لأكثر من 60 عاماً، كانت المعركة ضدّ العدوّ الصّهيونيّ تُخاض وفق نهج تقليديّ: على مستوى المؤسّسات العالميّة والدّول. مسرح المعركة هذا كان محكوماً بالفشل لأنّه مقيّد بثلاثة عوامل قاتلة:
1. الغرب الذي زرع الصّهيونيّة كرأس حربة له.
2. دول عربيّة محكومة بالتّبعيّة للغرب.
3. مؤسّسات دوليّة محكومة بالتّبعيّة للرأسمال العالميّ الذي تُحْكِم الصّهيونيّة وصانعوها قبضتهم عليها.
الرّهان على هذا المسار كان حماقة استراتيجيّة، وللأسف لا يزال له منظّروه والعاملون من خلاله ناشطين حتّى يومنا هذا.
تاريخيّاً، أفضل ما توصل إليه هذا المسار يمكن أن يكون فيه فائدة لقضيّة فلسطين، كانت منظّمة "الحياد الإيجابيّ" في خمسينات وستينات القرن الماضي، التي قامت على أكتاف ثلاثة قادة تاريخيّين: جمال عبد النّاصر، جواهر لال نهرو، ورئيس يوغوسلافيا (الموحّدة) جوسيب بروز تيتو.
لكن المسار الإمبرياليّ للغرب كان أعمق تخطيطاً استراتيجيّاً، أكثر حذاقة، وقادراً على توظيف مروحة واسعة من المقدّرات، المشروعة وغير المشروعة، لتحقيق أهدافه.
توفي نهرو في أيار 1964، عبد النّاصر في أيلول 1970، وفي وسط تلك الفترة بين الوفاتين كانت نكسة حرب حزيران 1967 التي سُحِق فيها الجيش المصريّ. أما الرّئيس تيتو فقد توفي في أيار 1980، لحسن حظه قبل أن يشهد بلاده تتشظّى إلى سبع دول.
إنّما، لنكون متسامحين، نقول إن العرب كانوا خارجين من وطأة عقود من الانتداب الاستعماري التي تلت بضعة قرونٍ من القمع العثمانيّ، العسكريّ، السياسيّ، الاقتصاديّ، الحضاريّ، الثقافيّ. لم يمتلك العرب المقوّمات الفكريّة، الخبرات اللازمة، ولا الأرضيّة العسكريّة – السّياسيّة – الاقتصاديّة – الإعلاميّة، لخوض هذه المعركة ضدّ عدوّ مدعوم من معظم قوى الأرض المؤثّرة وأكثرها تقدّماً وتطوّراً.
وإذا وضعنا التّسامح جانباً، نقول إن القبليّة والفساد والخيانة نخرت جسد الأمّة العربيّة حتّى العظم، ففقدت استقامة مسارها الّذي أخذ نهجاً "انبطاحيّاً" إمّا للغرب، للجهل، للفقر، للتّناحر الدّاخلي، أو للجشع… أو لتلك العوامل مجتمعة.
بارقة أمل وحيدة ظهرت في ذلك المحيط المتلاطم: الناصريّة، الّتي أمّنت المخزون العاطفي والحماسي الّذي التفّتْ حوله الجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج، وهي بدأت في مسار تكوين الشخصيّة القوميّة العربيّة المستقلّة، لكنّها تسرّعت في خوض معارك لم تكن مهيأة لها، فانتكست، ثم اضمحلّت تدريجيّاً بعد وفاة رمزها الأوحد.
… وإن كانت النّاصريّة قد ساهمت في إنتاج نجاح واحد بالغ الأهميّة والدلالة: نجاح الثّورة الجزائريّة، الشّعلة المضيئة الوحيدة في ذلك الظّلام الدّامس المسمّى التّاريخ العربيّ المعاصر.
عودة إلى فلسطين، النّتيجة لهذا النّهج العقيم كانت كارثيّة:
– استمرار احتلال فلسطين ونموّ سكان إسرائيل خلال الـ 30 سنة الأخيرة من 3 إلى 6.2 مليون مستوطن.
