نضال سيجري.."أسعد" اسمٌ سيبقى خالداً في ذاكرة السوريين التي أُتعبت بما فيه الكفاية وتشتت وانقسمت لكنَّها أجمعت أن موت نضال يُبكي، يُبكي السوريين كلّهم بعد أن أضحكتهم أعماله الفنية لسنوات وطَبَعَ بمخيلتهم صوراً عديدة لفنانٍ استثنائي استطاع رغم عمرِهِ الفنّي القصير قياساً للكثير من قامات الدراما السورية أن يحجز لهُ مكاناً في قلوب السوريين لأنّه ربّما كان ببساطته وإنسانيته وفنِّه أقرب لهم ولقلوبهم وتمكَّن بإبداعه أن يكون رقماً صعباً في معادلة الفن السوري، أسعد الذي اعتاد أن يقيد "جودة" ديونه على دفتره الصغير، أصبح موته دفتراً كبيراً تشكلت صفحاته من صفحات السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" الذين ربما كان موته من قلائل هذا الزمان التي بات السوريين يجمعون عليها عندما بكوه ورثوه معاً واعتبروا رحيله خسارة لهم جميعاً، ربما لأنّه أيضا من القلائل من عبّر عن أوجاعهم وآلامهم وأبكاهم وأفرحهم وأوصاهم في كثير من وصايا ما قبل الرَّحيل أن الحلَّ في سورية هو أن نُحب بعضنا البعض، فقال: "الحب هو الحل" لكن يبدو أنَّ صوت حنجرته الاصطناعية التي عاش بها آخر أيامه لم يُسمعْ أحد لأنَّ في سورية لم يعد هناك شيء يُسمْع إلا صوت الرصاص ولا شيء يفرض نفسه إلاَّ الموت.
نضال الذي قال: "خانتني حنجرتي فاقتلعتها" أرادَ أنْ يوصل رسالة إلى كل السوريين أنه إذا ما خانتكم عقولكم أو قلوبكم أو ضمائركم فاقتلعوهم وعودوا إلى رشدكم وسوريتكم التي تحبون، سورية التي كانت دائماً نموذجاً يحتذى به بالمحبة والتعايش والأمن والاستقرار وكانت محجّاً للسياح من أقطاب العالم وهي الأرض التي احتوت كنيسة يوحنا المعمدان ومقامات الحسين والسيدة زينب وقبر خالد بن الوليد وآثار هارون الرشيد والأمويين ومن قبلهم عشرات الحضارات المتعاقبة لتي ربما الحديث عن هذا التاريخ لم يعد يجدِ لدى البعض ويعتبرونه في إطار التنظير الذي لا جدوى منه.
نضال رحل في وقت بات الوجع في بيتِ كُلِّ سوري فزاد برحيله أوجاعهم وجعاً، لكن سورية باقية بأبنائها بعلمائها وأدبائها بمثقفيها بالواعين الذين يعشقون سورية عشقاً أبدياً غير مزيّف أو منفعي حباً يدعو إلى بناء الوطن وإصلاح ما كُسِّرَ منها وخُرِّب وترميم ما انهدم من حبٍ واحترام وغيرها من القيم والبناء والحجر والشجر، وربما كان نضال من أبرزهم وأطهرهم من خلال زيارته عدد من المناطق الساخنة منذ بداية الأزمة السورية ودخوله كوسيط خير يهدئ من روع السوريين ويصلح بينهم ويعيد الحب إلى قلوبهم بعد أن انتزعوه وغيبوه للحظات طويلة جعلت الثمن غالياً جداً، فكان بمبادراته تلك يحمل صفات السوري النبيل الحريص على حفظ كل قطرة دم سوري.
فوداعاً أيها النضال السوري الأصيل في زمن قلَّ فيه المناضلين وشوِّهت فيه معاني النضال والرجولة وباتت الخيانة أسهل اتهام يتهم فيه المرء، والرحمة لروحك الطَّاهرة التي تحمل قداسة لدى كل من عرف قيمك وأخلاقك ونبلك العالية التي ستخلّد ذكراك وتبين أن سورية أنجبت فناناً مبدعاً سرقه الموت باكراً لكن منحه الله ما يكفي ليبصم فيها آثاره التي ستبقى حديث السوريين كلما تابعوا عملاً من الأعمال التي قدمها الراحل، ارقد بسلام يا نضال ومانتمناه أن يحلَّ الله السلام في هذا البلد وأن يبعث الأمن والاستقرار والطمأنينة في قلوب أبنائه ويهديهم إلى كل ما هو خير لسورية.
نضال سيجري حضور أقوى من الغياب
125
المقالة السابقة