزي إلى مقولة الدم المسفوك الذي يخلّص العالم من خطيئته: "بدمائنا نروي جذور الغلال/ أيَّها العالم المكّفن بالضباب/ بخطى حثيثة تسير للزوال".
فنحن نرى التضادّ بين الدم والعالم الأعمى بتأثير الضباب المنتشر. غير أنه لا بدّ من معاناة سخيّة، ولعلها معاناة الشاعر التي تنقذ التعهّر، كما يقول، كما تنقذ الميول الانتحارية عند البشر السائرين نحو موت عبثي. الشاعر إذن هو مَن يوقظ الحواس الروحية بعدما طفت الحواس المادية، فأصبحت هي المرجع والمعيار.
من هنا يتغنّى الغريزي بسحر كلماته الراحلة إلى فضاء البهاءات. لقد أقبل الموسم، ونضجت الثمار، وحانت لحظة القطاف. فليقدم ذاته قرباناً على جلجلة العذاب، وذلك على تناقض تام مع مَن يسمّيهم كهّان العصر، وهؤلاء قد يمثّلون مثقفي الكلمات الطنّانة والفارغة، بإضافة إلى أولي الأمر المتلاعبين بمصائر الشعوب: "ليس حقيقة ما نراه في المرآة/ عالمكم يا كهّان العصر بلا حراك/ حقولكم أرضها يباب/ عقولكم يلفّها الإغماء….".
وهنا يعود الغريزي، المرّة بعد المرّة، إلى بعض مقولات الشعر الحديث كالأرض اليباب، وتلك فكرة شاعت في الخمسينيات والستينيات. ثم يتطرق إلى المسؤولين، صانعي الدماء بدلاً من الورود، "أولئك جعلوا من السماء شظايا / تنبت في غابات الآثام والخطايا / آه، يا مسكن الكهوف / تنتظر قدومكم موائد الفناء". ويتبين لنا أن السماء، وهي حياة الكائنات، تتحول عندهم إلى شظايا، بمعنى تشويه الصورة الدينية الجميلة والسامية، كما تعيد الإنسان إلى سكنى كهوف التخلف، حيث الفناء بدلاً من البقاء. ولا يلبث أن يخاطب شاعرنا المجوس الثلاثة المتحلّقين حول مغارة الطفل العجيب، ثم ينتقل إلى كيمياء الحب، ويرى في جيبته نجمة فوق بحر لا ينام، وكأنها العذراء مريم، منارة السماء والأرض.
وفي قصيدة "من جراحي تنهمر الدماء" (ديوان طائر الفينيق) يؤكد الغريزي معنى المتناقضات الثاوية في حضن واحد، وهو ما يشير إلى أن الإنسان مجموعة فصول مجتمعة، وتواصل بين الخطيئة والنعمة: "أنا الرائي والمرئي/ أنا السهل الخصيب والجوار/ أنا ضوء الليل وظلمة النهار". إنه الرائي ونفسه هي المرآة العاكسة، وهو أيضاً الخصب الروحي وجدار العقبات، كما أنه ليل دامس ونهار مشرق. والحق أن النفس البشرية ليست شيئاً بسيطاً كالمادة، كخشب النجار، او حجارة البنّاء, إنها النعيم والجحيم، ولعل الأمر يتطلب فارساً من ضوء يهبط إلى الأغوار، ويصعد إلى الأعالي، بغية الفوز بالوصول، وهذه الأخيرة تستحيل إلى خواطر من ذهب.
ولا غرابة أن يتماهى الشاعر أيضاً، بل دائماً، بالسيد المسيح، مردداً بعض دلالات الشعر الحديث المنفتح على أخصب التجارب: "من جراحي تنهمر الدماء / بالبهاء تصنع أرض المدار". ثم يعود إلى توكيد الأنا، ضد هذا العالم، مع ما في هذا التوكيد من غلوّ عاصف: "أحزاني عميقة الجذور / ترفع يديها لتمسك الرجاء / قصائدي مُحاكة من أبجدية السماء / وأنا لها المعنى والسماء".
ذلك أن الحزن رحم لميلاد جديد، أما قصائده فهي كما يتصوره ويتصور الصوفيون، من نسج السماء، وكأن الغريزي ينصّب نفسه سيداً على عرش نرجسية الإبداع. ولذلك يزعم لذاته سلطة مطلقة، أو شبه مطلقة، ليدين المدينة العاصية: "مدينة ليس فيها / قمح ولا محار / بل هي أكفان / تحولها يد الربان / في أرحامها تختنق الأطيار / وفي العالم الما وراء / نعانق المطلق البهاء".