– نموّ الاستيطان في الضّفّة الغربيّة خلال 30 سنة من أقل من 100 ألف إلى أكثر من 600 ألف مستوطن.
– تدمير منهجيّ لقطاع غزّة من خلال القصف الوحشيّ في أربع عمليّات عسكريّة كان هدفها الأساسيّ مراكمة الدّمار، زائداً إفقاره عبر الحصار… زيادة في الإذلال.
– حصارٌ خانقٌ يلفّ الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة عبر أشكال مختلفة من التّضييق المدنيّ، الاجتماعيّ، الإدرايّ، الخدماتيّ والماليّ.
– خمسة قرارات رئيسيّة لمجلس الأمن وعشرات القرارات والتّوصيات للهيئة العامّة للأمم المتّحدة، ضربت بها إسرائيل عرض الحائط، جملةً وتفصيلاً.
– أكثر من 40 مرّة استخدمت فيها أميركا حقّ النّقض الفيتو لحماية إسرائيل.
– مماطلة أميركيّة – إسرائيليّة ممنهجة ومُنسّقة في "عمليّة السّلام" وفق اتّفاق اوسلو، ما أفرغ العمليّة من إمكانيّة تطبيقها منذ أكثر من 10 سنوات (أي منذ 2005، تاريخ الانسحاب الإسرائيليّ من غزّة).
– تمكّنت إسرائيل ورعاتها في الغرب وحلفاؤها الصهيو-عرب من نشر عدد من الصّراعات البديلة في المشرق، تُريح إسرائيل كي تتفرّغ لبناء اقتصادها، وبالتوازي، تقوم بتدمير ممنهج للدّول والقوى الّتي تشكّل تهديداً لها.
– تفعيل حلف واسع لحماية إسرائيل وتعزيز نفوذها في المنطقة، مؤلّف من الدّول الغربيّة الكبرى: تركيا، الأردن، ودول الخليج، وأضيفت إليها مصر بنتيجة التّغييرات التي حملها "الربيع الاستعماريّ".
– وضع عدد كبير من الدّول العربيّة الأخرى في مسار يساعد إسرائيل بشكل غير مباشر، ونشر اضطرابات داخليّة فيها بهدف الابتزاز الأمنيّ (مصر، السّودان، تونس، المغرب، ليبيا، الجزائر، العراق).
– فتح مجال العلاقات الدّوليّة واسعاً أمام إسرائيل، مستخدمة التّطوّر الصّناعيّ والتّكنولوجيّ الّذي يتسرّب مباشرة من الغرب إليها، لتُسوّقه من دون قيود إلى دول مثل الصين والهند وروسيا. فتجني منه أرباحاً كبيرة، وتستخدمه لتطوير علاقة مصلحيّة واسعة مع تلك الدّول
– الرّساميل العربيّة الضّخمة، خاصّة من دول الخليج، تذهب لتوظيفات في أميركا والغرب، وجزء وازن منها تستفيد منه إسرائيل إمّا بشكل استثمارات مباشرة (كما لقطر والإمارات) في شركات إسرائيليّة، أو عبر شركات دوليّة تمتلك جزءاً من عمليّاتها التّصنيعيّة في إسرائيل.
هذا النّهج الّذي يناسب المشروع الغربيّ وإسرائيل والصهيوعرب، يحقّق أهدافه عبر السّماح باستخدام مرور الزّمن لصالح تثبيت المشروع، يضمن العقم الكامل لإمكان حصول أيّ تقدّم لمصلحة الشّعب الفلسطينيّ، ويقوّي إسرائيل لتكون ضمانة الاستمراريّة لحيثيات المشروع والأفرقاء المنخرطين فيه.
النهج البديل
————–
البديل المنطقيّ لهذا النّهج الكارثيّ لا بدّ أن يتمثّل بمسارات:
1. تتخطّى مواقع القوّة للعدوّ الصّهيونيّ.
2. فهم معمّق لنقاط ضعفه.
3. التّخطيط الاستراتيجيّ السّليم لمراكمة مئات الانتصارات الصّغيرة في مختلف حلبات الصّراع، في الأمد الطّويل الّذي قد يدوم عدّة عقود.
