أحد عمالقة الشعر العربي الراهنين، طبع شعره في قلوب عارفيه سمة انتماء وبوصلة جنوبية.
ينحت لغته كأيقونة ما إن تجلو معالمها بين يديه ولسانه حتى تنطق "هل تراني حورية قصيدتك؟".
بقي كما في كل مسيرته الشعرية والثقافية فاصلة، ليس فقط بين امرأتين أو مرحلتين، بل بين عهدين، عهد الشعر الكئيب المتردد وعهد الشعر الصديق المتلألئ بذاته الفخور بهويته.
محمد زينو شومان، زار مكتب "تحولات" محاوراً، وكان معه هذا الحوار في القصيدة والشعر والهوية والجنوب والانتماء.. هنا نصه.
كيف يقدّم محمد زينو شومان نفسه لقرّائه؟
محمد زينو شومان هو نفسه الذي يعرفه القارئ من خلال هويته الشعرية. ليس هناك من محمد داخل القصيدة وآخر في الخارج. إن الساكن في جبة شعري هو هو ذلك القادم من بيئته الجنوبية الكادحة ومن أقاصي الظروف الاجتماعية والمادية الصَّعبة إلى بلاد الشِّعر ظنّاً منه أنَّها الملاذ الأخير.
نعم، قبل أن تجيئني القصيدة كنت حائراً في أوج تشتّتي وضياعي أبحث عن موطئ قدم في عالم الكتابة، وعن موطئ أمل في بيئة محاصرة أو شبه محاصرة تكاد تخرج على سلطان اليأس الإجتماعي والسياسي والفكري، أو هي على وشك الانفجار الكبير. فإذا بشيطان الشِّعر يدق بابي بقوة ويدعوني إلى المغامرة.
وهكذا بدأت أكتشف العالم من حولي على ضوء انتمائي الإجتماعي والمعرفي والثقافي. وهكذا بدأت مسيرتي الشِّعرية من تخوم الواقع والبيئة التي ولدت فيها. لكن حين أعرّف بنفسي انطلاقاً من هذا الانتماء، فلا بدّ أن أوضِّح في الوقت عينه أنّ الجغرافيا هي أيضاً علاقة وجدانية ووجودية، وعلاقة اجتماعية وعلاقة ثقافية لأن الشِّعر لا ينفصل عن البيئة، ولا ينفصل عن المكان الذي ينطلق منه، وخصوصاً أن الشِّعر هو الذي حدّد علاقتي بالعالم وبالوجود، وحدّد مصيري ومنقلبي الأخير على هذه الأرض.
_ بداياتك الشِّعرية، بمن تأثرت، وما هي أهمّ المؤثرات في تكوين اتجاهاتك الأدبية؟
· أبدأ أولاً بالبيئة التي احتضنتني سليل أسرة فلاحية تعتمد على قوة الساعد والصبر والقدرة على تحمّل الحياة القاسية، وأنا في ذروة الحماسة والطموح والتمرّد والرفض أدبّ على عصا التجريب والمغامرة العشرية واللغوية.
على أنّ هذه العلاقة الموروثة بيني وبين الأرض ليست علاقة أفقية تعتمد على الحرث والزرع وتحصيل الرزق فحسب، بل هي عمودية بمعنى أن هناك تفاعلاً بين الإنسان والأرض.
أضف إلى هذه العوامل الاجتماعية والفكرية والسياسية التي ساعدت على تحديد خياري الأدبي والشِّعري، رابطاً عضوياً وسياسياً وقومياً وإنسانياً آخر يتمثّل بالعلاقة الخاصة التاريخيّة والخغرافية بين الجنوب اللبناني وفلسطين، التي كانت جسر عبور أيضاً إلى لغتي الشِّعرية. وهذا التأثر كان طبيعياً جداً بالنسبة إلى جيلنا الغاضب الذي كان أدنى طموحاته تحرير فلسطين ومقارعة الاستعمار في عقر داره وتحرير الإنسان العربي من أنظمته الاستبدادية الفاسدة.
وإلى هذه المؤثرات البعيدة ثمّة مصادر ثقافية وأدبية وتاريخية عربية وغربية مختلفة، كان لها دور ما في تعميق تجربتي الإبداعية وانفتاحها على مداها الإنساني الأوسع. وهي نتاج قراءات متنوعة جداً ليس الآن من مجال لتعقّب آبارها وروافدها هنا أو هناك.
