التأريخ ليس وجهة نظر . بل معاينة حسية وحثيثة للوقائع والاحداث ، دون إغفال التفاصيل ، مهما كانت طفيفة ، لأن بعض التفاصيل الدقيقة في هذا السياق تحمل دلالات ذات اهمية كبرى في قراءة الماضي . وربما يستفاد منها كمؤشر على مسارات المستقبل . من هنا كان عنوان النص مساهمة لتأريخ المقاومة ، وهوبالتالي لا يندرج في كونه تأريخا بالمعنى الدقيق للكلمة بقدر ما هو مشاهدات ومواكبات لمرحلة قد تكون الاهم في تاريخنا الحديث .
يصنّف مفهوم المقاومة ضمن المفاهيم ذات التعريفات المتعددة ،مثلها تماما مثل الديموقراطية والحرية وغيرها من المفاهيم التي تؤوّل حسب الجهة التي تطلقها . وهي نسبية للمجتمات من خلال العين التي تنظر اليها . فالمقاومة نفسها تعتبر قيمة انسانية لمجتمع محدد يصنفها المستعمر والمحتل والغاصب تخريبا . وتعتبر المقاومة عند البعض رد فعل غريزي على فعل عدائي ، بينما يعتبر اخرون انها فعل ارادي واعي ، ترتبط بحجم مشروع الاخر وقدرته وقوته واهدافه .
على ضوء ما تقدم ، كانت التسميات ، مقاومة وطنية لبنانية ، ومقاومة فلسطينية ومقاومة اسلامية وغيرها من التسميات . فالمقاومة بهذا المعنى تأخذ شكل المشروع المضاد وتسميته ، كما تأخذ بعين الاعتبار الشريحة المجتمعية التي تراها مناسبة وقادرة على تحقيق اهدافها .
المقاومة إذن ثقافة متراكمة ، تنبع من داخل الذات المجتمعية ،وتفعل بالافراد من خلال البيئة التربوية للاسرة ، واستطرادا من خلال المدرسة ومراقي الحياة اليومية . وعلى هذا الاساس لا تكون المقاومة قرارا محصورا بالزمان والمكان ، بقدر ما هي مناخ يندرج في اطار الوعي بالمخاطر والنتائج المترتبة عليه .
وتأسيسا على ما تقدم ، لم يكن الاجتياح " الاسرائيلي " للبنان عام 1982 وليد اللحظة بقدر ما كان تخطيطا وتنفيذا لمشروع وضع اساسه في مؤتمر بال الصهيوني 1891 وتطويرا للهجمة الصهيونية الاستدمارية لبلادنا ، التي إبتدأ تنفيذها فعليا بالهجرة اليهودية الاولى على فلسطين بالتنسيق والتعاون مع المستعمر الانكليزي . وبالتالي لم تكن المقاومة الوطنية هي ردة فعل ظرفية وغريزية على السلوك " الاسرائيلي " المباشر . فالمقاومة هي من جهة نتاج وعي وادراك لابعاد المشروع المستهدف اقتلاعنا ، وهي من جهة اخرى استكمالا وتراكما لثورات ومقاومات بدأت في ثلاثينات القرن الماضي ، مهما اختلفت التسميات وتعددت الاهداف .
حذر انطون سعادة منذ عام 1925 من خطورة الصهيونية بانها حركة منظمة ودقيقة تستهدف اقامة دولتها على ارضنا من الفرات الى النيل ، ومن غير الممكن الانتصار عليها الا بحركة منظمة ودقيقة معاكسة . ولتحقيق هذه الحركة عمل على انشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي ليكون الخميرة الفكرية والميدانية لمقارعة الصهيونية . مطلقا عدة مواقف في هذا الخصوص . اهمها على الاطلاق ان المسألة الفلسطينية هي مسألة لبنانية بالصميم ،كما هي مسألة شامية بالصميم كما هي عراقية بالصميم . اي انها مسألة قومية عامة لا يمكن ترك شأن معالجتها فقط في فلسطين ، خاصة وانها مدعومة من اعتى قوى الاستعمار . شارك الحزب السوري القومي الاجتماعي في القتال عام 1932 ، كما ساهم في حرب 1947 رغم ارتفاع أصوات العملاء والردة امثال رياض الصلح " لا سلاح للقوميين " . وانخرط عناصر الحزب فيما بعد بالثورة الفلسطينية منذ بداياتها وقدموا الشهداء ، ومنهم فؤاد شمالي وكمال خير بك وكثيرون غيرهم ، كما وصل بعض من اعضائه الى مراكز عليا في المنظمات الفلسطينية . ولم يزل بعضهم يتبوأ مراكز قيادية في هذا الصراع .