4. الصّبر الاستراتيجيّ منعاً من التّسرّع في التّنفيذ، والوقوع في أخطاءٍ تعيد الصّراع إلى الحلبة الّتي يسيطر العدوّ على مقدّراتها: المؤسّسات الدّوليّة والدّول غير الموثوقة.
أمّا المسارات المطلوبة فتتفرّع إلى خمس حلبات صراع، لكلّ حلبة خصوصيتها ومقوّماتها، لكنّ التكامل الاستراتيجيّ بينها ضروريّ لصناعة التّاريخ الضّامن للمستقبل المستقلّ:
1. الرّدع العسكريّ.
2. محاصرة إسرائيل في إطار المحيط الشعبيّ العالميّ.
3. التضييق الاقتصاديّ على إسرائيل.
4. تقليص الهجرة إلى إسرائيل وتشجيع الهجرة المعاكسة.
5. تحويل تدريجيّ لمواقف بعض الدّول المؤثّرة لتكون موثوقة في رفض إسرائيل.
***
حتى حرب تموز 2006، كانت الحرب ضدّ المشروع الغربيّ ـــــ الصّهيونيّ واضحة: العدوّ هو إسرائيل، والمعركة تُخاض مباشرة مع الجيش الإسرائيليّ. وبفضل نتائج حرب تموز 2006، فرض حزب الله معادلة ردع عسكريّ فعّالة في الجنوب اللبناني ضدّ الجيش الإسرائيليّ.
أيقنت أميركا ضرورة تغيير المسار الحربيّ إذا كان سيُكْتب للمشروع الغربيّ- الصّهيونيّ النّجاح. استجمع المشروع الغربيّ قواه، رسم خططاً جديدة ومسارات بديلة، وبدأ بتنفيذها:
1. تفعيل دور قوى التّطرّف الإسلاميّ: قتل القوميّة العربيّة، وتحويل الصّراع إلى إسلاميّ- مذهبيّ، واستبدال "القوميّة العربيّة" المعاديّة لإسرائيل بـ"العروبة" المعاديّة لإيران و"الهجمة الفارسيّة".
2. تدريب وتسليح جيوش الدّول التي حسمت تبعيّتها للغرب، وتحضيرها للعب دور مؤثر في الحروب المستقبليّة، وربطها مع حلف الناتو. موازنة هذه التحوّلات العسكريّة لا تقلّ عن 300 مليار دولار في السّنوات العشر الماضيّة، بين مشتريات سلاح، كلفة مدربين ومستشارين عسكريّين غربيّين (11,000 في السعوديّة و5,000 في باقي دول الخليج)، تكاليف استخباريّة ولوجستيّة، ورواتب مسلحين.
بنتيجة هذا المسار العسكريّ الغربيّ الجديد، أصبح العدوّ اليوم مركّباً من ثلاثة مقوّمات عسكريّة، وممتدّاً على كامل مساحة المشرق. المقوّمات الثلاثة هي:
1. الغرب وإسرائيل وتركيا والناتو: مشاركتها الحربيّة تنحصر حتّى الآن بالتّخطيط، التّوجيه الاستخباريّ، والقصف الجويّ، إضافة إلى تدخّلات مسانِدة متفرّقة عبر القوّات الخاصة، لكنها منتقاة ومؤثّرة. كما لا يمكن إلغاء احتمال الدّخول المباشر لقوّات تلك الدّول في معارك محدودة، لمحاولة منع انقلاب الكفّة العسكريّة لصالح القوى المقاومة للمشروع.
2. القوى القاعديّة- الإخوانيّة المسلّحة (باستثناء كتائب القسّام): وجود فاعل في سوريا والعراق واليمن وليبيا، إضافة إلى وجود مؤثّر في دول عربيّة متفرّقة.
3. جيوش الدّول التي حسمت تبعيّتها للغرب (السعوديّة ودول الخليج + الأردن)، وهذه الجيوش قد تضمّ في صفوفها عند الّلزوم قوات من المرتزقة العالميّين.
أيّ توجّه لتحقيق ردع عسكريّ ضدّ الغرب وإسرائيل يجب أن يأخذ في الاعتبار هذا المشهد العسكريّ بكامله: المقوّمات العسكريّة جميعاً وكامل مساحة المشرق.
