اقتفاء أثر الإبداع الشعري في المشرق العربي، ربما يكون خطوة نادرة في مراحل الافتئات والتشظي، فهذه القطع المتناثرة من سايكس بيكو، مازالت قادرة على محاكاة الحلم وإعادة تدويره بشكل جديد وقابل للتحقق. وإذا كان من الصعب أن نصنع شيئاً على صعيد الجغرافيا والإنسان الذي سميناه زمناً طويلاً بالمجتمع، فإن أضعف الخذلان اليوم أن نفعل شيئاً على صعيد الكتابة الجديدة التي تتشكل في الأفق جراء الحرب وقيامة الأسئلة المؤجلة تاريخياً من كل حدب وصوب. هو ما يسمونه المشرق العربي، ومرات أخرى الشرق الأوسط، أو القطعة النيئة من الجسد الميت والمثخن بالطعنات والأديان والجهل. القطعة المقطّعة التي لا يعرف أحد إلى أي تلاشٍ سوف تصيرُ بعد انقضاء المعارك بكامل طائفيتها وأقاليمها ورقعات شطرنجها العالمية.
النص الشعري اليوم، يعيد شحذ أدواته ويبشر بانعطافات كبيرة في الأفق، هي ليست انعطافات تتعلق بطارئية العناوين التي فرضتها سادية القتال على جبهات الرصاص واللغة وسفك الصور، بل هي عملية هدم كبيرة تجري بثقة في الظل دون قرارات مسبقة من طرابيش اللغة والعروبة وشيوخ الدين والكار في مهنِ صناعة الكتابة، عمليات نسف هائلة يرتكبها اللوغوس السوري الذي ظل لأمد بعيد مستقراً في البحيرات الآسنة التي فرضت كتابة سوريا ملوية العنق بالتاء المربوطة مع أن الإطلاق في الألف العالية هو أهم ميزات الآرامية أو السريانية. إنها الأيديولوجيا البائدة التي عقدت حلفاً تاريخياً مع رجال الدين وأصحاب الذهنية الماضوية، عندما قرر الجميع الدفاع عن خاتمة اللغة وخاتمة التفكير وخاتمة الرسالات السماوية، أولئك أنصار الخاتمات بكل أنواع لن يبطلوا نسف المقدمة المنطوية على احتمالات انقلاب المشهد، منذ المرحلة التي أبيدت فيها نصوص الشعراء السوريين في مراحل ما قبل الميلاد، إلى اللحظة التي سوّق النقاد فيها وهماً يقول إن امرء القيس وطرفة بن العبد أو الشنفرى هم الأجداد الشرعيون لأبناء دجلة والفرات وساحل المتوسط.. إنها سوريا المنتهكة على صعيد نصوصها الإبداعية من كل الجبهات والجهات والمعادين لأي تجديد في النص!. فاللغة التي حمت الخاتمات التي تحدثنا عنها، دعمت بشكل حثيث الطغاة عبر استخدام المعجم نفسه ودعم اللغة نفسها، وكان طبيعياً أن تتورط تلك الموسيقا الصحراوية القادمة من شبهة الجزيرة العربية، بتسويق كل أنواع التصحر التي تؤجل انتعاش اللوغوس السوري الذي كان في كل مرحلة يتعرض لإبادة تعيده للنوم. لماذا لم تتورط إلا تلك اللغة المموسقة على وقع أقدام الناقة في دعم الرداءة والاستبداد الديني والسياسي؟. هو الحلف التاريخي الذي قد عقد بين هذه الأطراف منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام ومازال العمل ببنوده مستمراً حتى اليوم!.
نبشّر اليوم بحركات تحرر جديدة على صعيد الكتابة السورية وإعادة صياغة الخلق الموازي، سواء عبر تدمير المعجم وإعادة تأسيسه بشكل مختلف وجديد، أم عبر اقتراف كل أنواع الجرأة في الأفكار والصور ونشر تراكيب الكلام على نواصي الشوارع التي مازالت تردد العبارات نفسها منذ أربعة عشر قرناً وتعشق بالطريقة نفسها وتلقي التحية بذات الجملة المستهلكة للأسف!.
مرات كثيرة كنت أفكر مثل محمد الماغوط، لماذا كان السياب يخطف أثناء مشيته في الشارع ويحتاج أن يسنده أو يثبته أحد!. تلك النكتة التي ساقها صديقه الماغوط عندما قال إنه دخل الاتجاه اليساري بسبب هذه الحالة الغريبة من الانعطاف غير المبرر!. تبدو على علاقة كبيرة مع قصيدته مطر التي كتبها منتصف القرن الماضي باعتبارها انعطافاً تحررياً من انعطافات السياب الشهيرة، فهو سليل حركات شعرية تحررية نشأت سابقاً قادها المعري والمتنبي وأبو نواس وغيرهم كثير، لكن اجهاض الثورة كان يتم في كل مرحلة عبر الحلف الذي أشرنا إليه وضم دائماً النص الغيبي ورجالاته، والنص الاستبدادي في اعتماده نوعاً معيناً من اللغة الحليفة، والمعجم الذي كان الأداة التي كرست سطوة هذه الأطراف حتى اليوم!.