منذ اللحظة الاولى للاجتياح " الاسرائيلي " ادرك الحزب السوري القومي الاجتماعي ابعاد هذا الاجتياح واهدافه البعيدة .فالحرب بالنسبة للحزب هي حرب وجود وليست حرب حدود ، وبأن " اسرائيل " هي استعمار استيطاني حدودها من الفرات الى النيل ، مدعومة من القوى الغربية الكبرى . استنادا لوعي المخاطر وحجم التهديد اجتمعت قيادة الحزب في منتصف حزيران عام 1982 واتخذت عدة قرارات مصيرية . منها اعلان النفير العام في صفوف الحزب ، نقل بعض المراكز الادارية الى مناطق آمنة ، انتقال جزء من القيادة السياسية الى خارج الطوق لبيروت ، نقل بعض القيادات العسكرية والمخازن ومراكز التدريب والمراكز اللوجستية الى مناطق قادرة على الحركة العسكرية بسهولة . تعيين ضباط اتصال مع المجموعات العاملة خلف خطوط العدو . تخزين اجزاء من الاسلحة الخفيفة وذخائرها في المناطق المحتلة ، وانتظار التعليمات اللاحقة . انشاء غرفتي عمليات واحدة في ضهور الشوير تهتم في مهمات الجبل وبيروت ، وغرفة اخرى في منطقة شتورة تهتم في المهام المتعلقة بالجنوب والبقاع الغربي وراشيا . كما قسمت مناطق الاحتلال الى قطاعات صغيرة عيّن عليها ضباط ارتباط مسؤولين عن تنفيذ اوامر العمليات . عادت القيادة الحزبية واجتمعت في اوائل تموز بمن حضر ، حيث اعطيت حرية العمل للمجموعات الصغيرة واختيار الاهداف المناسبة ، وتحديد نقاط التألب لكل مجموعة اذا ما ازداد الضغط .وبنفس الوقت تحرير جهاز الامن وعناصره التنفيذية من الاعمال الروتينية اليومية وتحويل جهده الرئيس نحو العدو "الاسرائيلي " وادواته المحليين وضباط ارتباطه خاصة تلك الموجودة في شواطيء كسروان حيث تتواجد غرفة العمليات المولجة بالتنسيق بين القوات اللبنانية والعدو، ومراقبة الابحار من المرافيء غير الشرعية التي يستخدمها ضباط العدو وقياداته
في هذه الفترة كانت معظم قيادة الحزب لم تزل في بيروت بشكل حذر واكثر تسترا . للمناسبة في هذه الفترة كانت معظم الطوائف اللبنانية وادواتها المتمثلة باحزابها لم تأخذ خيار فعليا وواضحا تجاه العدو ، وبقيت على هذه الحالة فترة زمنية لا بأس بها باستثناء حركة امل وبعض العناصر الناصرية التي كانت ما تزال تقاتل الى جانب الثورة الفلسطينية في خلدة والمتحف ورأس النبع وغيرها .طبعا على غير هذا السلوك نهجت الاحزاب العلمانية منهج القتال وبدأت بترتيب وضعها تمهيدا للمرحلة اللاحقة
اخذت القيادة الميدانية قرارا ببدء العمليات خارج بيروت ، وارسلت مجموعة لقصف تجمعات العدو من منطقة حاصبيا بصواريخ غراد . نفذت العملية في 20 تموز ، واطلق عليها تسمية "اسقاط سلامة الجليل " . فكانت هذه العملية باكورة العمليات حسب الترتيبات الجديدة التي وضعت لمقاومة العدو . بدات تورد ، منذ مطلع تموز، نتائج الاستطلاع والاستعلام عن توضع قوى العدو وحجمها ومسالك عبورها . وبدأت بنفس الوقت القيادت الميدانية تعمل على الاولويات الواجب القيام بها مع الحفاظ على سلامة الاهالي وأمن المجموعات المتروكة خلف خطوط العدو . في 14 ايلول نفذت عملية استهداف بشير الجميل الذي انتخب رئيسا للجمهورية بدعم " اسرائيلي " من قبل عناصر جهاز الامن بالحزب . هذا ما استدعى حذرا على حركة القيادة في بيروت . وهو السبب الذي منع رئيس الحزب انعام رعد من حضور الاجتماع المقرر مع امين عام الحزب الشيوعي جورج حاوي ، وامين عام منظمة العمل محسن ابراهيم . هذا السبب بالاضافة الى ان الحزب بارك هذه الخطوة المتقدمة رغم انه بدأ فعليا بالعمليات على الارض . وتوالت العمليات في الميدان ، لعل اهمها بعد هذا التاريخ ، عملية الويمبي التي نفذها الشهيد خالد علوان . وعملية استهداف الباص العسكري في عاليه بقيادة الشهيد عاطف الدنف "ثائر " ، وعملية كاليري سمعان حيث دمرت رتلا لجيش العدو ، وعمليات القصف المتكررة لتلة " حنينة " بالحدث وغيرها . بحيث بلغت العمليات حتى نهاية العام 1983 التي قام بها الحزب القومي ما مجموعه 432 عملية بالاضافة الى عمليات القوى الحليفة في الجبهة .
سنكتفي بهذا القدر من العرض لنقوم في مرحلة ثانية ، بدراسة الاسباب التي دفعت القيادة الحزبية للاعلان عن العمليات وخاصة تلك الاستشهادية .