الدّخول العسكريّ الروسيّ إلى سوريا في أيلول 2015 يساعد جزئياً في ترجيح كفّة القوى المُقاوِمة للمشروع الغربيّ، لكن لا يمكن التعويل عليه في الأمد الطّويل، أو في انخراطه في ساحات المواجهة كافة، خاصّة في مواجهة إسرائيل. على الأقل ليس بعد.
التّوظيف الفعّال والأساسيّ للوجود العسكريّ الروسيّ هو في إزالة أحد المقوّمات العسكريّة للهجمة الغربيّة: القوى القاعديّة والإخوانيّة المسلّحة. من الممكن تصوّر مسار واضح يؤدي إلى إزالة هذه القوى من المعادلة على الأقل في المشرق (وهذا الوضع هو بالتحديد ما يدفع أميركا والناتو إلى انتقاد روسيا بأن عمليّاتها لا تتركّز على داعش فقط).
فوائد ردعيّة أخرى للوجود الروسي: وضع سقف لمقدار التّدخّل الممكن لقوّات الناتو في سوريا والعراق، ولجم الاندفاع التركيّ لتأسيس مناطق نفوذ عسكريّ أكثر ارتباطاً بها في العراق وسوريا.
الذي نراه اليوم في تضافر المجهود العسكريّ لحزب الله، الجيشين السوري والعراقي، الحشد الشعبي، ومروحة واسعة من التنظيمات المُقاوِمة، وتكامل نشاطها الميداني على أرض سوريا والعراق، يعطي الأمل في تكوّن حراك مشرقيّ منسّق يواجه الهجمة الاستعماريّة، ليس بشكل قطري محدود، وإنما بشكل يتخطّى الحدود على كامل تلك الساحة… تماماً كما هي تلك الهجمة.
مواجهة إسرائيل على المستوى الشعبيّ
—————————————-
لا بدّ لمسار ناجح في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ أن يتخطّى مواقع القوّة للعدو الصّهيونيّ، ويترافق بفهم معمّق لنقاط ضعفه. هذا يعني حتماً: تخطّي المؤسّسات الدّوليّة والقيادات السّياسيّة للدول، والتّوجّه مباشرة إلى القاعدة الشعبيّة في العالم.
القاعدة الشعبيّة في أغلب دول العالم المؤثرّة في السّياسة العالميّة، قادرة عبر تحريك مدّ شعبيّ كبير ومراكمة إنجازات مؤثرة لصالح قضيّة معيّنة، أن تفرض تغييراً في سياسات حكوماتها.
المحيط الشعبي هو وحده القادر على توليد المدّ العالميّ الّذي يتخطّى المؤسّسات وقيادات الدّول، ليجرف الباطل الّذي لفّ الشّعب الفلسطينيّ في تضليله واضطهاده، ويعيد إلى المظلوم حقّه. كما فعل من قبل في جنوب أفريقيا.
تجذّر وتبنّي قضيّة ما في وجدان عامّة الشّعب يمكن تحقيقه عبر نضالات هادفة ومركّزة ومنطقيّة، تعرض عدالة القضيّة ببساطة فطريّة لا تقبل الجدل. هذا التّوجّه بات ممكناً وفعّالاً نظراً إلى وجود انتشار واسع فلسطينيّ- عربيّ في كلّ أنحاء العالم، وللاستخدام الواسع لوسائط التواصل الاجتماعي، ما سهّل إيصال المعلومات والأحداث خلال وقت قصير من حصولها، إذا لم يكن مباشرة.
مبدأ خوض الصّراع ضدّ الصّهيونيّة على مسرح المحيط الشعبيّ العالميّ بسيط:
الصّهيونيّة تحمل عناصر ضعفها وانهيارها في رحمها: العقيدة المتطرّفة، التّمييز العنصريّ، انتهاكات حقوق الإنسان، ومعاداة الإنسانيّة… وهذه هي نقاط الضعف الواجب مهاجمتها.