ما نحن بصدده اليوم، هو اقتفاء أثر الإبداع في المشرق العربي ككل، فالواضح أن انقلابات جذرية على صعيد النص الشعري في الطريق، ولا يرتبط هذا بالحرب من ناحية جدة المواضيع المتناولة، بل من جهة الجدل التي سببته هذه الحرب عندما فيّقت كل الأمراض والأسئلة والاحتمالات.. لقد أصبح الاجتراء على المقدسات أمراً مشروعاً مادام هذا المقدس النصّي والبشري هو من يُطبق على الرقاب بالسكاكين ويقطع الرؤوس بالسيف نفسه الذي استله كي يجبر الناس على نوع معين من الذهنية والثقافة والكتابة.. ما نشهده اليوم هو تباشير حركات تحرر هائلة تتمحور في الشام والعراق ولبنان وفلسطين والأردن بنسب مختلفة بين تلك المناطق ورؤى مغايرة حسب الخصوصية المحلية التي نشأت جراء الحدود الكيانية التي لم تلغها إلا التنظيمات المتطرفة التكفيرية في حين كرّسها ما نسميه بالأيديولوجيات ومؤسساتها العلمانية والسياسية المختلفة.. هذه النصوص التي يكتبها اليوم شعراء شاؤوا تخطي عقدة الخوف من هدم المعبد على رؤوس الجميع، لأن الواقع أثبت عدم وجود معبد إلا من الخرافات المفروضة بالخناجر والخيانات المستوردة من وراء صحراء النفوذ عندما ساد مفهوم القبائل على بلادٍ كاملةٍ صاغت أول شريعة للبشرية في التاريخ، واكتشفت أول أبجدية وكتبت أول قصيدة شعر.
ما يظهر في النصوص التي يضمها هذا العدد من "تحولات مشرقية"، هو كل ما تحدثنا عنه هنا، من حيث الأساليب والأفكار والمقاربات المختلفة والميل نحو الاحتمالات، تجارب عراقية شاءت الذهاب إلى أماكن الموت من أجل قراءة الشعر وتأليفه بدءا من مقابر السيارات المفخخة إلى حقول الألغام وثلاجات الموتى، في حين شاء شعراء من الشام القول بنسف كبير للمعجم العربي والعودة طوعياً إلى تأسيس معجم جديد تشترك فيه الآرامية والسريانية مع عربية اليوم من أجل إطلاق إمكانية التطور اللغوي والذهني من قمقمها المحكم الإغلاق لأن اللغة الحالية متورطة بالاتفاقية التي أشرنا إليها مع النص الغيبي والنص الاستبدادي في وقت واحد.. في فلسطين والأردن مقاربات مختلفة لاحتمالات النص، مثلما هو الأمر في بيروت التي أسست مجموعة شهرياد وقوامها شعراء يقترفون تلك الاجتراءات بكثير من الجرأة والاختلاف التي تحضر في هذا العدد أيضاً..
إذا اعتبرنا قصيدة السياب ونازل الملائكة المختصة بما يعرف بقصيدة التفعيلة والخروف على البيت الواحد، هي حركة تحرر هامة في تاريخ الكتابة السورية والعربية، فإن الأب الشرعي لقصيدة النثر محمد الماغوط كان صاحب الثورة الثانية أو حركة التحرر الثانية عبر بلورة وتأسيس قصيدة النثر التي قطعت بشكل نهائي مع أقدام البعير وموسيقا حادي العيس.. تلك القصائد التي كتبها الماغوط تبدو شبيهة جداً بما كتبه الشاعر السوري الهيلينستي ميلياغروس قبل الميلاد بمئتي سنة تقريباً، ورغم أن الماغوط لم يقرأ ميلياغروس على الأرجح لأن ترجمته قد تمت منذ فترة قريبة، إلا أن ما سميناه باللوغوس السوري هو ما تحرك بشكل فطري كي يكتب الماغوط بهذه العفوية التي دفعت صاحبها للاعتراف بأنه لم يقرأ تجارب الشعر العالمي والمترجم ولا يعرف معظم رواد الحداثة في الغرب والشرق على حد سواء!. هي القدرية نفسها التي تعود للتحرك اليوم في نصوص شعراء الشام والعراق ولبنان وبقية الجسد السوري المنهك بالطعنات كي تطلق حركات تحرر جديدة وربما تكون أكثر مضاء من السابق، لأن الخبرات قد تراكمت بما يكفي من أجل شقّ عصا الطاعة بشكل نهائي ثقافة "خط الرمل" الذي لم يشاهده ساطع الحصري في صحراء النفوذ، فالمنظرون العرب والعروبيون، غلّبوا في كل مرة عامل الانفعال والدبكة والشوباش على العقل وانفتاح الذهنية وضرورة ترك الأجيال تبحث عن معاجمها ولغاتها وتبني حركات تحررها من هذا الاستبداد الذهني الهائل!.
في الرسم والبحث التاريخي، هناك محطات حداثوية لا تقل شأنا عم يجري على صعيد النص، تلك الأصابع التي نحتت تمثال الملكة زنوبيا، قادرة اليوم على صياغة فرادة التلوين السوري والنحت في صخور الصوان والبازلت ملامح الذائقة الجديدة.. هي النظرة الجديدة للحياة والكون والفن التي تسببت بمقتل كل من نادى بها في مراحل سابقة، تعود اليوم عبر العامل الثقافي لتنعش الاتجاهات الأخرى المسكّرة على الذهنية عن سابق قصد وتصميم من قبل كل أنواع الماضويين..
من يدري، ربما نحاول أن نشرّع بوابات الاحتمالات، وربما ضقنا ذرعاً بكل هذا الهراء المفروض تاريخياً بكامل رداءته القسرية على عقولنا التي تبدأ اليوم بكسر الطوق!.