وأخيراً ها هو القومي العتيق متّى أسعد يصدر مذكراته "الماضي المجهول وأيام لا تُنسى"، فيفلح في تقديم فقرة تاريخية مهمة في حياة الشام ولبنان فيسرد الأحداث ويتابعها بموضوعية وصدق وعفوية.
رقيب في الجيش السوري وخبير في شؤون اللاسلكي، ومسؤول عن غرفة الإشارة في الأركان العامة، أطلع بحكم وظيفته ومتابعته للأحداث على وقائع خطيرة وأسرار هامة وما تعلق به شخصياً من هذه الوقائع وما عاناه مقابل وفائه لعقيدته والتزامه بقسمه وصدقه مع نفسه ومع قيمه وأخلاقه، وصبره الجبّار على التنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي. متّى أسعد، تابع تعلمه في السجن في المدرسة التي أقامها بعض رفقائه المتقدمين في العلم وبينهم الشاعر "أدونيس".
في تقديمه المذكرات يرى رفيقه أنيس أبو رافع أن صاحبها يؤرّخ حياته الحزبية من خلال الأحداث التي رافقت ضياع فلسطين ومقتل العقيد عدنان المالكي في دمشق، وما رافقها من مؤامرات على الحزب السوري القومي الاجتماعي.
في البدء يخاطب متّى أسعد زعيمه:
ما زلت أذكر عندما قدمني ألبير جزدان إليكم وسألتموني بعض الأسئلة وأعطيتم الموافقة بأداء قسم الانتماء الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. أخذني ألبير وانتحى بي في دارٍ كنا فيها وراح يتلو القسم وأنا أردد وراءه الى أن وصلنا الى "وأؤيد زعيمه وسلطته"، وقد نطقت هذه العبارة بصوتٍ عال، ما جعل حضرة الزعيم ينتبه الى أدائي القسم، فرفع رأسه إلينا وترك القلم ووقف وأهداني ابتسامة ما زالت تحتل عقلي وقلبي وكياني. وهذه الابتسامة هي التي أمدّتني بالقوة والصمود أمام مراحل صعبة مررنا والحزب فيها، وهي التي أنقذت رأسي ورؤوس كل الذين كانت ستطالهم اعترافاتي في المحكمة العسكرية أثناء محاكمة قيادة الحزب بمقتل العقيد عدنان المالكي، والآن أؤكد يا معلمي أن تلك الابتسامة لا تزال تحتل وجودي.
أعود الآن، الى البند الثاني من القسم الذي ينص على: "وأن اتخذ مبادئه القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي"، فها أنا الآن مع أولادي وأحفادي نقف باستعداد ويدنا اليمنى مرفوعة زاوية قائمة هاتفين، وسيظل هتافنا يدوي الى الأبد: "لتحي سورية وليحي سعادة".
متّى أسعد، مواليد 1928 من بلدة حب نمرة قضاء تلكلخ محافظة حمص، وهي أكبر بلدات وادي النضارة بعد بلدة الحواش التي يبلغ عدد سكانها أكثر من عشرة آلاف نسمة، ومرمريتا التي ينوف عدد سكانها على الثمانية آلاف نسمة، أما بلدته المذكورة فلا يتجاوز عدد سكانها السبعة آلاف نسمة. وقد سأله مطران الطائفة الآشورية الأرثوذكسية في لبنان، المثلث الرحمات المطران نرساي دي باز عن اسم قريته فقال: "حب نمرة"، سأل "هل يوجد حولها غابات؟" قلت: "نعم"، فضحك وقال: "هذه التسمية آرامية آشورية واللفظة الحقيقية لهذه القرية هي (هبَّة نمرة) أي غابة النمر باللغة الآشورية، ولا معنى لهذه التسمية غير ذلك".
يطلق على سكان هذا الوادي أهل الحصن، وقد أوضح العلاّمة المتروبوليت جورج خضر مطران جبيل والبترون وما يليهما من جبل لبنان، بأن هذه التسمية أتت من الرصافة، وهي مدينة مسورة بحصن منيع في وسط الشام جنوب غرب الرقّة على نهر الفرات وتبعد عنها حوالي الثلاثين كيلومتراً، وعندما احتل هشام بن عبد الملك هذه المدينة هُجّر أهلها منها وأصبحت تعرف برصافة هشام، ولا تزال آثار سورها باقية حتى اليوم.
أما سكان هذه المدينة، فقد اتجهوا غرباً وظلوا يسيرون حتى وصلوا الى هذه المنطقة الغنية بالماء والخضراء، فاستوطنوها وما زالوا حتى تاريخه ينعمون بجمالها، وقد أصبح عدد قراهم يزيد على الثلاثين قرية.
يروي متّى أسعد تاريخه الشخصي من خلال سرده قصّة الحزب القومي كما عرفها عن كثب، وهي قصّة غنيّة بتفاصيلها كما تاريخ صاحبها وتطوّره.