_كيف تنظر إلى تجربتك الشِّعرية وما هي المراحل التي قطعتها؟
شهدت قصيدتي تطورات متلاحقة وحاسمة على صعيد الأسلوب والمضمون معاً. في البداية سيطر المنحى الوطني الحماسي الوجداني عليها، وذلك عائد إلى طبيعة البيئة التي أنتمي إليها وإلى طبيعة المرحلة السائدة آنذاك أي مرحلة السبعينيات، وخصوصاً أنّ جيلنا قد تأثّر جداً بنكبة فلسطين فبعد هذه النكبة، نكبة 67 أي الهزة التي ضربت العالم العربي، كان لا بدّ للقصيدة أن تتورَّط أكثر فأكثر في تقصي واقع الهزيمة، حيث كانت مشحونة بالمشاعر الوطنية والقومية ولا سيّما أن قضية فلسطين كانت تمثل محور الوجود العربي. وقد شملت هذه المرحلة مجموعاتي الثلاث الأولى، ولكن بعد ذلك أي منذ التسعينيات وما بعدها طرأ تحول أساسي على قصيدتي وخصوصاً في مجموعة "طقوس الرغبة"، إذ بدأت أجرّب أشكالاً أخرى للتعبير عن اللحظة الشِّعرية.
أما في المرحلة الأخيرة، فقد اتخذ شعري منعطفاً أساسياً باتجاهه نحو القضايا الأكثر علاقة بالوجود وبالمصير، بمعنى الانتقال إلى الداخل، الحفر في طبقات النفس الداخلية، ومن هنا أخذت قصيدتي منحى التساؤل والتأمل والبحث، إذا كثرت الأسئلة التي تتناول علاقة الإنسان بمسائل ذات بُعد ميتافيزيقي أحياناً كالموت، أو بمسائل متعلّقة بالحياة، التي أعيشها، أو يعيشها الإنسان المعاصر، كالقلق والندم والضجر، وسوى ذلك من الموضوعات التي تهتم أكثر بمصير الإنسان في عالم مضطرب شديد التوتر وخصوصاً بعد ازدياد نزعات العنف والميول الإستئصالية التي تهدّد الوجود البشري برمّته على هذه الأرض.
هل تعتبر أنّكم استطعتم تكوين عالمكم الشِّعري؟
يمكن القول إنّ مجموعاتي الشِّعرية بل تجربتي الشِّعرية عموماً، التي فاق عمرها تقريباً 40 سنة هي تجربة شاقة وعصيبة وقد مرّت بتحولات وبأطوار نحت أكثر صوب التأمَل والاستفسار والبحث واستقراء المصير الإنساني في عالم متذبذب وعالم متقلّب، وعالم تنتابه نزعات التعصّب والعنف والقتل وإلغاء الآخر، لذلك كانت القصيدة هي الملجأ، وهي الجواب عن كل هذه التساؤلات التي تتعلق بطبيعة الحياة وبالمصير. وفي الوقت نفسه، استطاعت أن ترسم ملامح تفكيري وملامح تجربتي في الحياة، والشِّعر والكتابة من خلال تحديد ملامح التعبير عن هذه العلاقة بالمكان والعصر والزمن والإنسان المعاصر. ولا شك أن ذلك هو المعبر إلى عالمي الشعري الذي تتساءل عنه.