إذا كانت المؤسّسات الدّوليّة والقيادات السّياسيّة تتأثر بشكل مباشر بالاعتبارات المصلحيّة الاقتصاديّة – الأمنيّة – السّياسيّة، فإنّ هذه الاعتبارات لا تؤثر في تكوّن الرأي عند الإنسان العاديّ، أو في تصرّف المحيط الشعبيّ.
القاعدة الشعبيّة، إذا تزوّدت بالمعلومات الصّحيحة، وتمكّنت من رؤية الأمور على حقيقتها، فهي وحدها قادرة على التحرّك من المنطلق المناقض للصهيونيّة والمتمثّل بالمبادئ الإنسانيّة العامّة الّتي تتفق عليها الغالبيّة السّاحقة من البشر: التساوي في الحريّة والحقوق والإنسانيّة.
هذا أحد أوجه نشاط حركة "قاطع، افصل، عاقب" (قاع) الّتي تمكّنت من نقل المعركة مع العنصريّة الصّهيونيّة إلى المسرح الأساسيّ الّذي يجب أن تُخاض فيه تلك المعركة: المحيط الشعبيّ في دول العالم، القادر بالفطرة على التّمييز بين الحقّ والباطل، من دون تضليل إعلاميّ أو اعتبارات مصلحيّة.
النّشاط الّذي بدأته "قاع" قبل عشر سنوات، سريعاً ما لاقى أرضاً خصبة لدى الفئات المثقّفة، المهنيّة، النّاشطة في حقوق الإنسان، والشّبابيّة – الطّلابيّة التي غالباً ما تتبنّى قضايا ذات محتوى مبني على العدالة والمساواة.
هذا النّشاط الهادف تمكّن من العمل الفعّال في وجهتين أساسيتين:
1. إيصال حقيقة العقيدة العنصريّة للصهيونيّة، التّصرّفات القمعيّة للاحتلال، وممارسات التّمييز العنصري للحكومة، القضاء، الهيئات الدّينيّة، القوّات المسلّحة والأمنيّة، والمستوطنين في الكيان الصّهيونيّ.
2. طرح واقعيّ وعمليّ لما يمكن أن يفعله كلّ متعاطف ومتفهّم لهذا الوضع الشّاذّ، المتطرّف في العنصريّة، والمغرق في الظّلم الإنسانيّ.
الفكرة تتمثّل في جدليّة بسيطة: أنت ترفض تلك العقيدة، الممارسات التي تتسبب بها، والظلم الناتج منهما… عبّر عن مشاعرك، وشارك في حراك ضمن مجالك كتعبير عمليّ لرفضك.
وما زاد في قوّة هذا الحراك، تبنّي عدد كبير من المفكّرين والمثقفين والفنّانين اليهود له، ومشاركتهم الفعّالة فيه، كتعبير عن رفضهم أن تكون العقيدة الصّهيونيّة المتطرّفة تمثّلهم كيهود، كونها تتبنى سياسات مشحونة بالتّمييز العنصريّ الدّينيّ والعرقيّ، وتحضّ على ممارسات قمعيّة، عنفيّة، ولا إنسانيّة.
وسائل التّعبير أخذت أشكالاً متنوّعة: ثقافيّة، طلاّبيّة، فنيّة، حراكات شبابيّة وطلابيّة، حملات مقاطعة، احتجاجات ضدّ تحدّي إسرائيل لقرارات الشرعيّة والقانون الدّولي، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، ومقاطعة اقتصاديّة لشركات تدعم الممارسات الصّهيونيّة في إسرائيل أو تساهم في تدعيمها ونشرها.
الصّراع المستند إلى المؤسّسات الدّوليّة وقيادات الدّول، كان ينطلق من أرضيّة مغلوطة أساساً:
وجود إسرائيل قضيّة مفروغ منها، ويحقّ لها أن تقرّر إذا كانت تريد أن تكون يهوديّة الدّين، وعلى الآخرين القبول بذلك أو الرّحيل. هذا المنطق يتغاضى عن شكاوى الممارسات العنصريّة وانتهاكات حقوق الإنسان، ويبرّرها بمقولة "الدفاع عن النفس".
