خمسون عاماً مرّت على هزيمة حزيران 1967، والمراجعة العربيّة دولاً ومرجعيات ونخباً لم تكن بمستوى الحدث، فمعظم المراجعات أرجعت سبب الهزيمة إلى مسألة عسكريّة وضعف في القيادة العسكريّة وأدائها لا سيما ما نقلته وثائق وزارة الدّفاع المصريّة من سرديّة لما حدث في حزيران 1967. بعض الحركات الإسلاميّة اعتبرت أنّ الهزيمة نوع من الانتقام الإلهيّ لافتقاد الرّؤية الإسلاميّة والامتثال لتعاليمها. بينما كان المطلوب إجراء مراجعة نقديّة تقضي بوضع الحدث في مداره التّاريخيّ واعتبار الهزيمة هزيمة سياسيّة عسكريّة واقتصاديّة اجتماعيّة وليست عسكريّة فقط، وأيضاً ممارسة النّقد الذّاتيّ والاعتماد على العلم والمعرفة وامتلاك وسائل التّطوّر الحضاري وآلياته.
لقد كشفت الهزيمة عن حجم التّحالف الأميركيّ ــــ الإسرائيليّ المدعوم سعوديّاً من أجل القضاء على موقع مصر في الصّراع العربيّ ــــ الصهيونيّ وعلى النموذج التّنمويّ والسّياسيّ المستقل الّذي أسّسه الرّئيس جمال عبدالناصر في مصر. كما كشفت عن عدم تغيير في بنية النّظام المصريّ وسلطته رغم حصول بعض التّغيّرات الجزئية في أساليب السّلطة وطرق تعاملها وبعض الإصلاحات العسكريّة.
نصف قرن تفصل عن هزيمة حزيران 1967 و69 عاماً تفصل عن نكبة فلسطين في عام 1948، والخطاب العربيّ يعيد إنتاج نفسه باستخدام آليات التّفكير نفسها في محاولة تفسير وتبرير الهزائم أو تغيب القدرة على النّقد الذّاتيّ.
أكّدت التّداعيات أنّ هزيمة حزيران 1967 كانت بداية تراجع المشروع النّهضويّ العربيّ الوحدويّ، ومحطّة تحوّل في مسار التّطوّرات السّياسيّة والعسكرية والفكريّة في العالم العربيّ.
لقد شكّلت الهزيمة انتصاراً لـ"إسرائيل" كما حرّرت المقاومة الفلسطينيّة من ضغوط الأنظمة العربيّة الّتي عملت على تصعيد عملياتها الفدائيّة ضد الكيان الصّهيونيّ.
تحمّل الرّئيس جمال عبدالناصر مسؤوليّة ما حصل مقدّماً استقالته التي رفضتها ملايين المصريين بنزولها إلى الشّارع فاصلةً بين الهزيمة العسكريّة وإسقاط النّظام السّياسيّ في مصر واستمرار مواجهة "إسرائيل".
من رحم الهزيمة انتزع الرّئيس عبدالناصر في مؤتمر القمّة العربيّة في الخرطوم اللاءات الثلاث: لا للصلح لا للمفاوضات لا للاعتراف. معلناً العمل على محو آثار الهزيمة والصمود على المستوى السّياسيّ في مقابل الهزيمة على المستوى العسكريّ.
لقد حوّلت مصر عبدالناصر نتائج الصّمود إلى انتصارات عسكريّة عبر حرب الاستنزاف التي خاضها الجيش المصريّ بعد إعادة تنظيمه بدعم الاتّحاد السّوفياتيّ، هذه الحرب التي أنهكت العدوّ الصّهيونيّ، ومهّدت للانتصار في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973.
بعد هزيمة 1967 ووفاة جمال عبدالناصر في 28 أيلول 1970، دشّن الرّئيس أنور السّادات سلطته بإزاحة "اليسار النّاصريّ" وتهميش الهويّة العربيّة في مصر والانفتاح السّياسيّ والاقتصاديّ على الولايات المتّحدة الأميركيّة.
اغتال أنور السّادات الانتصار النّسبي على العدوّ الصّهيونيّ في حرب تشرين "أكتوبر" 1973 وحوّله إلى هزيمة سياسيّة.
بدأت مرحلة التّنازلات الكبرى بزيارة السّادت إلى القدس وبتوقيع اتفاقيات كامب دايفيد التي أخرجت مصر من الصّراع العربيّ ـــ الصّهيونيّ ومن دورها الرّياديّ في العالم العربيّ والّتي لا تزال القضيّة الفلسطينيّة والعالم العربيّ يعاني من آثارها السلبيّة حتى اليوم.
بعد الهزيمة والنّهج التّطبيعيّ الّذي أنتجه السّادات بزيارة القدس واتفاقيّة كامب دايفيد حصلت تراجعات الأنظمة العربيّة أمام سياسات الغرب و"إسرائيل"، فانعقد مؤتمر مدريد، ووقعت اتفاقيات أوسلو عام 1993 ووادي عربة عام 1994 وتفرّدت معظم الأنظمة العربيّة بنسج علاقات تطبيعيّة علناً وسرّاً مع الكيان الصّهيونيّ، حتى أعلنت بعض هذه الأنظمة أنّ "إسرائيل" ليست عدوّاً لا بل صديقاً تعقد معها التّحالفات ضدّ دول عربيّة أخرى وضدّ حقوق الشّعب الفلسطينيّ.
بعد هزيمة حزيران 1967 وغياب جمال عبدالناصر وتراجع العروبة والمشروع النّهضويّ العربيّ الوحدويّ، بدأ بدعم أميركيّ صعود الحركات الإسلامية، فقد برز نموّ الإسلام السّياسيّ الإخوانيّ في مصر وسوريا واليمن وحركة الاتّجاه الإسلاميّ في السودان بزعامة حسن التّرابي وعمر البشير، وحركة الإسلام السّياسيّ الشّيعيّ والحزب الإسلاميّ السّنيّ في العراق.
شهدت الجزائر انحسار جبهة التحرير الوطني الجزائرية لمصلحة الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، كما شهدت تونس انحسار البورقيبة لمصلحة حركة النّهضة (الإخوان المسلمون) وفي تركيا تصاعد دور حركة العدالة والتنمية (الإخوان) على حساب العلمانيّة وحزب الشّعب. وفي لبنان بعد الاجتياح الصّهيونيّ عام 1982 تشكّل حزب الله وتوسّعت الجماعة الإسلاميّة وتنظيم الأحباش، وفي إيران انتصرت الثّورة الإسلامية وهرب شاه إيران. وبدعم أميركيّ ـــ سعوديّ باكستانيّ نظّمت المجموعات الإسلاميّة الأفغانيّة والآلاف من الشباب العربيّ المسلم، وأطلق عليهم الأفغان العرب وشُكّلت التنظيمات الإرهابية القاعدة وطالبان والحزب الإسلامي، وأُطلقت مفاهيم الجهاد الإسلاميّ لإسقاط النّظام التّقدميّ في أفغانستان ومحاربة الجيش السّوفياتيّ الموجود في أفغانستان. بعدها سادت أفكار الإخوان المسلمين والوهابية الّتي نشرت القتل والذّبح وتدمير الدّول والمعالم التّاريخيّة والحضاريّة في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس ومصر.