أصدرت قبل فترة كتابك "فاصلة بين امرأتين"، عرِّفنا إلى الديوان؟
"فاصلة بين امرأتين" هي المجموعة الأخيرة التي تحمل الرقم 13 في سلسلة نتاجي الشِّعري. هي قصيدة توَغُّل، أو قصائد هذه المجموعة توغل أكثر في أعماق الذات وتطرق أبواب القضايا الأكثر ارتباطاً بوجود الإنسان، لذلك فهي تجيب عن العلاقة القلقة بالمكان وبالعصر، وتتجه أكثر إلى الإجابة عن الأسئلة التي يولدها هذا العصر، وخصوصاً أسئلة القلق، أسئلة مصير الإنسان، إلى أين ذاهب؟ إلى أين متّجه؟ ما مصيره على هذه الأرض؟، فضلاً عن موضوعات ذات بُعد وجودي وهذا المنحى هو خلاصة تجربة طويلة ومعاناة وكبد واختبارات لغوية وباطنية. وبطبيعة الحال كان لا بدّ أن تتطوّر القصيدة بسبب أو نتيجة اتساع الأفق الثقافي. اتساع التجربة وامتدادها والتأمل في طبيعة هذه اللحظة الإنسانية المعقّدة والغامضة التي هي نتاج طفرة تكنولوجية عالمية قرّبت المسافات على المستوى الجغرافي وألغت الحدود والحواجز، ولكنَّها في المقابل، ربّما ساهمت في إبعاد الإنسان عن ذاته في بعض الأحيان، نظراً إلى استيقاظ نزعات متطرّفة جداً تناقض الغاية والهدف والأسباب التي أنتجت التكنولوجيا المعاصرة. ففي حين كنا ننتظر من التطور التكنولوجي الهائل الذي ألغى المسافات أن يلغي أيضاً أو أن ينتصر على العقائد الشمولية التي تقصي الآخر وتسعى إلى استئصاله وإلى نبذه وإلى التمييز الذي يتخذ طابعاً عنصرياً، ها نحن نرى بالعكس بعض هذه النزعات التي تناقض المنطلق والغاية اللذين تقف وراءهما التكنولوجيا المعاصرة.
ما هي المؤثّرات الفاعلة في ولادة القصيدة لدى الشاعر؟
ولادة القصيدة لا تتمّ دفعة واحدة، بل تسبقها مرحلة طويلة وطويلة جداً نسمّيها مرحلة المخاض، وهي مرحلة من المكابدة المضنية والشاقة، مرحلة تختصر كثيراً من المؤثرات الخارجية والداخلية، وتختصر مرحلة من التأمل الشديد، وتختصر حالات من التأمّل في ظواهر هذا الكون، كما في ظواهر الاجتماع وفي الحياة المحيطة بالشاعر، التي تضغط عليه باستمرار، وخصوصاً هذه اللحظة المثقلة بالقلق والخوف على المصير، والخوف على الوجود، والخوف على الإنسان، والخوف على الوطن. والخوف أخيراً هو ظاهرة الوجود نفسها في هذا الكون المهدّد بأبشع عواقب الاختزال والتطرّف والتعصّب وإنكار الآخر، وهي من أكثر الظواهر الخطرة التي يواجهها الإنسان على وجه الأرض.
حدّثنا عن القصيدة، كيف تجيء إلى محمد زينو شومان؟
لا شك في أنّ لكلّ قصيدة أحياناً ظروفها التي تساعد على اختمارها وعلى تكوّنها والتي تحتاج إلى شروط خاصة ولعلّ أهمّها على الإطلاق هو شرط العزلة، لأنّ الضجيج الخارجي والضوضاء عاملان سلبيّان ومنفّران للحالة الشِّعرية، فالقصيدة أشبه بالطائر الذي يحتاج إلى الفضاء الحر لكي ينطلق ويحلّق ويعيش حالته ككائن والقصيدة أيضاً كائن، صحيح أنها كائن فني فكري ثقافي تقني، ولكنّها كائن يتنفّس ويعيش حالة الوجود التي يعشها الشاعر نفسه.
هل صحيح بأن الزَّمن هو زمن الرواية، ولا سيّما الخيالية، وأن زمن الشِّعر قد انتهى؟
لنكن صريحين إنّ الشِّعر الآن يعاني نوعاً من الانحسار، وخصوصاً إذا علمنا أنّ الشِّعر كان يسمّى ديوان العرب. بهذا المعنى، نعم لقد انحسر، وخسر قارئه العربي، حيث لم يعد هو الحاجة الوحيدة للإنسان في هذا العصر ذي الطابع المادّي الصرف.
والرواية، نعم تقدّمت وذلك لأسباب أيضاً، ربّما لأنّها تلامس أكثر حاجة القارئ العربي، ولأنّها تقدّم له زاداً أكثر ارتباطاً بحياته اليومية ولأنّ الشِّعر بطبيعته نخبوي أو له قارئ نخبوي خاص لذلك بدأ القارئ يبتعد عنه تدريجاً ولا سيّما بعدما اتّخذ مسارب واتجاهات جديدة تتطلّب من القارئ جهداً أكثر كي يستوعبه ويتذوّقه، وخصوصاً مع اتجاه القصيدة إلى استخدام تقنيات حديثة وصوراً شعرية بعيدة عن متناول القارئ الذي يبتغي المأخذ السهل الذي يتوافر في الرواية أكثر من القصيدة.