في المقابل، تكمن القوّة الهائلة للحراك في إطار المحيط الشعبيّ الّذي نجحت "قاع" في تحشيده، في أنّها أعادت الصّراع إلى جذوره الأساسيّة، وفصّلت عناصره الشّاذّة التي تتضمّن انتهاكات عديدة، ظالمة، لا إنسانيّة، ومنفّرة لمشاعر الإنسان العاديّ:
– إسرائيل قامت على سلب أرض شعب آخر قامت بتشريده.
– بطلان مقولة أنّ الصّهيونيّة أتت إلى بلاد متخلّفة قليلة السّكّان.
– إسرائيل تدّعي الدّيمقراطيّة لكن ممارساتها نحو العرب، اليهود الملوّنين القادمين من دول فقيرة، والعمّال الوافدين سعياً وراء فرص العمل… تنطبع بالتّمييز العنصريّ العلنيّ والوقح واللا إنساني.
– لا يمكن للإنسانيّة أن تقبل بمقولة: هذه أرضي لأن الله وهبني إياها… وعلى ساكنها الفلسطينيّ أن يرحل، وإن كان من أصول تلك الأرض، لأن بقاءه يخالف "إرادة الله".
– مقولة أن البشر من غير اليهود، خلقهم الله لخدمة اليهود شعب الله المختار، كلام مُغْرِق في التّطرّف والتعصّب، معتقدٌ متجذّر في التّمييز العنصريّ والعداء للإنسانيّة، ومرفوض من أساسه.
– هذا القدر الهائل من ممارسة انتهاكات حقوق الإنسان مرفوض، خاصّة أنّه يحصل بحماية الهيئات الرّسميّة والقضائيّة والأمنيّة والعسكريّة للكيان المزعوم، وبتمويه وتضليل من حماته الخارجيين.
– ليس مقبولاً أن تعتبر إسرائيل نفسها خارج إطار المحاسبة في رفضها وتجاهلها للقانون الدّولي وقرارات الهيئات العالميّة.
– إسرائيل تشكّل خطراً على السّلم العالميّ نظراً إلى امتلاكها ترسانة كبيرة من القنابل النوويّة، وترفض الانضمام إلى معاهدة حظر ومراقبة السّلاح النّوويّ.
– رفض كون الدّستور والمجتمع في إسرائيل يعطي قدراً هائلاً من الأفضليّات لليهوديّ، وذلك على حساب حريّة وحقوق مكوّنات المجتمع الأخرى.
– رفض كون الموارد، الخدمات، المنافع العامة، فيها احتكار واسع لصالح اليهود، ما ينتج منه معاناة إنسانيّة، بيئيّة، اجتماعيّة، صحيّة، ثقافيّة… وغيرها الكثير، لغير اليهود.
– رفض ممارسات الاستيلاء التّعسفي على الأرض المملوكة من الفلسطينيّين بحجّة "الضّرورات الأمنيّة والعسكريّة"، والسّماح للمستوطنين بالإقامة فيها، في وقت يُمنع الفلسطينيّ من دخولها، وفي جميع الأحيان، ينتج منها ضائقة اجتماعيّة واقتصاديّة وشخصيّة لأعداد كبيرة من الفلسطينيّين.
– رفض سياسة منع الفلسطينيّين من صيانة وتحسين أو توسيع أماكن سكنهم، ومضايقة سكان الأحياء العربيّة بمحاصرتهم بالبؤر الاستيطانيّة غير الشرعيّة، إضافة إلى تسهيل استيلاء المستوطنين على المنازل التي يستأجرها الفلسطينيّون.
– رفض الجدار الفاصل الّذي بنته إسرائيل واقتطعت عبره أكثر من 15% من مساحة الضّفّة الغربيّة، وشرذمت عدداً كبيراً من الأحياء والقرى والعائلات الفلسطينيّة.
– رفض القوانين والممارسات الّتي تجيز للاحتلال منع التواصل بين فلسطينيي 1948 والضّفّة والقطاع، والاستيلاء على أراضي وممتلكات الفلسطينيّين في الضّفّة الغربيّة إذا كانوا مقيمين في الخارج، أو حتّى في أراضي 1948.
