تبدو عبقرية المكان الاستراتيجي لبلادنا في شرقي المتوسط بأجلى مظاهرها ومعاييرها في هذا الصراع المتلاحق إقليمياً ودولياً عليها، بحيث لا تكاد تضع حرب أوزارها حتى تبدو بوادر صراع جديد وحرب جديدة علينا وبنا.
وفي موازاة هذا، من عبقريتنا الذاتية كذلك، أن هذا المكان الممتاز رشح نفسه بؤرة للجماعات الثابتة فيه والمتحركة بين قارات العالم القديم الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، بحيث ندر أن بخل علينا شعب او قوم بنزوح ديمغرافي عبر التاريخ، من الهند والصين والقوقاز حتى أوروبا والمغرب فالسودان والجزيرة العربية، حتى صح في تنوعّنا قول المتنبي نسبياً "لا يفهم الحدَّاث إلا التراجم".
كانت تلك الهجرات تجد في الهلال الخصيب المرعى والمأكل والمأنس والمأوى والترحاب والأهل والحضارة فلا تطيق منه رحيلاً بعد أن أتته لاجئة او غازية، فتجد أن أفضل مصير لها ان تنتمي إليه وتصبح في نسيجه السلالي التاريخي ومزيجه الديمغرافي الشعبي.
بين عشرات الهجرات التي استضافتها سورية الطبيعية اثنتان هما الأخطر علينا، هي الهجرة اليهودية الصهيونية التي كانت تنتظم في خطة استيطان واقتلاع لشعبنا من فلسطين ومن ثم من محيطها بعد افنائه وتوطين شتات عنصري من لقطاء الأمم المتهودين محله في أرضه التاريخية.
ودرجت في عهد الدولة الدينية السلطانية أن أقصيت القواعد الإيمانية لتحل محلها فتاوى فقهاء الخلفاء والسلاطين التي أسست نزوعاً عنصرياً بدوياً يستوحي الجاهلية البائدة وطقوس الغلبة والخدعة والعنف في التوراة بدلاً من سماحة الإسلام الذي تبنى المسيحية المشرقية السورية الأصلية، بدءاً من الإقرار بنصرانية محمد وصولاً إلى الاعتراف بنبوة المسيح ومكانة السيدة مريم وغيرهما من أقانيم المسيحية وقواعدها. فسادت فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية وفلسفة ابي حامد الغزالة المتطرفة دينياً بعيداً عن عقلانية محضة وفكر ابن خلدون الأصولي.
في المقابل نشأ صراع فكري حاد في الاجتهاد الديني بين نزعتين: الحرف القاتل والروح المحيي. في النزعة الأولى يتوسع الفقيه في التفسير حرفياً في النص حتى ليغدو النص القرآني مقدساً في كل فاصلة منه، في الوقت الذي تنفي فيه هذه النزعة أية نوازع روحية راقية كالموسيقى وتحرم الفن والفلسفة وإعمال العقل بسبب أن الله نص على كل شيء في القرآن فلا داعي لاجتهاد يضيف إلى الحرف شيئاً. يقترن هذا بانتقاء حاد فإن نصت آية على أن يقتل المؤمن كافراً عندما يلتقيه، هذا يعني شن حرب ذبح وإبادة على المخالفين كلهم في أي وقت وبلا هوادة.
وحيث أصبحت النزعة الحرفية إرادة عسكرية مدججة بالسلاح وتتجاوب معها بنوك وإمارات وممالك وتدعمها مراكز أبحاث عملاقة لغاية في نفس يعقوب وتجند لها الميديا الاجتماعية ومصانع السلاح والخطط وتفتح الحدود وقنوات التلفزة لتصوّر جيشاً أسطورياً لا يقهر يحدد رقعة امتداده خلال سنوات معدودة بما يزيد عن نصف مليون كيلومتر مربع ويهدد بفتح اسطنبول وتلقين واشنطن درساً وباجتياح الخليج بعد إتمام فتح عواصم الهلال الخصيب، ويصادر آبار البترول والسهول الفسيحة والموارد الوطنية ويهجر السكان الآمنين.. فلمصلحة مَن اقتلاع و"قتل كل نسمة حي في أرض كنعان"، حسبما جاء في التوراة؟ هل لمصلحة الإسلام ستقبل هذه الشعوب وغيرها ممن يراقب ويرى للدخول في دين الإسلام افواجاً أفواجاً، أم المقصود من كل هذا الحراك الدموي هو العكس تماماً قتل الايمان بإظهاره دموياً لا روحانيا ولا قيمياً. وربما اندفاع الناس في ردة فعل معاكسة إلى دموية مقابلة وإلحادية مدمرة كذلك؟
ما يستهدف شعبنا من أعمال ذبح وتهجير وقتل وتسليع للإنسان الآمن في أرضه، واغتصابه وبيعه وإجباره على فرائض مبتدعة تهين كرامته وحقه في المعتقد والتصرف السليم والحياة الكريمة والسلامة والتعلم والقول والعمل، هو مخالفة مضادة لكل دين سماوي وقيمة إنسانية أكانت دينية شرعية او قانوينة وضعية.
في كل حال، نحن أبناء الأرض الأصليون، لا يمكننا ان نفر إلى أي أرض أخرى نحن غرباء عنها وهي غريبة عنا. فهذه أرضنا وقيمتنا منها وفيها وكرامتها منا وبنا، ولا يمكننا التفكير بأي خيار يظنه المخططون ويتوقعون نشر فيديوات الذبح ستدفعنا شعباً نازحاً خائفاً يجرفنا السيف السلفي التكفيري أمامه ليحتل أرضاً بلا شعب.
بعد زمن الانتصارت التي حققها شعبنا بالمقاومة، ما عادت فتنة مبتدعة تخيفه ولا عاد جيش مغولي تتري يهز إيمانه بحقيقته وهويته أبداً.
فنحن هنا. هنا كنا. وهنا باقون. وفي هذا كل معنى حياتنا وكل حضور وجودنا.
بعد كل جلجلة قيامة، وبعد التخلف والتوحش نهضة جدسدة آتية لامحال.
نحن هنا كنا وهنا باقون
114
المقالة السابقة