وإذا كانت المدينة مسجاة في أكفانها، على ما يقول، فإن الذات المبدعة هي وحدها التي تعانق عالماً ما ورائياً مناقضاً لكل مدينة تختنق أطيار البراءة، فتجف ينابيعها. ودائماً يعلن لنا الغريزي بيان البراءة: ليس في العالم إلا وسخ الحضارات، ولكنه ، أي الشاعر، من طينة أخرى نقيّة، أيرجم إذن المدن العاصية بنار اللعنة، في الوقت الذي يظهر نفسه أكثر براءة من دموع الثكالى؟ التعميم مضرّ، فثمة قصائد تغاير هذا المنحى، ولكن هناك صيحات كثيرة يبدو فيها صاحبنا نبياً من انبياء الشعر، ينفصل عن المجموع، منزهاً نفسه عن آثام ملصقة بالغير. هي طريقة أتقنها شعراء مثل خليل حاوي وبدر شاكر السيّاب، وسواهم من الذين يقولون إن سدوم خاطئة فاسقة، غير أن براءة الشعر تعلو على هذا المستنقع اللعين.
أما قصيدة "أيامي تجتاز عتبة الخريف" (ديوان الأوتار الراعشة)، ننشيد من تعب الأيام والخشية من الغد المجهول. يقول مصلوباً بين اتجاهين متضاربين: "مسكون بالماضي الكئيب / مخطوفاً إلى مستقبل مجهول/ لم تكتبه قدماي المتعبة". وهذا التأرجح بين الماضي والمستقبل إنساني بامتياز، ومثله شيخوخة الروح الرازحة تحت وقر السنين: "أجمع من بيادر الجسد النزيف / غابت الأصوات والأشياء / لم يبقَ في خزائني سوى الأصداء / مترعة كأسي بخمرة الخيال". لقد تعب الجواد، جواد الجسد، وتعب الفارس وهو الغريزي نفسه، ولكنه عودنا أن ينتشل من كومة الرماد ناراً مشتعلة، وأن يطلع من شقوق الصخور وردة يانعة.
فإذا كانت الكهولة المفضية إلى الشيخوخة حقيقة لا مراء فيها، فالحل السحري يكون في تجربة الحب، لعلها الإكسير الذي يردّ الشباب المولّي: "قصيدتي أنت، أقرأ عبرها سفر الوجود / لتنحنِ القامات / لتنحنِ الغابات والأشجار / لينحنِ الكوكب سيدة الخصب والأسرار/ أركض نحو تخومها على الجوار / والفجر طرقات مجدية". وهكذا نعثر على الإنسان حيثما عثرنا على ما يستحقه، كما يقول الكاتب الفرنسي أندريه مارلو. فلا يستسلم الغريزي قطرة، إلا بعد مهادنة قصيرة، ليعود مستأنفاً الكفاح، معلناً سلطة الحب وسلطة الشعر، والاثنتان من مصدر واحد هو الذات المتألمة والمتعالية على جراحها، الصاعدة من الأغوار إلى أعالي القمم.
لشد ما أتمنى أن تخصص رسالة جامعية لتدرس شعر الغريزي الحافل بعناصر وثنية ومسيحية في آن واحد. إن فيه مواقف حادة من اللعنة السوداء المنصبة على المدينة الفاسقة. ورغم ما في النبرة من غلوّ فإنها تتضمن حقائق دامية نعيشها كل يوم. يُضاف إلى ذلك أن فيه تجارب من الحب بوصفها ربىً مسحورة، تنقذ كخيط "أريان" من متاهات الذات السفلى.
على أن وفيق، وهو نِعْم المعلم البارع في تدريس اللغة العربية، يرتكب أخطاء لغوية نظن أنها فاتته في خضم إعداد هذا العمل الغزير. فقوله "لتحني" خطأ فاحش، والصواب أن الفعل مجزوم بلام الأمر، وهو ما يوجب حذف حرف العلّة. صحيح أن الهفوات قليلة، ولكن المطلوب مراجعة ما يُدفع إلى المطبعة، من قبل الشاعر، ومن مصحح آخر أيضاً. ومهما يكن من أمر فإن الشعر الغريزي شجرة جذورها في الدم، أما أثمارها فهي للعجب مليئة بالحلاوات. فالمواهب، على عظمتها، منخورة بسوس داخلي، لعله من مصادر الإبداع. لذلك ندعو شاعرنا أن يحتضن آلامه، وهي في معظمها آلام أمّة ضائعة، فقد تنبت على صليب العذاب، كما يقول الفيلسوف هيغل، ورود التعزية، ونزيد أيضاً ورود التخطي وتجاوز الضعف الإنساني.