– القمع المتواصل والتضييق الاجتماعي والحياتي والاقتصادي والخدماتي للمدنيين الواقعين تحت الاحتلال، في مخالفة صريحة للقانون الدّوليّ.
– وجود إسرائيل كدولة في صيغتها الحاليّة مرفوض كونه يكرّس الوضع الشّاذ السّائد، يشجّع التّطرّف والعنف لدى المستوطنين، يُثقّف ويربّي من منطلقات عنصريّة، ويعمّم الممارسات القائمة على قهر واضطهاد الآخرين.
– المواطن اليهودي في إسرائيل يتحوّل إلى شخصٍ إنسانيته مشوّهة تتقبل الشّواذ، تمارس الكذب والتضليل لتبرير ممارساتها، ولا تتردّد في العنف القاتل لفرض رأيها. أمّا في الدّول الّتي أتوا منها فهم مواطنون عاديون. المنطق الإنساني يقضي بوقف هذا التنقل الدّيمغرافي المستند إلى الانتماء الدّينيّ العنصريّ حصراً، والّذي يكرّس كيان التمييز العنصريّ، ويشوّه المحتوى الإنسانيّ للبشر، وعلى رأسهم اليهود.
– ضرورة العمل لأجل قيام كيان بديل تتحقق فيه المساواة في الحقوق والواجبات، يعطي للشعب الفلسطينيّ الّذي طُرد من أرضه وتشرّد في أنحاء الأرض حقوقه في الحريّة والعدالة والمساواة، والمشاركة الحقيقيّة في الموارد والخدمات، بشكل يلغي التّمييز الحاصل حالياً بين اليهود وغير اليهود.
هذه المروحة الواسعة من الشّواذ (والبدائل المنطقيّة والعمليّة لها)، يتم عرضها وتقديمها في مواد بسيطة ومباشرة وحقيقيّة ومؤثّرة. بعد ذلك، يتم تأطير المتعاونين والمتعاطفين والناشطين في حراكات تتناسب مع مواقعهم وقدراتهم والوسط الفاعل الّذي يؤثّرون به.
النّتائج الّتي تتولد من هذه الأنشطة الّتي تتجمّع من تكامل عشرات آلاف الحراكات الفرديّة والجماعيّة، أصبحت مؤثرة بشكل يرعب إسرائيل ويدفع اللوبي الصّهيونيّ إلى تركيز جزء كبير من نشاطه لمحاربتها.
تتجلّى تلك النّتائج في حلبات الصراع الثلاث الأخرى: التّضييق الاقتصادي على إسرائيل، تقليص الهجرة إلى إسرائيل وتشجيع الهجرة المعاكسة، وتحويل تدريجيّ لمواقف بعض الدّول المؤثّرة لتكون موثوقة في رفض إسرائيل.
***
من المفارقات المُربكة، لكن الفائقة النّفع، هي أن عدونا يمهّد لنا الطريق لفهم طبيعة الصّراع في هذه المرحلة، ويعطينا دروساً (غير مقصودة) في أيّة استراتيجيّة نتبنّى! عدوّنا يُجْبرنا عبر تكتيكاته وممارساته، أن نعدّل خططنا، ونعيد تنظيم صفوفنا كما يجب أن تكون، بحكم الضرورة، وليس بفضل تحليل استراتيجيّ صائب!
لكن في النهايّة، لا يهمّ كيف نصل إلى تبنّي استراتيجيّة صائبة، بقدر ما يهمّ: أن نفعل! المخاطر الاستراتيجيّة الّتي نواجهها في هذه المرحلة تتلخص بما يلي:
1. ترابط عضويّ بين مشروعي إسرائيل التوراتيّة وتركيا العثمانيّة.
2. نشر أجواء التّطرّف والتّعبئة الإعلاميّة استناداً إلى العنصريّة الدينيّة والمذهبيّة أو العرقيّة، وخوض الحروب من منطلقات هذه الأجواء.
3. تأجيج المشاعر المذهبيّة عند أهل السنة لإبعادهم عن موقعهم التّاريخيّ العروبي المعادي للاستعمار والصّهيونيّة واستخدام متطرّفيهم في معارك بديلة متماهيّة مع العدوّ، والتشهير بالحراكات القوميّة أو المقاومة بينها كـ"خيانة أهل السنة".
