كالمستشعِر اقتراب ساعته، يسارع، وقد فاته إنجاز أمرٍ في حينه، إلى إسماع محدّثه ما يشبه رسالة وداعٍ أو وصية…، ومثل هذا الإحساس كان يساورني كلما زرت الأمين منصور، أواخر أيامه بيننا. إذ طالما استحبّ أن يردّد على مسمعي عبارة للخالد سعاده، كان قالها، أربعينيات القرن الماضي، في رثائه يوسف الأشقر، الأخ الأكبر للراحل الأمين أسد… وقد جاء فيها: "ليست الدنيا موتاً وحياةً، إنما الدنيا أموات وأحياء، فكم على الغبراء من أموات يدرجون، وكم في القبور من أحياء يُرزَقون".
وها أنذا أستعيد العبارة مُلحةً، بعد الغياب كما لو أنها تدعوني إلى أن أبدأ كلمتي في الراحل بالعزة والكبر، بما كان هو يستحب أن يسمع ويُسمع… وليس يُخفى على من خبر الدهر في يوَمَيه، بل لا يُخفى، على الذي "لا يقصد في الحياة لعباً"، أن حياتك ما ستبقي منك حياً.
بعد جهاد طويل على غير جهة، وفي غير ميدان، انتقل منصور عازار إلى الجوار المعروف، مقارنة بما في "دنيانا"، بدنيا الحق، ولم يبق للمجاملة مجال، لم يبق ما يُقال إلا كلمة تليق بمقتضى الحال والمقام الأخيرين: كلمة حق، حيث العدل بأدقّ الموازين.
مضى المعتاد أن يحتكم إلى الشرع الأعلى ميراثاً ومقياساً، بنفسٍ مطمئنةٍ إلى رصيد صاحبها في يوم الحساب، مضى وكلّه ثقة أن القضاء في المقلب الآخر، عادل بالحتم والحسم والضرورة، ومن دون حاجة إلى تدخّل المنتفعين من بيع الصلوات، ومن السلطان الذي قيل إنه أعطي لهم من أجل مغفرة الخطايا… فلا شفاعة هناك إلا ما تسجله أعمالنا "هنا"… "ولكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت". وكل ما دون ذلك باطل وقبض الريح.
لقد طوى صديق الكتاب والكتّاب، منذ أربعين يوماً، آخر الصفحات من كتاب العمر. أخذ الكتاب معه بياناً عن الأمانة على الوزنات، تاركاً لنا نسخة عن صفحة لفهرس وعناوين، يستعين بها من أراد أن يعرف ما كان قد ضمّه الكتاب، الكتاب الذي رقمت صفحاته ثلاثة وتسعون عاماً….
وعلى الرغم من تعدد الموضوعات والفصول، فالعناوين، في جلّها، تكشف عن جوهر نفسٍ ما وُجدت إلا لتفرض حقيقتها على الوجود.
منصور عازار الذي تحررّ بالحق الذي عرف، وشهد له قولاً وفعلاً، يعرف جيداً أن التاريخ لا يقبل شهادةً إلا إذا كانت مصدّقة بختم أعمالٍ ومن كلا شاهد، أو مشهودٍ له أو عليه. وإن كان لا بد، هنا، من شهادة ترفع فمن أجل الورثة لا من أجل من ورّث. فهو وفّى للعلى قسطه وراح، وعلى الباقين بعده أن يستكملوا عهده.
إرث منصور عازار، لا شك، كبير. والمشتركون في الميراث كثيرون. ومع ذلك، فكثرتهم لا تقلل حصة أحد. قلت إنهم كثيرون لأنهم أبعد واشمل من أم ميشال، وهادية وميشال وفادية وفداء، ومن كل الأقربين، والأولى منهم بالمعروف، ومن الذين يمكن أن ينالهم من الإرث، المعروف بالقانون، نصيب ما تركه منصور عازار من منقول وغير منقول، ومن معروف وغير معروف لا يجري عليه مفهوم حصر الإرث العادي… فالتركة، كماً ونوعاً، تفرض أن يتجاوز ورثتها حدود "بيت الشعار" والمحيط. ولو أنها انحصرت هناك لما كان بنا حاجة إلى الحديث عنه وعنها. كنا خلينا الأمر لمن يهمهم الأمر هناك.
أما نحن المعنيين بأمر آخر فمطالَبُون ومطالبِون بالإضاءة على زوايا في التركة، قد يشاركنا فيها اهل البيت، أو بعضهم. وقد لا يعني بعضهم الآخر هذا النوع من الممتلكات الإرثية، التي قد يكون من شأنها توريث "وجع راس"، يستغني عنه طالبو الراحة المجانية.
وبعد، حسب الرجل أنه أنتج بالثلاثة: بالصناعة وقد كان أحد روادها في غانا ونيجيريا، وفي الفكر حيث يُسجل إحصاء مكتب الدراسات العلمية الذي أسس حكايا الكثير من عناوين الكتب والدراسات التي طبعها منصور عازار على نفقته، إيماناً منه بأن لا يبقى نور تحت مكيال. وفي الصحافة له غير ذات يدٍ، من "المنبر" إلى "تحولات"… ومن ندوات كانت تُعقد في دارته – بيت الشعار – وأنني، باختصار شديد، أفيد، وقد عرفته في الوطن وعبر الحدود، أن الرجل كان يثير في عارفيه الدهشة من صلابة لا تلين، والإعجاب في عزيمة لا تعرف الهزيمة، ومن همّة تتجاوز بالصبر والحكمة كل همّ وصعوبة.
وإن أخذك أحياناً عجبٌ من تعثر مفاجئ على بعض المنعطفات، فإنك، لا شك، ذاكر، غيَر مبرّرٍ أنه لا يُحكم على أصالة الجياد والفرسان بكبوة أو أكثر… حسب منصور أنه أكمل المسيرة ثابتاً على الإيمان حتى آخر الطريق.
فإلى رفيقة دربه الطويل أم ميشال وإلى الأعزاء هادية وميشال وفادية وفداء، نسألكم ونحن نشاطركم حزناً وعزاء، أن تحرصوا ذاكرين أن بينكم وبيننا إرث الحدود الأربعة، مشرّعةً لأن يأخذ من يشاء منها ما يشاء ولا ينسينّ ذو حجى أن "خير الناس من بقي بالعدل ذكره واستمدّه من يأتي بعده".
واسلموا، على الدرب، معافين..