السيارات التي جابت شوارع المشتري
أعطت للحديد أبواباً ونوافذ
السيارات ذاتها التي دهمت أطفالاً في المدار
كان زجاجها المطحون في حادث الأمس
ينقِّبُ عن قتلاه
كأن عيونها المنزوعة
مازالت ترى الطريق إلينا
تنخِّل أحجاره ومنحنياته
السيارات الميتة..
ها هي الآن بلا قلبٍ يضنّ عليها بأغنيات الإذاعة
الإذاعة التي سمعتْها وهي تنحرف يساراً
ثم تهوي في باطن الجرف
السيارات التي أضاعت خطوط الأفعى
تهادت عند إشارة المرور الأخير
تداعت بجسمها المياس
على أحجار المنصّف
ثم مالت خائرة القوى نحو عمود المريخ البارد
***
هناك.. وعلى وقع الأغنية:
"السيارات الجميلة تذهب باكراً إلى المقبرة
أما القطارات البخارية
فحسبها بنوك العدم.."
تُنبتُ شجرة العصف المأكول
وتعرّش الشاحنات الضخمة على أكتاف سائقيها
هناك.. تبلغ الأرض دورتها
وتحكُّ السفينةُ ظهرها من ملح البحار الذائبة
متنكبةً أسطولها الورقي
مقتولةً بصدمة العبث الأبله
هناك.. تُنهي دودةُ الصدأ عملها البطيء
أن اتركوني أريكم عظام الحديد
رئتيه المتصالبتين
ألغازه المتأكسدة
وجوعه إلى أوكسجين الخراب..
أَصغِ إلى دودة الصدأ تنسج عُريها
وتدخلُ في حديقة المعادن
كملكةٍ من كربون منقّى
كسُنبلةٍ حُبلى باليورانيوم
تدخلُ دودةُ الصدأ شرنقتها الفُضلى
لتلقي السلام على ملاريا الشكل
هنا يذبل الفولاذ الشهير
فيلوي رقبته كطاووسٍ يُذبَحُ
بريشة الكتابة..
كذلك المطاط الذي كان يجاهر
بمشيئتهِ الدورانية
تتفسخ الآن أعضاؤه المرنة
عضلاتهُ المفتولة التي كان يغوي بها الإسفلت
هاهو ذا ينتمي لمقبرته الكبرى
مقبرة الأشكال الحلزونية حتى منتهاها..
جحافل الأمم المطرودة من رحمة السر الأول..
سبائك النساء المدثّرات بالبلّور الأعمى
وخوذة الدجل الأمهق
كلها تنتمي لمحياه مجدوعة الأنف
لاحظ أيضاً
رهافة الملح المتورّم من أعضائها الغرغرينا
جزالة الدمع المتحجّر في مقاعدها المنبوشة
مراياها المتكسّرة
رعونتها المذللَة
وكتلها المخصيّة الشاحبة
مزالقها الباسقة المفروطة
كرمانةٍ يدوية
لاحظ.. لاحظ.. أفواهها العطشى
أزهارها المزروعة في الإسمنت
وقلبها الممحوق المفطور على هيكلها التائه
قطعانها المنحورة بأضلاعها الناتئة
شرايينها المهتّكة
هب أنها تسمعنا الآن
واقترب من أحضانها المخنّثة
أرّخ عليها تمائمكَ بشفرة الصبي العابث
تحنن وألقِ عليها سلام الطاغية
أجل.. اقترب من شغاف أحزانها القديمة
ودوّن بملح أحشائكَ أسماء من تحبهم
هنا تمرُ بكَ قوافل الدمع
فلا تَطربْ لسعالها المخنوق
ولا تلِن لنوازعها السخيّة
أفرغ ماءكَ النحاسيّ على حراشف بدنها
هنا اكتب نماذجكَ البليغة:
"أرقامها الملصقة على مؤخرتها العامرة
صندوق رحلاتها المصدّف بجماجم الخفافيش
نمرُ الإعلانات المحنط في علبة السرعة
لجام الفهد الموثوق إلى زيت المحرك"
مقبرة السيارات جماعية لدرجة أنكَ لن تعرف حقاً
أقدامها من أيديها
لن تدركَ في هذي الجثث الحديدية
سوى رائحة الأمطار الحامضة
وبعضٍ من شوارد الذرات الشاردة
ها أيضاً أمثلةٌ على يناعتها
معاصمها المقطوعة في أحزمة أمانها
وأظافرها المقلوعة من أدمة كوابحها الخائرة
لا يمكن أن تطل من أغصانها المتشابكة
إلا على أكتافٍ تعلوها أقدام
أو خصور برؤوس لها أشكال فروجٍ منهوبة
تلكم مقبرة السيارات النهائية
متحف الحداثة المنقوعة بالكبريت
الصورة الأولى لرحم الدبابة الخرافية
الدبابة التي ابتلعت صوتنا
ثم دهستنا بجنازير قُدّت من خلايا سياراتنا
نحن المصطفّين أمام سبطانتها الإلكترونية
كي نطعمها أخشاب ضلوعنا النيئة..
نبذة عن سامر محمد اسماعيل
مواليد دمشق – 1977.
مؤلفاته:
– صدر له "متسوّل الضوء" – منشورات دمشق عاصمة للثقافة العربية.
– "أطلس لأسمائكِ الحسنى"- دار التكوين- دمشق.
– "الكتابة ضد البروشور" كتاب نقدي مسرحي- دار بدايات – جبلة – سوريا.