ما رأي الشاعر بالنَّقد عموماً ونقد الشِّعر خصوصاً؟
أنت الآن بهذا السؤال تضع إصبعك في الجرح تماماً فالنقد غائب عن الساحة العربية، فما نقرأه الآن هو مقاربات سريعة أقرب إلى الانطباع الشخصي منها إلى النقد الذي يتطلّب المنهجيّات الضرورية وللأسف، ليس هنالك من نقد جاد لذلك نجد الشعر يسبح في فلك خاص خلافاً لمرحلة الخمسينيات التي قيض للشعر الحديث آنذاك نقاد جادون واكبوا القصيدة الحديثة وواكبوا تجربة رواد الحداثة خطوة خطوة، بحيث استطاعوا أن يساعدوا الشعراء الحداثيين على تبيان السلبيات والشوائب واستكشاف الطريق وفتح آفاق جديدة.
هذه المرحلة من النقد التي واكبت مرحلة الخمسينيات يفتقدها الشِّعر في المرحلة الحالية، لذلك ليس هناك من نقد ولا نقّاد ولا من رؤية جديدة أو من يواكب مسيرة القصيدة الحديثة، وقد بلغت من العمر عتياً، والأهم من ذلك كله، أنها تجاوزت قصيدة المؤسسين والرواد التي اصطدمت بحائط اللغة أو أصيبت بانسداد الأفق والرؤية.
لو عدنا بك إلى فتوّتك هل كنت ستختار أن تكون شاعراً؟ وماذا وجدت في الشعر كي تكون مسكوناً به إلى هذه الدرجة؟
في الواقع، هذه الأسئلة الآن هي افتراض فلا تمكن الإجابة عنها إلاّ في حينها… حيث لكل سؤال ظرفه الخاص به. على أنّ الظروف التي ساعدت على تفجّر مواردي الشِّعرية ظروف مختلفة المصادر والمنطلقات بعضها اجتماعي وبعضها الآخر مادّي، وبعضها الثالث فكريّ، وبعضها له علاقة بالبيئة مع الإشارة إلى أنّني ولدت في بيئة بعيدة كل البعد عن الشِّعر وعن الأدب بشكل عام وحتّى عن الثقافة، بيئة لا تتوفر فيها حتّى شروط القراءة، ولكن ثمّة أسباب واستعدادات خفيّة لا يستطيع الإنسان أن يتحكّم فيها ولا أدري من أيّ جهةٍ أتت، وكيف. وما دفعني في طريق الشِّعر وتحديداً في هذا الخيار ظروف لا أستطيع أن أحدّدها بشكل دقيق سوى أنّني وجدت في داخلي حاجة ملحّة إلى التعبير فاكتشفت أنّ القصيدة هي الأكثر استجابة لها.
وعلى الرغم من أنّني لم أكن قادراً على تحديد المسار الذي تنطلق فيه هذه المشاعر، إلاّ أنّني الآن أكثر إصراراً ورغبة في تجديد المغامرة وارتكاب خطيئة الشِّعر حتى ولو كانت هي الإثم بعينه، فالشعر هو الخيار الأوحد لي لقبول شرط الحياة في هذا الوجود المستحيل من دونه. إنّه الترياق يا صاحبي.
هل تعتبر تجربتك الشِّعرية مميّزة أم تقليديّة؟
هذا السؤال يفترض أن يطرح على ناقد أو مهتم أو متابع لحركة الشِّعر العربي، ولكن سأغامر، وأقول من غير تحفّظ أو مواربة إنّ تجربتي الشِّعرية تتمتَّع بخصوصيَّة ما، ولا سيَّما من حيث التقنيَّات ومن حيث الخروج على الموضوعات التقليدية السائدة المطروحة المباشرة التي فقدت صلاحيتها، بل أقول أكثر من ذلك إنّ من أبرز الظواهر في شعري حداثة الصور والقاموس الشِّعري الخاص.
محمد زينو شومان: الكون مهدّد بأبشع عواقب التطرّف والتعصّب
109
المقالة السابقة