"نقل حي" العنوان يحمل اسم عمل مسرحي جديد على خشبة مسرح المدينة، بيروت، نص واخراج ريتا ابراهيم. "نقل حي" يعالج موضوع الموت والاعلام وكل ما يتعلّق بهما لجهة ما يدور في نفس القاتل والقتيل على خلفية مزاجات انسانية يسعى الاعلام في كل مكان الى التعامل معها وِفق مصالحه الخاصّة وبكلفة انسانية فائقة الكِبر وهي ما تتركه ريتا لجمهورها أن يقّرّر كيف ينظر اليها ويقيّمها بميزانه الخاص.
الامور اكثر تعقيداً، تستدعي كل ما استند اليه العرض من ربطٍ بين غباء المشاهد ورغبته بالغباء عبر تصديق الشاشة من دون محاسبة او تدقيق. وربطٍ بين الجريمة وبشاعات الانسان في كل دقائق وتفاصيل الكائن اليشري الواحد والمتآمر بشكلٍ او بآخر مع منظومة العنف التي لا تفترِسه آمناً بل مساهماً بها وغير بريء بالمطلق. ريتا وخلافاً لمسارٍ يعيشه المسرح التجريبي في لبنان، لم تلجأ الى اعتماد الغروتيسك السلبي ولم تحتج اختراع الكلمات والتعابير المركّبة بصعوبة للكشف عن مفاهيم هي في صلب الموضوع واسباب العرض. اكتفت وبإيجاز عادِل بلغة الاعلام وتداولت بادوات لفظية ذات صلة بالمناخ العام للمسرحية والحال كذلك، يُحتسب للمخرجة اعلى الدرجات في تقدير البساطة الجادّة التي اابتكرتها خصيصاً لغاية اتاحة الموضوع بالصوت والصورة والكلام.
مُربّعات الاطارات المضاءة المستعملة في العرض جاءت وكأنّها مرآة راقصة في غرفتها الخاصة داخل الكاباريه، او اطار اعلان فوق بناية في مدينة ما او الى جانب طريق دولي. السينوغرافيا، استعملت كامل المكان في خشبة مسرح المدينة وكما النص، كان من مهامِها تقديم الإيحاء للمشاهد والاتجاه ومن ثمّ تركه تخيّل باقي الدلالات خلف الاطارات وربّما علاقتها بكل شيء الّا برامج الاخبار والتحقيق بجريمة كما يجب ان يكونا. سخِرَ النص والصوت والديكور من الاعلام المرئي ونمط عملِه البعيد عن انسانية المهنة واخلاق الصحافة. كلِمات وتشابيه واستعارات من نوع السهل الممتنع كان بينها القازان او سخّان المياه في حمّام البيت وكلمات شبيهة استبدَلَت مفردات اغنية "ظالم يا غزال" لتصبح "ظالم يا قازان".
بين المشاهد تظهر شاشات بصورة سيلويت تعتمد الخيال الداكن لمذيعٍ موتور يرفع الاسئلة بوجه المشاهد عن مقدّم برنامج تلفزيوني قتلَ ضيفته المغنيّة على الهواء. وعن خلفيّات الجريمة وتحليلات الدوافع. ودائماً بإطار ساخر بعيد عن الهزل ومُثير للخيال والجنوح بعيداً عن المقعد داخل مسرح المدينة الى الواقع المعيش في لبنان وفي دول العالم قاطبة ما يسمح للعرض بان يكون قابلاً لكسب اهتمام الجمهور في اي مدينة على الارض وبصرف النظر عن ثقافة وهويّة ابنائهِا. وبينها ايضاً مقابلة مع طبيب نفسي وآخر متخصّص بالامراض العصبية لتحليل نفس القاتل وابراز المحطات الدراماتيكية التي يُحتمل أنّه عاشها وعانى منها. المحقّق والطبيب وصاحبة المحطّة التلفزيونية جميعهم كانوا اقرب الى شخصيّات من فيلم هوليودي مِنه الى ما نعرفه عن امثالهم في واقع الحياة. الطبيب مسرور، المحقق مذعور والمجرم مرتاح لا يعاني الخجل او الارتباك وصاحبة المحطة سيّدة متسلّطة تعرف نوع السلاح الذي بيدها وتتحدّث عن اصرارها على التحكّم بنهاية الحدث وإن عن طريق قتلِ ما تبقّى من الناس امام كاميرا الاخبار.
وهي ايضاً تُباهي بملكيّتها للمحطّة وكل من تعامل معها بما في ذلك الجمهور. هي أقوى من رجل السياسة وهي الصانع الاوّل والاخير للاحداث وللقيم الانسانية. التمثيل كان جيّداً ومؤثّراً وكان بعيداً عن المألوف القائم على غير المألوف. ريتا (اخراج، كتابة وتمثيل)، طارق، روان وسامي كانوا لبنانيّين بامتياز وكانوا قبل ذلك اناساً من عالم الـ"هنا" والـ"آن". بدا من السهل على اجنبي لا يفهم اللغة العربية ان يستوعب ما يرى ويتكهّن الكلمات من دون صعوبة وهذا بحدّ ذاته دليل ابداع من قبل المخرجة اولاً والممثلين ثانياً. الموضوع اكبر من علاقة الاعلام بالعنف والحرب باتجاه ان يكون علاقة العنف بالانسان وحصّته في صناعته بصرف النظر عمن حملَ السلاح ونفّذ الجريمة ام غيرهِ. النص والمناخات تجلّت بصوت الممثلين وحركة الجسد وبصوت الموسيقى ولغة الضوء والديكور وكانت من دون ادنى شك من اللاوعي في نفس الكاتبة والمخرجة والعاملين معها وساروا باتجاه اللاوعي في نفس الجمهور خالقين حالةً من الارتحال بعيداً عن وعيٍ قاصر لا يدرك الغوص ويستعجل الحكم والخلاصات.
عرض مختلف يستحق التقدير والاعتراف ويتقن احترام خشبة المسرح وجلالة الفن.