4. استدراج الشّيعة وإيران إلى مواقع التّطرّف المذهبيّ الشّيعيّ ضدّ السّنة، لكي تصبّ حراكاتهم في نفس الاتّجاه العنصريّ الدّينيّ مع المشروع الاستعماريّ.
5. استخدام العنف التّدميريّ للتّنظيمات القاعديّة كوسيلة لاقتلاع البيئات الحضاريّة والتّكوينات الاجتماعيّة والاقتصاديّة السابقة، تقويض الدّول، وتكوين تجمّعات من ملايين المهجّرين لإعادة تجميع أكثرهم وفق الاستقطاب الطّائفي بعد ترحيل فئات محدّدة منهم إلى الغرب.
6. تجميع غير مسبوق لقوى منخرطة في الهجمة: دول – استخباراتها وجيوشها، غرف عمليات عسكريّة متطوّرة، تنظيمات مسلّحة متطرّفة يتم تدريبها، تسليحها وتأمين لوجستياتها، سلاح جو ضخم، إعلام مركّز وموجّه ومتناسق، وجمعيّات ومنظّمات غير حكوميّة.
الصّراع الحاليّ في السّاحة المشرقيّة، بالغ الأهميّة بالنسبة إلى المشروع الأميركي- الصّهيونيّ بهدف الهيمنة على تلك السّاحة الاستراتيجيّة الّتي تشكّل مدخلاً إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا، وإعادة تكوينها على شكل بيئة عنصريّة مذهبيّة وعرقيّة حاضنة لإسرائيل- الدّولة العنصريّة الصّهيونيّة.
وهو ليس أقل من حرب عالميّة بجميع مقاييس الحروب خاصّة بعد الدّخول الرّوسيّ العلني منذ حوالى السّنة (والصّيني خلف السّتار).
في حرب فييتنام، كانت هزيمة أميركا نكراء عام 1975، لكنّ تماسك وضعها الدّاخليّ سياسيّاً واقتصاديّاً، مكّنها من نقل حربها ضدّ الاتّحاد السّوفياتي فوراً إلى أفغانستان، لتتمكّن من إسقاطه بعد أن نصبت فخّاً لجيشه شبيهاً بفخ فييتنام لأميركا.
لكنّ نظام الاتّحاد السّوفياتي الذي كان متداعياً أصلاً، لم يتحمّل الصّدمة (كما تحمّلت أميركا صدمة هزيمة فييتنام)، فكان الانهيار المدوّي في 1991، ثلاث سنوات بعد خروج الجيش السّوفياتي من أفغانستان.
دروس بليغة يمكّن تعلّمها من فهم التاريخ.
أهمها في ساحة الصّراع الّتي نعيش فيها كشعوب مشرقيّة: خوض الصّراع لا مهرب منه، فالهجمة لن تتوقف طالما استمرّ الوجود الإسرائيليّ.
من الضروريّ استيعاب حقيقة استراتيجيّة لا مناصّ منها: الصّراع لإسقاط المشروع الأميركي هو الوجه الآخر لصراع إزالة الكيان الصّهيونيّ. لذلك، ساحة الصّراع لم تعد الجغرافيا الفلسطينيّة فقط، بل المشرق بكامله، وهذا ليس بالمستغرب، لأنّ الهدف التّاريخيّ للصهيونيّة هو إسرائيل التوراتيّة من النيل إلى الفرات.
أيّة نظرة أخرى إلى الصّراع، سوف تكون قاصرة عن تحضير المقدّرات الضّروريّة لمواجهته، ناهيك عن هزيمته.
نعم، البوصلة هي فلسطين. لكن فلسطين اليوم ليست جغرافيا 1948، بل جغرافيا عام 2050، وعندها بحسب مخطّط الحركة الصّهيونيّة، يصل عدد اليهود إلى 12 مليوناً يعيشون في إسرائيل التوراتيّة.
لا جدال أن فلسطين هي البوصلة، لكن فلسطين هي المشرق بكامله.
استراتيجيّة متكاملة لمواجهة المشروع الاستعماري الغربيّ